يقول الله عز وجل في سورةالبقرة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ، فَقَالَ: أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا، إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ: يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ، فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون ...
صدق اللهالعظيم
%% القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ.
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف قالت الـملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ولـم يكن آدم بعد مخـلوقا ولا ذرّيته, فـيعلـموا ما يفعلون عيانا؟ أعلـمت الغيب فقالت ذلك, أم قالت ما قالت من ذلك ظنّا, فذلك شهادة منها بـالظن وقول بـما لا تعلـم, وذلك لـيس من صفتها, فما وجه قـيـلها ذلك لربها؟ قـيـل: قد قالت العلـماء من أهل التأويـل فـي ذلك أقوالا ً%%(6)
(6) جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه.. قدم له الشيخ خليل الميس.. ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.. 1415 ه / 1995 م
%%قَدْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ الْمَلَائِكَةلَا تَعْلَم إِلَّا مَا أُعْلِمَتْ وَلَا تَسْبِق بِالْقَوْلِ، وَذَلِكَ عَامّ فِيجَمِيع الْمَلَائِكَة، لِأَنَّ قَوْله: "لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ" خَرَجَعَلَى جِهَة الْمَدْح لَهُمْ، فَكَيْف قَالُوا: "أَتَجْعَلُ فِيهَامَنْ يُفْسِد فِيهَا؟" فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا لَفْظخَلِيفَةفَهِمُوا أَنَّ فِي بَنِي آدَم مَنْيُفْسِد، إِذْالْخَلِيفَةالْمَقْصُود مِنْهُالْإِصْلَاح وَتَرْك الْفَسَاد، لَكِنْ عَمَّمُوا الْحُكْم عَلَى الْجَمِيعبِالْمَعْصِيَةِ، فَبَيَّنَ الرَّبّ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُفْسِد وَمَنْلَا يُفْسِد، فَقَالَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ: "إِنِّي أَعْلَم"، وَحَقَّقَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ مَكْنُونعِلْمه.
وَقِيلَ: إِنَّالْمَلَائِكَة قَدْ رَأَتْ وَعَلِمَتْ مَا كَانَ مِنْ إِفْسَادالْجِنّوَسَفْكهمْ الدِّمَاء، وَذَلِكَ لِأَنَّالْأَرْض كَانَ فِيهَاالْجِنّقَبْل خَلْقآدَم، فَأَفْسَدُوا وَسَفَكُوا الدِّمَاء، فَبَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْإِبْلِيسفِي جُنْد مِنْ الْمَلَائِكَة، فَقَتَلَهُمْوَأَلْحَقَهُمْ بِالْبِحَارِ وَرُءُوس الْجِبَال، فَمِنْ حِينَئِذٍ دَخَلَتْهُالْعِزَّة، فَجَاءَ قَوْلهمْ: "أَتَجْعَلُ فِيهَا" عَلَى جِهَة الِاسْتِفْهَامالْمَحْض: هَلْ هَذَاالْخَلِيفَةعَلَى طَرِيقَةمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْجِنّ أَمْ لَا؟ قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب، وَقَالَاِبْن زَيْد وَغَيْره: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْخَلِيفَةسَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّته قَوْم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَالدِّمَاء، فَقَالُوا لِذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَة، إِمَّا عَلَى طَرِيقالتَّعَجُّب مِنْ اِسْتِخْلَاف اللَّه مَنْ يَعْصِيه أَوْ مِنْ عِصْيَان اللَّهمَنْ يَسْتَخْلِفهُ فِي أَرْضه وَيُنْعِم عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقالِاسْتِعْظَام وَالْإِكْبَار لِلْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: الِاسْتِخْلَافوَالْعِصْيَان. وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ اللَّه أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَفِي الْأَرْض خَلْقًا أَفْسَدُوا وَسَفَكُوا الدِّمَاء، فَسَأَلُوا حِين قَالَتَعَالَى: "إِنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة" أَهُوَالَّذِي أَعْلَمَهُمْ أَمْ غَيْره؟ وَهَذَا قَوْل حَسَن، رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاققَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله: "أَتَجْعَلُفِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا" قَالَ: كَانَ اللَّه أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُإِذَا كَانَ فِي الْأَرْض خَلْق أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاء،فَلِذَلِكَ قَالُوا: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا"، وَفِي الْكَلَامحَذْف عَلَى مَذْهَبه، وَالْمَعْنَى إِنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة يَفْعَلكَذَا وَيَفْعَل كَذَا، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا الَّذِي أَعْلَمْتنَاهُ أَمْغَيْره؟ وَالْقَوْل الْأَوَّل أَيْضًا حَسَن جِدًّا، لِأَنَّ فِيهِ اِسْتِخْرَاجالْعِلْم وَاسْتِنْبَاطه مِنْ مُقْتَضَى الْأَلْفَاظ، وَذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّامِنْ الْعُلَمَاء، وَمَا بَيْن الْقَوْلَيْنِ حَسَن،فَتَأَمَّلْهُ.وَقَدْقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: (كَيْف تَرَكْتُمْعِبَادِي) - عَلَى مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره - إِنَّمَا هُوَ عَلَىجِهَة التَّوْبِيخ لِمَنْ قَالَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا؟ وَإِظْهَار لِمَا سَبَقَ فِيمَعْلُومه إِذْ قَالَ لَهُمْ: "إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ". قَوْله: "مَنْيُفْسِد فِيهَا" "مَنْ" فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْمَفْعُول بِتَجْعَل وَالْمَفْعُول الثَّانِي يَقُوم مَقَامه "فِيهَا"."يُفْسِد" عَلَى اللَّفْظ، وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن يُفْسِدُونَ عَلَى الْمَعْنَى، وَفِي التَّنْزِيل: " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِع إِلَيْك" [الْأَنْعَام: 25] عَلَىاللَّفْظ، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ" عَلَىالْمَعْنَى.وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ:عَطْف عَلَيْهِ، وَيَجُوزفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَرَوَى أُسَيْد عَنْ الْأَعْرَج أَنَّهُ قَرَأَ: "وَيَسْفِكالدِّمَاء" بِالنَّصْبِ، يَجْعَلهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِالْوَاوِ كَمَا قَالَ: أَلَمْ أَكُ جَاركُمْ وَتَكُون بَيْنِي وَبَيْنكُمْ الْمَوَدَّة وَالْإِخَاءوَالسَّفْك: الصَّبّ. سَفَكْت الدَّم أَسْفِكهُ سَفْكًا: صَبَبْته، وَكَذَلِكَالدَّمْع، حَكَاهُ اِبْن فَارِس وَالْجَوْهَرِيّ. وَالسَّفَّاك: السَّفَّاح، وَهُوَالْقَادِر عَلَى الْكَلَام. قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَلَا يُسْتَعْمَل السَّفْكإِلَّا فِي الدَّم , وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي نَثْر الْكَلَام يُقَال سَفَكَالْكَلَام إِذَا نَثَرَهُ. وَوَاحِد الدِّمَاء دَم، مَحْذُوف اللَّام. وَقِيلَ:أَصْله دَمِي. وَقِيلَ دَمِي، وَلَا يَكُون اِسْم عَلَى حَرْفَيْنِ إِلَّا وَقَدْحُذِفَ مِنْهُ، وَالْمَحْذُوف مِنْهُ يَاء وَقَدْ نُطِقَ بِهِ عَلَى الْأَصْل،قَالَ الشَّاعِر: فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَر ذُبِحْنَا جَرَى الدَّميَانِبِالْخَبَرِ الْيَقِين.
