طنجة مصفاة الثقافات


طنجة مدينة تحطّمت عليها كل الثقافات والحضارات التي تعاقبت عليها.
لم تتشكل عقلية أبناء طنجة وتستقر أكثر من ألف وأربعمائة سنة إلا بعد قدوم نور الإسلام المتمثل في عقيدته وشريعته، فكان هذا استثناء لم يطرأ عليه تغيير رغم المحاولات المتكررة لفك عراه دون جدوى، ذلك الوافد الوارد شكل عقلية شعب طنجة ونفسيته، ذلك الوارد الوافد صار منها وإليها، فكانت حضارته هي الحضارة الإسلامية، وثقافته هي الثقافة الإسلامية..
هاتان الواردتان عليها من الجزيرة العربية حطتا على طنجة، وصهرتا أهلها، ثم أعادتا بناء عقلية أبنائها مبقية على عنصر الاستفادة من غيرهما من الثقافات والحضارات الأخرى، وعليه فقد تشكلت عقلية شعب طنجة على هذه الثوابت، وكلما خرج سن من الدوران في دولابه، سرعان ما يعود إلى موقعه من الدولاب، وإذا كان كالالكترونات الدوّارة حول النواة فلا يتأين، لا يجري معه ما يجري مع غيره عند ورود الحضارات، ودخول الثقافات إلى بيئته، لا يرى منغمسا في ثقافة غيره وحضارته إلا وهو كالنحلة الحوامة لا تحط على القاذورات، لا يرى في أي وضع مفاهيمي سيء، أو فكري مشبوه إلا ولا يلبث أن يعود إلى ثقافته وحضارته.
انظر إلى كثرة الثقافات وتعددها في طنجة عبر العصور، انظر إلى التعدد بسبب انفتاحها على كل الثقافات والحضارات، انظر إلى وجودها على بحرين، وإلى قربها القريب جدا من الأندلس بوابة أوروبا عبر مضيق جبل طارق، هذه الثقافات والحضارات المتعاقبة عليها، والمخلفة لبعض مكوناتها؛ انساق معها الطنجاوي، وانحرف بسببها عن الثقافة والحضارة الأصيلة التي تقنع العقل وتوافق الفطرة وتملأ القلب بالطمأنينة والمتمثلة في أساسها الذي قامت عليه شخصيته وهو العقيدة الإسلامية والثقافة الإسلامية، ولكنه لا يبقى دائما على غفلته، ولا يغوص في سطحيته إلى الظلمات، ولا ينقاد لقلة علمه، أو يأسره فراغه وخواؤه حين لا يكون متعلما، أو مثقفا، لا يكون كذلك إذ سرعان ما يعود إلى معدنه النقي، وذهنه الصافي..
وهو حين يقلِّب الحضارات والثقافات الواردة على مدينته لا يخشى على نفسه منها لعمقه واستنارته ولو أن تكون مسمومة وفاسدة؛ لأنه محصن من كل داء، ومغلف عن كل تأثير خارجي، وهو إن بدا يمشي متأثرا بغير ثقافته، فإن سيره مجرد تجربة يخوضها ليعود بعدها، ومنهم من لا يعود إذا اختطفه الموت، وهم قلة قليلة جدا أمثال من تأثروا بالحضارة الاشتراكية، والحضارة الرأسمالية وماتوا على عقيدتها وثقافتها الفاسدة.
الطنجاوي الحق هو الذي يترك الصلاح على صلاحه، وهذا أضعف الإيمان، فالشجرة التي مضى على نضجها عقود وربما قرون يمكن قطعها في دقائق، وذلك يعني عدم ترك الصلاح على صلاحه، وهو جريمة إن كان القطع لغير حاجة معقولة، أو كان لحاجة الجشع والنهب والاتجار السخيف.. وإذا تم إفساد ما كان صالحا يهرع إلى إصلاحه، وتلك قيمة رفيعة لن يكون طنجاويا بغيرها، فالساكت على الفساد ليس طنجاويا، والمساهم في التخريب ليس طنجاويا ولو زعم أنه من مواليدها، فالتقادم فيها، ووجود مقياس لتحديد كم جد ينبغي أن يكون لقاطن طنجة حتى يكون طنجاويا يخرج نفوسا كريمة، وعقولا نيرة من ذلك الحساب، ويسير إلى نقض مفهوم إنساني يتبناه شعب طنجة، وهو الحق في العيش على كوكب الأرض لكل الناس دون النظر إلى الدين واللون والمذهب، هذا يؤدي إلى الدخول في فلسفة الفلسفة، مثلها مثل فلسفة الجمادات، وهو فلسفة تافهة، ومضيعة للوقت، يثير الغضب ويجلب العنصرية.. وعليه لا ينظر إلى الطنجاوي باعتباره سليل جد أو جدين أو ثلاثة ولدوا في طنجة، بل ينظر إليه من خلال ما يحمل من مفاهيم وأفكار حافظ عليها شعب طنجة عبر العصور مع تقليبه لها في كل وقت وحين ليستأنس بجدتها ومسايرتها للواقع حتى يظل دائما متحسسا لقيمة ما يحمل من فكر ومفهوم..
