* أنّـــا *

..........



تبدو فى ذاكرتى كطيف جميل . وأذكر أن أمى وجارات البيت كن يمتدحن محاسنها ، فلابد أنها كانت كذلك بالفعل . لا أدرى ـ حتى الآن ـ معنى الاسم ، وهل هو تعبير عن أصول غير مصرية ، أو أنه كناية التدليل لاسمها الحقيقى . ما أعرفه جيداً أن أنّا ، أو أبلة أنّا ـ كما كنا نسميها وندعوها ـ لم تكن مجرد جارة لنا ، ولا هى فقط صديقة لأمى ، لكنها كانت تقضى مع أمى معظم وقت غياب زوجها ـ الذى يعمل مهندساً فى كفر الدوار ـ عن البيت ..
كانت تهبط من شقتها فى الطابق السادس إلى شقتنا فى الطابق الثالث . تجالس أمى فى الحجرة المطلة على جامع سيدى على تمراز ، ويخوضان فى أحاديث تبدأ ولا تنتهى ..
ذات عصر ، اجتذبتنى فى حديثهما كلمات متناثرة عن الأرواح والجان والشياطين والعفاريت . عالم يلتف بضبابية المجهول والإثارة والخوف ..
تنبهت على صوت أمى :
ـ روح العب بعيد ..
لم تنجب . حدست أن هذا هو الباعث لأحاديث أنّا الهامسة مع أمى ، وتلبية عم أحمد البواب المتكررة لطلباتها بشراء ما تحتاجه من العطار ، أول شارع الميدان . والتقطت قول أمى لها : ربنا يطعمك ، فأنا أثق ـ الآن ـ أن أنّا كانت تعانى مشكلة عدم الإنجاب ..
ظلت الكلمات تناوشنى ، حتى وصلتها بكلمة " زار " التى تخللت أحاديث أمى وجارتها فى الأيام التالية ..
سرت حياة غير عادية بين شقق البيت . تعالت النداءات والصيحات والملاحظات والأسئلة . وهمست أمى ، تستأذن أبى ـ وهو يعد نفسه للخروج فترة العمل المسائية ـ كى تصعد إلى شقة أنّا .
ـ خير ؟
ـ أبداً .. حاجاملها فى قعدة زار ..
ـ زار ؟.. من إمتى بتحضرى الحاجات دى ؟
ـ أهى مجاملة .. قالوا لها لابسها جان ..
وربتت كتفه وهى تودعه :
ـ قالوا لها كده ..
اندسست ـ فى المساء ـ وسط لمة النساء والأطفال والشموع وأريج البخور والدم المسفوك . ارتفع إيقاع الدفوف والطبول ، واهتزت الأرض والجدران بدبيب الأقدام والرقصات المحمومة ، وتعالى صوت الكودية :
قادوا الشموع لماما . الشمع بات سهـران
وندهت السيـدة زينب .. رئيسة الديـوان
يا شيال الحمول يا متولى شيل حمّة العيان
يا شيخ العرب يا سيـد يا ندهة المنضـام
فرشوا الأرض لماما بالفــل والريحـان