وَنَحْنُ نُسَبِّحُبِحَمْدِكَ: أَيْ نُنَزِّهك عَمَّا لَايَلِيق بِصِفَاتِك. وَالتَّسْبِيح فِي كَلَامهمْ التَّنْزِيه مِنْ السُّوء عَلَىوَجْه التَّعْظِيم، وَمِنْهُ قَوْل أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة: أَقُول لَمَّاجَاءَنِي فَخْره سُبْحَان مِنْ عَلْقَمَة الْفَاخِر أَيْ بَرَاءَة مِنْ عَلْقَمَة.وَرَوَى طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه قَالَ: سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهعَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير سُبْحَان اللَّه فَقَالَ: ( هُوَ تَنْزِيهاللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلّ سُوء ). وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ السَّبْح وَهُوَالْجَرْي وَالذَّهَاب، قَالَ اللَّه تَعَالَى: "إِنَّ لَك فِي النَّهَار سَبْحًاطَوِيلًا" [ الْمُزَّمِّل : 7 ] فَالْمُسَبِّح جَارٍ فِي تَنْزِيه اللَّه تَعَالَىوَتَبْرِئَته مِنْ السُّوء. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي " نَحْنُ "، وَلَايَجُوز إِدْغَام النُّون فِي النُّون لِئَلَّا يَلْتَقِي سَاكِنَانِ. مَسْأَلَة:وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَسْبِيح الْمَلَائِكَة، فَقَالَ اِبْنمَسْعُود وَابْن عَبَّاس: تَسْبِيحهمْ صَلَاتهمْ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّه تَعَالَى: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ" [الصَّافَّات : 143 ] أَيْالْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: تَسْبِيحهمْ رَفْع الصَّوْت بِالذِّكْر، قَالَهُالْمُفَضَّل، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ جَرِير: قَبَّحَ الْإِلَه وُجُوه تَغْلِبكُلَّمَا سَبَّحَ الْحَجِيج وَكَبَّرُوا إِهْلَالَا وَقَالَ قَتَادَة : تَسْبِيحهمْ : سُبْحَان اللَّه، عَلَى عُرْفه فِي اللُّغَة، وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُأَبُو ذَرّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيّالْكَلَام أَفْضَل ؟ قَالَ: (مَا اِصْطَفَى اللَّه لِمَلَائِكَتِهِ أَوْلِعِبَادِهِ سُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ). أَخْرَجَهُ مُسْلِم. وَعَنْ عَبْدالرَّحْمَن بْن قُرْط أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَلَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السَّمَوَات الْعُلَا: سُبْحَانالْعَلِيّ الْأَعْلَى سُبْحَانه وَتَعَالَى ذِكْره الْبَيْهَقِيّ . قَوْله تَعَالَى " بِحَمْدِك " أَيْ وَبِحَمْدِك نَخْلِط التَّسْبِيح بِالْحَمْدِ وَنَصِلهُ بِهِ.وَالْحَمْد: الثَّنَاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَوْلهمْ: " بِحَمْدِك " اِعْتِرَاضًا بَيْن الْكَلَامَيْنِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَنَحْنُنُسَبِّح وَنُقَدِّس، ثُمَّ اِعْتَرَضُوا عَلَى جِهَة التَّسْلِيم، أَيْ وَأَنْتَالْمَحْمُود فِي الْهِدَايَة إِلَى ذَلِكَ.وَاَللَّه أَعْلَم .وَنُقَدِّسُ لَكَ: أَيْ نُعَظِّمك وَنُمَجِّدكوَنُطَهِّر ذِكْرك عَمَّا لَا يَلِيق بِك مِمَّا نَسَبَك إِلَيْهِ الْمُلْحِدُون، قَالَ مُجَاهِد وَأَبُو صَالِح وَغَيْرهمَا. وَقَالَ الضَّحَّاك وَغَيْره:الْمَعْنَى نُطَهِّر أَنْفُسنَا لَك اِبْتِغَاء مَرْضَاتك وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْقَتَادَة: "نُقَدِّس لَك" مَعْنَاهُ نُصَلِّي. وَالتَّقْدِيس: الصَّلَاة،قَالَ اِبْن عَطِيَّة: وَهَذَا ضَعِيف. قُلْت: بَلْ مَعْنَاهُ صَحِيح، فَإِنَّالصَّلَاة تَشْتَمِل عَلَى التَّعْظِيم وَالتَّقْدِيس وَالتَّسْبِيح، وَكَانَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي رُكُوعه وَسُجُوده ( سُبُّوح قُدُّوس رَبّ الْمَلَائِكَة وَالرُّوح ). رَوَتْهُ عَائِشَة أَخْرَجَهُمُسْلِم. وَبِنَاء "قَدَّسَ" كَيْفَمَا تَصَرَّفَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّطْهِير،وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: "اُدْخُلُوا الْأَرْض الْمُقَدَّسَة"[ الْمَائِدَة : 21 ] أَيْ الْمُطَهَّرَة. وَقَالَ: "الْمَلِك الْقُدُّوس" [ الْحَشْر : 23 ] يَعْنِي الطَّاهِر، وَمِثْله: "بِالْوَاد الْمُقَدَّس طُوًى" [طَه : 12 ] وَبَيْت الْمَقْدِس سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمَكَان الَّذِي يُتَقَدَّس فِيهِمِنْ الذُّنُوب أَيْ يُتَطَهَّر، وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّطْلِ: قَدَس، لِأَنَّهُيُتَوَضَّأ فِيهِ وَيُتَطَهَّر، وَمِنْهُ الْقَادُوس. وَفِي الْحَدِيث: (لَاقُدِّسَتْ أُمَّة لَا يُؤْخَذ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيّهَا). يُرِيد لَاطَهَّرَهَا اللَّه، أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه. فَالْقُدْس: الطُّهْرمِنْ غَيْر خِلَاف، وَقَالَ الشَّاعِر: فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِوَالنَّسَا كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَان ثَوْب الْمُقَدَّس أَيْ الْمُطَهَّر.فَالصَّلَاة طُهْرَة لِلْعَبْدِ مِنْ الذُّنُوب، وَالْمُصَلِّي يَدْخُلهَا عَلَىأَكْمَل الْأَحْوَال لِكَوْنِهَا أَفْضَل الْأَعْمَال، وَاَللَّه أَعْلَم .قَالَإِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ: "أَعْلَم " فِيهِتَأْوِيلَانِ، قِيلَ: إِنَّهُ فِعْل مُسْتَقْبَل. وَقِيلَ: إِنَّهُ اِسْمبِمَعْنَى فَاعِل، كَمَا يُقَال: اللَّه أَكْبَر، بِمَعْنَى كَبِير، وَكَمَاقَالَ: لَعَمْرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَل عَلَى أَيّنَا تَعْدُوالْمَنِيَّة أَوَّل فَعَلَى أَنَّهُ فِعْل تَكُون "مَا" فِي مَوْضِع نَصْببِأَعْلَم، وَيَجُوز إِدْغَام الْمِيم فِي الْمِيم. وَإِنْ جَعَلْته اِسْمًابِمَعْنَى عَالِم تَكُون "مَا"فِي مَوْضِع خَفْض بِالْإِضَافَةِ. قَالَ اِبْنعَطِيَّة: وَلَا يَصِحّ فِيهِ الصَّرْف بِإِجْمَاعٍ مِنْ النُّحَاة، وَإِنَّمَاالْخِلَاف فِي "أَفْعَل" إِذَا سُمِّيَ بِهِ وَكَانَ نَكِرَة، فَسِيبَوَيْهِوَالْخَلِيل لَا يَصْرِفَانِهِ، وَالْأَخْفَش يَصْرِفهُ. قَالَ الْمَهْدَوِيّ:يَجُوز أَنْ تُقَدِّر التَّنْوِين فِي "أَعْلَم" إِذَا قَدَّرْته بِمَعْنَىعَالِم، وَتَنْصِب "مَا" بِهِ، فَيَكُون مِثْل حَوَاجّ بَيْت اللَّه. قَالَالْجَوْهَرِيّ: وَنِسْوَة حَوَاجّ بَيْت اللَّه، بِالْإِضَافَةِ إِذَا كُنَّ قَدْحَجَجْنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَجْنَ قُلْت: حَوَاجّ بَيْت اللَّه، فَتَنْصِبالْبَيْت، لِأَنَّك تُرِيد التَّنْوِين فِي حَوَاجّ. قَوْله تَعَالَى:"مَا لَاتَعْلَمُونَ" اِخْتَلَفَ عُلَمَاء التَّأْوِيل فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا لَا تَعْلَمُونَ". فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: كَانَ إِبْلِيس - لَعَنَهُاللَّه - قَدْ أُعْجِبَ وَدَخَلَهُ الْكِبْر لَمَّا جَعَلَهُ خَازِن السَّمَاءوَشَرَّفَهُ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَزِيَّةٍ لَهُ، فَاسْتَخَفَّ الْكُفْروَالْمَعْصِيَة فِي جَانِب آدَم عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَتْ الْمَلَائِكَة: "وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك" [ الْبَقَرَة : 30 ] وَهِيَ لَاتَعْلَم أَنَّ فِي نَفْس إِبْلِيس خِلَاف ذَلِكَ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ: " إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ الْبَقَرَة : 30 ]. وَقَالَ قَتَادَة:لَمَّا قَالَتْ الْمَلَائِكَة "أَتَجْعَلُ فِيهَا" [الْبَقَرَة : 30] وَقَدْعَلِمَ اللَّه أَنَّ فِيمَنْ يُسْتَخْلَف فِي الْأَرْض أَنْبِيَاء وَفُضَلَاءوَأَهْل طَاعَة قَالَ لَهُمْ "إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ". قُلْت:وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّاكَانَ وَمِمَّا يَكُون وَمِمَّا هُوَ كَائِن، فَهُوَ عَامّ..% (7)