ولمن يغضب لهذا المقياس فيتهمنا ربما بأننا مهاجرون، نطمئنه أولا بأننا فعلا مهاجرون، وقد بدأت الهجرة من أجداد لم يبرحوا طنجة والأندلس منذ ما يزيد عن 13 قرنا؛ قدموا من الجزيرة العربية، وإذا قيل لي بأني عربي والمغرب وطنجة للأمازيغ، أطمئنه ثانيا أنه هو أيضا مهاجر، غير أن هجرة أجداده الذين هم أبناء عمومة أجدادي قد كانت من الجزيرة أيضا قبل هجرة أجدادي، وأولا وأخيرا نحن بشر ننتشر، انتشرنا من قارة إفريقيا، والحق في العيش حيثما نريد حق ثابت لا تصادره إلا ثقافة الظلم والبغي، ليس ما ذكر مقياسا لحرمان الناس من حق العيش والحياة حيثما يريدون على كوكب الأرض الذي لم يوجدوه..
والطنجاوي في كل الأحوال، أو في الأغلب حين يقلب بين يديه أيّ ثقافة وأيّ حضارة، فإنما يفعل ذلك لاستخراج ما ينفعه منها، فلا يتأثر بها، ولا يتبناها، بل يروِّضها بحسب حمولتها في بعض جوانبها الإنسانية المضيئة حتى تستقيم في العقل، وعندئذ لا يتورع ولا يتحرج من الانتفاع بها مجرد انتفاع، وهذا هو الطنجاوي الحق الذي استنبت فيها، أو قدم إليها مهاجرا ثم تأثر بثقافة شعبها، فهو بذلك يصير طنجاويا، كما يصير طنجاويا أيضا يقدر قيمة عقليته النقدية تجاه الثقافات والحضارات الواردة علي مدينته، وبقدر قيمته النقدية في محاسبة اللصوص الذين نهبوا مدينته وسرقوا مناطقها الخضراء ومرافق شعبها وخربوها ولا يزالون، لا يفعل ذلك مع الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية لأنها ثقافته وحضارته، لا يرى في مقارنتهما بغيرهما أي فائدة ترجى وإلا فهو مستعد لذلك، ولا يخشى على عقيدته ومبدئه الذي يحمل، دائما يطرح ما عنده ويناظر عند الحاجة ويتحدى عند الضرورة لتنبيه الغافلين والسطحيين الذين ينخدعون بالثقافات والحضارات الأخرى..
ولا يقال أن شعب طنجة يجب عليه أن يسلك مع مبدئه الإسلامي وعقيدته الإسلامية نفس ما يسلك مع غيرهما من المبادئ والثقافات والحضارات الأخرى، لا يقال ذلك، ليس عجزا، أو خشية من هشاشة ما يحمل، بل حماية لوقته الثمين، وإشفاقا على نفسه وعلى غيره، فهو حريص على المضي قدما نحو الأمام للاستفادة من الكون والطبيعة، ومن يتبنى غير ما يتبنى شعب طنجة يرجع إلى الخلف بنفسه وبالإنسانية، ويضيع وقته ويضيع معه غيره، وهو ما ينبغي تجاوزه، والحذر من الوقوع فيه، ثم إن من يرغب في المناظرة بشأن ما يحمل شعب طنجة من فكر ومفهوم يجد نفسه أمام من لا يخاف على ما يملك، لأن ثروته الفكرية والمعرفية عبر العصور نمت حتى بزت كل شعوب وأمم الدنيا، فلا يوجد لشعب ما رصيد فكري ومعرفي مثلما لشعب طنجة بصفته جزء من أمة الإسلام، فهو مستعد دائما وأبدا للتخلي عما يحمل إن ظهر ما يرقى عنه ويقنع عقله ويوافق فطرته ويملأ قلبه بالطمأنينة، وهو غير موجود بالاستقراء والاحتكاك، وحتى لا ’يظن ما يظن فمرحبا بالتناظر حتى في أسس ما تبنى عليه شخصية شعب طنجة وعقليته، وأنا أسجل اسمي في اللائحة الأولى للتناظر، فهل من مبارز؟
إن من يقدر قيمة الانتفاع بالثقافات والحضارات الأخرى لهو بحق عاقل، وإن من يرفض تبني ما يرد على طنجة بعد مناقشته وتقليبه ونقده لهو أعقل العقلاء بنقضه له، ثم جلوسه على سدة الطمأنينة التي لا يجدها غيره ممن لا يفعل فعله..
