(1)
لم يكن لي أن أختار مهنتي .. ولا حتى زوجتي. لست حزينا لهذا .. غير أنى لست فرحا أيضا . ربما كان من الأفضل أن أختار .. لكنني لا أعرف ماذا كنت سأختار لو كانت لي حرية الاختيار. كل هذا لا يهم .. فالاختيار يتطلب الحرية، والحرية وليدة معرفة بالبدائل حتى يكون للاختيار معنى ، وكي يكون دقيقا .. وأنا لا أملك المعرفة المؤهلة للحرية ومن ثم فلا معنى للاختيار.
عموما فزوجتي جميلة .. هذا لا يهم .. المهم أنها تملك شقة واسعة، ولم يكلفني ذاك قرشا واحدا .. وهى بعد مثقفة .. يخيل إلى أنها مثقفة جدا ، فالكتب فى كل مكان فى الشقة حتى تحت السرير يوجد عدد من الصناديق المحكمة الغلق، ومدون على غطاء كل صندوق منها ما فى جوفه من كتب ومراجع .. رأيت ذلك بنفسي أثناء ذهابها للسوق، غير أنى لم أسألها عن كل هاته الكتب ، ولم أر مبررًا لسؤالي هذا . والحق أنني لم أضبطها وهى تقرأ .. وهذا لا يعنى أنها لا تقرأ خاصة وأنا أتغيب عن البيت فترة ليست بالقصيرة. عموما .. كل هذا لا يهم. أما ما أعجب له فإنه إعجابها الشديد بى حتى كادت أن تطير فرحا عندما علمت برغبتي فى الاقتران بها كما أخبرني بذلك زميلى الأستاذ عباس المصرى .. وقالت :
- أحقا تحبني كما أخبرني زميلك الأستاذ عباس المصري؟
قلت مرتبكا :
- ربما ..
- ماذا تعني؟
وزادت حيرتي، ونطقت بلا وعي:
- هذا لا يهم ..
ولما وجدت للحيرة مجالا فى وجهها، أردفت:
- نعم .. نعم أحبك ..
وتابعت بعد لحظة صمت مشحون بالارتباك والحيرة :
- إذا كان ذلك يرضيك فأنا أحبك ..
زادت دهشتها وطفح ارتباك بدد صفاء عينيها، وابتسمت, لتخفى دهشتها تلك بينما تابعت أقول:
- حقا .. أنا أحبك ..
قالت تخرج من ذلك النفق الضيق :
- الأستاذ عباس المصري أخبرني أنك من تلاميذ الشيخ عبد السلام النمل، وأنك جئت إلى هنا أكثر من مرة ، لتلتقي بالشيخ .. حاولت تذكرك .. لكنك تعلم أن المدينة كلها تلاميذ للشيخ .. وأحبابه فى كل مكان .
لم أنبس. فما رأيتها من قبل، ولا أعرف شيئا عن الشيخ عبد السلام النمل . نعم .. سمعت اسمه فى أكثر من مناسبة، وعلمت بنبأ وفاته الذي تناقلته وكالات الأنباء غير أنى لم أهتم بمعرفة شيء عنه. والحق أنه مذ ماتت أمي لم أهتم بموت أحد أو بحياته.
ولعنت الأستاذ عباس المصري فى نفسي، وتساءلت دهشا:
- لِم قال هذا !
- إنه صاحبك ..
وأردفت بعد صمت لم يطل:
- إذاً فأنت من تلاميذ الشيخ ..
قلت شارداً:
- ربما ..
كانت تنظر إلىَّ نظرتها إلى كائن عجيب لم تلتق بمثله من قبل، مما كان يزيد حيرتي. خطر ببالي أن أقوم وأنهى هذا اللقاء الثقيل رافضا الزواج، وأن أعترف لها بأنني لا أعرف الشيخ عبد السلام، ولا أحب أن تعرفه .. ولا أحبها وإنما ورطني الأستاذ عباس المصري تلك الورطة .. وقلت:
- حقا .. أنا .. أنا أحبك ..
وابتسمتُ ابتسامة بلهاء. لعلها تقول فى نفسها الآن: "يا له من أحمق غريب الأطوار !" .. وتابعت أقول:
- سيدتي أنا أحبك بالفعل، كما أحب الشيخ النمل أيضا ..
خُيل إلىَّ أن تلك هي النهاية .. نهاية المطاف، وأنها ستقوم لتطردني من شقتها المكتظة بالكتب .. وقالت:
-عموماً فالأستاذ عباس أخبرني أنك إنسان تحب الصمت، وأنك خام لم تكن لك صلة بامرأة قط ، وهذا يفسر لي كل شيء، كما أنه يسعدني بطبيعة الحال.
وعدت ألعن عباس المصري فى نفسي، وقلت:
- وأنا يسعدني الاقتران بك، ومواصلة مشوار الحياة معك كما أخبرك الأستاذ عباس المصري.