(7) كتاب الجامع لأحكام القرآن، المشهور بـ "تفسير القرطبي"، تأليف أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. تفسير سورة البقرة..
%%فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلاً لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضاً كما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}. قيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن. قاله قتادة. وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور. وعن ابن عبَّاس نحوه. وعن الحسن: ألهموا ذلك. وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل. رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر. وقيل: لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالباً.%%(8)
(8) انظر كتاب "قََََََصَصُ الأنْبِيَاءِ"للإمام ابن الحافظ ابن كثير.. باب: ما ورد في خلق آدم عليه السلام..
%%ويوحيقول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة فيالأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو منمقتضياتحياته على الأرض، وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنهسيسفكالدماء.. %%(9)
(9)انظر كتاب "في ظلال القرآن" للشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى.. سورة البفرة..
%%(جاعل) يراد به الاستقبال فلذلك عمل، ويجوز أن يكون بمعنى خالق، فيتعدى إلى مفعول واحد، وأن يكون بمعنى مصير فيتعدى إلى مفعولين ويكون (في الارض) هو الثانى (خليفة) فعيلة بمعنى فاعل، أى يخلف غيره، وزيدت الهاء للمبالغة (أتجعل) الهمزة للاسترشاد، أى تجعل فيها من يفسد كمن كان فيها من قبل، وقيل استفهموا عن أحوال أنفسهم، أي أتجعل فيها مفسدا ونحن على طاعتك أو نتغير (يسفك) الجمهور على التخفيف وكسر الفاء، وقد قرئ بضمها وهى لغتان، ويقرأ بالتشديد للتكثير، وهمزة (الدماء) منقلبة عن ياء لان الاصل دمى، لانهم قالوا دميان (بحمدك) في موضع الحال تقديره: نسبح مشتملين بحمدك أو متعبدين بحمدك (ونقدس لك) أى لاجلك، ويجوز أن تكون اللام زائدة: أى نقدسك، ويجوز أن تكون معدية للفعل كتعدية الباء مثل سجدت لله%% (10)
(10)انظر كتاب"إملاء مامن به الرحمنمن وجوه الاعراب والقراء?ات في جميع القرآن"تأليفأبي البقاء عبدالله بن الحسين بن عبدالله العكبري(538 - 616 ه(
كلام كثير في الموضوع وآراء عديدة حول هذا المشهد ومحاولات للفهم والتفسير متعددة ومختلفة.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الحيرة التي انتابت كل من وقف عند هذا النص القرآني المعجز الذي أصبح لغزا يجب حله فانهالت الأفكار والآراء والتفسيرات والتأويلات والاجتهادات والبحث في المأثورات، ولكن للأسف كان البحث عن حل اللغز المفتعل من خارج اللغز نفسه مما أسفر عن إنتاج كمية هائلة من النصوص المفسرة من خارج المنظومة الإسلامية نفسها إما في شكل قول يعتبر مأثورا أو رأي يؤخذ مرجوحا أو نقل عن عالم ثقة، أو نسخ من كتاب مسطور.. كل هذه أشكال تعتبر مصادر اعتمدها المفسرون القدامى من سلف هذه الأمة.. وذلك إما لفهم بعض الأحداث المسرودة في النص القرآني.. وإما لتفكيك وتفصيل بعض ما أجمله الخطاب الرباني.. أو لملء بعض الفراغات التي تبدت للمتأمل بين حلقات كل قصة من القصص القرآني.. إلا أن الأمر لم يخل من مغامرات علمية تركت خلفها ركاما من التأويلات غير السليمة أو لا تستند على الأقل إلى ما يدعمها من نصوص صريحة وصحيحة خصوصا وأن القضايا المطروحة للنقاش غالبا ما تكون قضايا عقدية غيبية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القطعي وما سواه يعتبر على الهامش الذي يفيد ما لم يحدث خدوشا في الرؤية الإيمانية والتصور الإسلامي والحقائق الربانية..