إن شعب طنجة ببعض أفراده الفرسان الحريصين على مدينتهم وعلى قيمهم و’مثلهم الراقية يهضمون أيّ ثقافة وأيّ حضارة وردت على مدينتهم؛ لأنهم يملكون عقلية نقدية، ونفسية حبّابة ’سلَّمية في صعودها نحو الكمال، يتفحصونه ويتفاعلون معه، فإذا أقنع عقولهم ووافق فطرتهم وملأ قلوبهم بالطمأنينة تبنوه؛ وهو الذي حصل مع الإسلام حين ورد إليهم من رجال آثروا حمله على المكوث في دورهم وأهليهم، وحسنا فعلوا، والفضل يعود إليهم، فشكرا لهم، وجزاهم الله عن شعب طنجة وعن كل شعب اعتنق المبدأ الإسلامي كل خير، فهم بالإسلام قد تأثروا، فصار مبدأهم، وصار كل شيء في حياتهم، وبغير الإسلام لم يتأثروا إلا نادرا، ومع ذلك انتفعوا بما كان يجب أن لا يضيع منهم ما دام إنتاجا بشريا صدر عن عقلاء ولا ضير، وما داموا طلبة الخير والحكمة أيضا..
طبيعة طنجة الجميلة وموقعها الجغرافي المتميز وتشكلها الغالب من شعب الأندلس جعلها قبلة مرغوبة، ووجهة مقصودة، فهي خطيرة من جهة الأسر، إنها كالوردة الآسرة لزائرها الذي يمدها باللقاح فتقتله لتحيا هي ويحيا هو بنسله فيها، تطبعه بجمالها الأخاذ، فهي جميلة بطبيعتها وبأهلها، فأهلها يألفون ويؤلفون، فإذا اختلطت بالقبح بسبب هجرة مئات الآلاف منهم إلى أوروبا خاصة، والعالم عامة فسرعان ما تتخلص منه ..
وتشهد طنجة منذ آلاف السنين هجرات وهجرات، وتشهد الآن هجرات من الجنوب المغربي والشمال الشرقي والساحل الإفريقي.. بل صار يغشاها أفراد من الهند وباكستان وغيرهما أملا في عبور المضيق إلى الصفة الأخرى حيث العنصرية، وحيث بحبوحة العيش بسبب الاستعمار التقليدي لنا سابقا، والحديث لنا حاليا، والملاحظ أن مئات المهاجرين الأفارقة، ورغم مطاردتهم وملاحقتهم من قبل السلطات المغربية، فإن الكثيرين منهم لم يبرحوا غاباتها التي بدأت تتعرى بفعل المجرمين الإرهابيين البيئيين من المسئولين محليا ومن الرباط، وذلك بالسطو على الأملاك العامة وأملاك الشعب بتفويت الغابات الخلابة إلى أفراد من الإمارات وقطر والأردن وغيره، أقول إن الأفارقة يحيون فيها فتراهم وترى نساءهم تستعطي بجلابيات تقليدية وهن يحملن أبناءهن على ظهورهن ثم يذهبن للغابات حيث أبناء بلدانهن بما يقيم أودهم من مأكل ومشرب وملبس وقد تضامن معهن شعب طنجة، وقدم لهن القرى رغم فقره في أكثريته ..
ومن الطريف الألفة التي تظهر بسرعة مع كل زائر وقادم إليها من العرب والمسلمين، ومع كل أجنبي من غير العرب ومن غير المسلمين، فترى شعب طنجة بأفراده موجودا مع كل غريب، ومتحدثا إلى كل وافد ومهاجر؛ يجالسه ويعاشره ويحاوره ويقدم له بقدر استطاعته ما يحتاج إليه من معلومات وإكراميات..
وقد يقال أن الكرم والبخل لا يخلوان من أي شعب في الدنيا، وشأن شعب طنجة شأن كل الشعوب، وغياب البخل من شعب طنجة، أو تنزيهه عنه قول غير صحيح، والجواب على ذلك أن شعب طنجة لا يكون شعبا طنجاويا ببخله، بل يكون طنجاويا بكرمه وإيثاره، وحين يظهر البخل في بعض أفراده، فهم به يؤكدون أنهم لم يشربوا بعد مفاهيمه وأفكاره، أو هم بقايا قوم استطعمهم موسى والرجل الصالح في قبيلتهم بأكلا حيث منتزه الرميلات الجميل في طنجة، فأبوا أن يضيفوهما (( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا )) سورة: الكهف. الآية: 76. ربما كانوا منهم..
ولا يقال أنك بما تزعم قد ركبت العنصرية، لا يقال ذلك، لأن طنجة قد دافعت عن نفسها بجنس نصوارية الأضداد في نص: طنجة العنصرية، ونص: طنجة سييرا نيفادا، ونص: طنجة الجزيرة.
لا يقال ذلك لأن العنصرية لا تنبت إلا في فكر شعوبي ضيق..

ـــــــــــــــــــــــــــ
محمد محمد البقاش
طنجة في:
11 ماي 2007