فلماذا يا ترى لم يهتم القرآن الكريم بتفاصيل ما كان من الخلق قبل قصة آدم عليه السلام؟؟؟
هل فعلا غيب تاريخا طويلا وعريضا يعد بملايين السنين، ولم يأت على ذكره بالكامل كما يظن بعضهم؟؟؟
هل يمكن أن يقف القرآن الكريم على كثير من تفاصيل بعض القصص ولا يذكر تفاصيل أخرى قد تكون أهم منها؟؟؟
بل حتى أقرب الحلقات إلى حلقة خلق آدم في سلسلة بدء الخليقة والتي هي حلقة خلق الملائكة وحلقة خلق إبليس لا نجد في القرآن الكريم تفصيلا عنهما ولا عن كيفية أو مراحل خلقهما ولا حتى عن الكون الذي سوف يسخر لخدمة المستخلف فيه.. وهذا يرجع في تقديرنا إلى أن القرآن الكريم يريد أن يسلط الضوء على ما له علاقة بالحياة الآدمية من البداية إلى النهاية مرورا بما يفيد الإنسان من محطات المخلوقات الأخرى..
لقد خلق الله تعالى الملائكة من نور..فعن عائشة - رضي اللَّه عنها- قالت : قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم : خلِقت الملائكة من نّور ، وخلق الجانّ من مارِج من نار ، وخلق آدم ممّا وصف لكم . رواه مسلم . (11)
(11) رواه مسلم كتاب الزهد (4 / 2294 ) (رقم : 2996) . مسلم الزهد والرقائق (2996) ، أحمد (6/153(
ثم فتنهم - سبحانه وتعالى وهو ربهم- فتنتين أو قل امتحنهما بامتحانين ولقد كان الأول منهما إدخال إبليس في كوكبتهم وجعله بين ظهرانيهم مع أنه ليس من طبيعتهم ولا من جنسهم وليس على شاكلتهم ولا يملك خصائصهم ولا تتوفر فيه خصالهم.. ومع ذلك لم يثيروا موضوع هذا المخلوق الغريب عنهم ولم يسألوا الله عن سبب وجوده بينهم وهم يعلمون أنه من الجن أي من طبيعة وأصل غير طبيعتهم أو أصلهم.. فكان صمتهم الذي يدل عليه عدم الإشارة القرآنية إلى ضده - كما سجل عنهم تعليقهم على اختيار آدم خليفة في الأرض في شكل حوار جرى بينها وبين الله سبحانه وتعالى.. وقد كان هذا الحوار دليلا على أن الملائكة تحاور الله تعالى بكل طلاقة في إطار الحكمة الربانية، وتبدي من خلال حوارها رأيها وعلمها في إطار "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" وتعرض فكرتها ونظرتها وهي تعلم علم اليقين أن الله عدل وحق فتح لهم هذا الباب في إطار رحمته التي لا تحجر على الرأي والفكر بل تقنع بالدليل والمشاهدة ومن ثمة كانت أمام جواب آدم عن الأسماء أكثر خضوعا لله تعالى- إذن سكوتها وصمتها وعدم إثارة موضوع تواجد إبليس طينة غير طينتهم هو عين الرضا منهم بما أمر به الله تعالى من تواجده بينهم.. فهو كان معهم وبينهم ولم يكن منهم كما شاع عند العوام وما كان قط من جنسهم ثم حوله المولى جل وعلا..
وثانيهما أن الملائكة سارعت إلى تنفيذ أمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام بمجرد أن صدرت الإشارة الإلهية بذلك (وأقول الإشارة بمعنى أن الأمر كان بإشارة من العلي القدير إشارة تدل على السجود بشكل يناسب المقام والمكان والزمان والحال.. وليس بالكلمة والقول الذي يليق برب العزة والجلال، وسوف أوضح هذا الأمر في حينه إن شاء الله تعالى)، تقبلت الملائكة أمر الله تعالى بمجرد أن أشار لجميع من حضر دون مناقشة الموضوع.. ولم يتأخر أحد منهم في طاعة المولى عز وجل مع وجود عنصر مشاغب بينهم وهو إبليس الذي لم يطع ربه ولم يستطع التأثير بسلوكه ذاك في الملائكة ولم يتمكن من أن يصبح عنصر تشويش على الرغم من تبجحه بقضية الأفضلية النارية على أصل الخلقة الطينية.. كيف كان سيكون إبليس لو كان من طبيعة نورانية..؟؟ ولماذا لم تتكلم الملائكة عن طبيعتها وأفضليتها لتواجه على الأقل هذا التبجح والاستكبار والأنانية التي سيطرت بشكل ملموس على إبليس..؟ لقد دللت مرة أخرى على قمة الطاعة لله تعالى وعدم التطاول والتدخل في أمر تولى ربها سبحانه بنفسه تصحيح مساره وضبطه..
وهكذا يمكن القول بأن الملائكة استطاعت أن تنجح في اختبارها بشقيه معا "القبول وعدم التعرض ثم الاستجابة الفورية وعدم التدخل" ومن ثمة حصلت على ما مجموعه من النقط عشرة على عشرة (10/10)...
أما إبليس فلقد كان هو الآخر مستهدفا بفتنة أو اختبار وامتحان في دورتين كانت الدورة الأولى عبارة عن تنفيذ طلب وهو أمر الله تعالى له وهو ضمن الملائكة بالسجود لآدم فكان عليه أن يقبل بالامتثال لذلك الأمر.. ولو فقط لأنه كان هو الآخر مقبولا بين من لا علاقة له بهم ولم يرفضوا وجوده بينهم مع أنه من نار وليس من نور.. ثم كان عليه أن يقبل مادام يمثل فردا داخل جماعة.. وحتى في رده لم يقل بأنه غير معني بالأمر بالسجود لأن ذلك كان موجها للملائكة فقط من هنا قلت إن الأمر كان عبارة عن إشارة يفهم منها سجود الجميع ثم تمت صياغتها لتبليغها للمتلقي في شكل ألفاظ "إذ قلنا للملائكة اسجدوا.." ولم يقل قلنا للملائكة يا ملائكة اسجدوا.. حتى يستثنى إبليس فالخطاب كان موجها دون استعمال لأسلوب النداء الذي سيخصص المنادى ويوضح طبيعته فكأننا أمام مشهد خطابي يتحدث فيه المولى جل جلاله إلى كل من يمثل أمام عظمته بمجموعة من الأخبار القادمة (من خلق آدم وطبيعته وكيفيته...) والمطالب المقدمة (من تنفيذ أمر الله بالسجود والطاعة..).. ثم نقل الله تعالى هذا المشهد في كتابه الخالد بأسلوب تصويري نستشف منه أن اللغة كانت واصفة لمجموعة من الأحداث والوقائع بكل تلقائية راسمة الخطوط العريضة لطريقة التواصل التي تمت بين الخالق سبحانه ومخلوقيه معا الملائكة جماعة وإبليس فردا.. فكان أن امتثلت الأولى ورفض الثاني.. وبذلك ضيع نقط الدورة هذه ولم يحصل منها على ما يفيده، ثم أتيحت له فرصة ثانية وهي عبارة عن دورة استدراكية - إذا صح التشبيه مرة أخرى - ربما يحصل منها على خير ينفعه وقد كانت عبارة عن سؤال للاستيتاب أولا والاستنكار ثانيا.. وذلك عندما قال له المولى جل وعلا "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك..." وبأسلوب النداء المحدد لطبيعة المنادى"قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين" فكان الجواب عن السؤال الاستيتابي والاستنكاري: "لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون" و"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.." لقد واجه إبليس وضعه ممتحنا ومختبرا أو مفتونا بمزيد من التعنت والاستكبار والتطاول والعصيان، ولم ينف أنه كان مقصودا بأمر الله تعالى كما أنه لم يثبت غير طبيعة خلقته فهو لم يدع أنه كان من الملائكة أو أنه خلق من نور ثم تحول بله هو يصر على طبيعته النارية ويدعي أفضليتها فكأنه يدعي العلم والمعرفة على الله جل في علاه.. فكانت النتيجة النهائية الرسوب في الاختبارين معا بمجموع النقط صفر على عشرة (0/10)...
أما آدم فقد خضع هو الآخر لأنموذجين من الاختبار مثله مثل الملائكة ومثل إبليس فكانت الدورة الأولى عبارة عن القيام بسلوك معين المطلوب فيه من آدم عدم الفعل "ولا تقربا هذه الشجرة.." لكنه لم يكن في مستوى الملائكة في تعاملها مع إبليس الغدة الزائدة عليهم، لم يكن مثلهم مع أنه حذر ولم يحذروا.. لقد استمع آدم لصوت الراسب الأول إبليس الذي لم يكن يملك في الحقيقة أي إجابة صحيحة لا في علاقته بربه ولا في علاقته بهذا المخلوق الجديد، اللهم إلا اللف والدوران والوعود الكاذبة.. وليس معه أي رأي مفيد قد يعود نفعه على آدم، هو لم ينفع حتى نفسه فكيف ينفع غيره.. فكان أن وقع آدم وزوجه في شرك ذلك الكسول المتكبر.. فكانت استجابتهما في غير محلها ووقعا في السلوك المحرم مما أفقدهما نقط هذه الدورة.. فجاءت الدورة الثانية وكانت عبارة عن دورة استدراكية استيتابية كما وقع تمام لإبليس، أجابا فيها عن السؤال: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟؟" بقولهما: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" وهكذا استفاد آدم وزوجه من نتيجة هذه الدورة على الرغم من أنه " عصى آدم ربه فغوى.." فكانت النتيجة النهائية " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" الفوز بالمعدل والذي هو خمسة على عشرة (5/10)..
فكانت إذن الرتبة الأولى من نصيب الملائكة الذين لم يحتجوا لما رأوا ولم يعصوا إذ أمروا.. فكانت لهم المرتبة العلى عند الله تعالى.. ومن ثمة ركزت فيهم خصلة عظيمة هي أنهم "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" و"يسبحون بالليل والنهار لا يفترون"..
ثم كانت الرتبة الثانية من نصيب آدم الذي حرم الجنة التي كان سيكون فيها كما قال له ربه عز وجل "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" وخسر هذه الجولة التي كلفته الحياة في رغد العيش.. ولكنه استطاع أن يحصل على رتبة الخلافة في الأرض والتصرف فيها وفق التعليمات الربانية التي سطرها تعالى من خلال قوله سبحانه: "..فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة:38 وهذه الخلافة تخول له التصرف في كل ما له علاقة بالأرض أي كل ما يدور في فلكها أو يرتبط بها من بعيد أو من قريب.. وهذا كان نتيجة فوزه ونجاحه في الدورة الاستدراكية..
أما إبليس فقد خسر كل شيء طرد من الجنة ومن رحمة الله تعالى.. ثم أصبح تبعا وتابعا لآدم في خلافته ولم ينل من شرف الوجود إلا الصراع والعداوة والبغضاء وكفى بها أمراضا مهلكات..
00++** يــتــبــع إن شاء الله تعالى **++00