//**++.. تتمة الدراسة..++**//
مشاهد القصيدة:
تفتتح القصيدة قيلها بجملة اسمية مبتدؤها نكرة بل غارق في نكرته على المستوى التراكيبي، إلا أنه معرف على المستويين الوجودي والواقعي، ويعتبر هذا المبتدأ رمزا حاملا لدلالات عديدة، يتجلى بعضها منذ البداية:
مدينة تنكرت سماؤها لبسمة الهلال
ولم يعد يطوف في منارها بلال.
وينصب هذا الرمز على رأس/بوابات ستة مواقع من المشهد الأول:
* مدينة تنكرت سماؤها لبسمة الهلال
* مدينة تبيع قلبها بحفنة من الرمال
* مدينة تطارد العفاف في الخدور.
* مدينة فساقها يعربدون.
* مدينة تحول بين هدي ربها...
* مدينة كهذه تنكبت طريقها.
رمز المدينة ليس غريبا قديما وحديثا على الأدب بشكل عام والشعر على الخصوص، إلا أن تجلياته كانت أبرز في الأدب المعاصر، لكون المدينة كان المظنون فيها والمحتمل من وجودها في الحياة المعاصرة بالشكل التي هي عليه أن تفيد الإنسانية، وترقى بها وتخدمها وتوفر لها ما كانت تحلم به خلال التاريخ الطويل للوجود الإنساني.. إلا أنها خيبت الآمال، وأمست رمزا لليباب والدمار والفسوق والفجور والعهر...(2)
ويأتي الشاعر ليجعل من المدينة رمزا للظلم والطغيان ومحاربة الحق والحيلولة دون الوصول إلى الحقيقة ورمزا للفساد الأخلاقي والسلوكي ولتدمير الفضيلة وتضييق الخناق على الأتقياء ومحاصرة الصالحين، ومن ثمة تفسح المجال للفساق والمعربدين.. كما تحول بين الهدى وطالبيه، وتمنع كل مناد للخير من رفع صوته بل وتخنقه حتى قبل أن يتفوه، وتهدم كل صرح يشيد على مكارم الخصال:
مدينة تنكرت سماؤها لبسمة الهلال
ولم يعد يطوف في منارها بلال
وألقت الخمار عن جبينها
وللفساد تفتح الصدور
وتطلق البخور
وتهدم المحاضن التي
يغرد الصغار في غصونها
ويشربون من حليبها
مكارم الخصال
فكان مآل هذه المدينة الدمار والشتات والتصدع والبوار لأنها تنكبت بأفعالها تلك طرق الحق وابتعدت عن دين ربها فجاءها مصيرها قبل الأوان ولحق بها الخراب وكان سافلها عاليها:
تصدعت وزلزلت
من قبل أن يصيبها الزلزال
إنه زلزال الرذيلة والفساد الذي أصاب المدينة فأحدث بها خواء روحيا ودمارا نفسيا وفوضى اجتماعية وتدهورا اقتصاديا وترديا سياسيا وتدنيا أمنيا وهلم جرا من كل وبال ووباء وذلك قبل حتى أن يصيبها الزلزال الطبيعي / الأرضي الذي يعتبر خرابا حقيقيا وليس معنويا ويبابا واقعيا يطال الجانب البيئي الطبيعي مباشرة وتترتب على هذا عواقب وخيمة يذكرنا بها واقع حال الأمم السالفة التي سلط الله جل جلاله عليها سيف انتقامه فزلزلها زلزالا شديدا..
ويأتي المشهد الثاني يبدأ الكلام بواو للتنبيه وضمير منفصل دال على جماعة المخاطبين مع مد صوته بإشباع تمثل في واو ظاهرة وزائدة إمعانا في التنبيه ويشفع هذا بأسلوب النداء المتجلي في أداة النداء المعروفة "يا" المتبوعة بمنادى يعتبر صفة للضمير "أنتمو" وهو رمز لكل من الضياء والنور والهداية ويرفق هذا التركيب الاسمي تركيب فعلي يأتي فعله في زمن دال على الاستمرارية والحيوية ليضفي على الجملة كلها من نفحات البقاء ولمسات الدوام مما يحسس القارئ/المتلقي بصيرورة معنى التركيبة الفعلية تلك وعدم توقفها على الرغم من وجود المعوقات التي تنوء تحتها الجبال والتي لم تستطع أن تقهر أولئك المخاطبين/المنادى عليهم الذين بشروا وأنذروا المدينة بذلك المآل المذكور في المشهد الأول ولكنهم ووجهوا وفتنوا وكان الصبر رداءهم إلى أن نالوا مبتغاهم..
يقول الشاعر:
وأنتمو يا شمعة لم تنطفئ
في ليلة الضلال
لكم أصابكم من العناء ما تنوء تحته الجبال
وكم تحملت صدوركم من النبال
مبشرين كنتمو ومنذرين
بمثل ذلك المآل
ولم تروا من قومكم سوى
مباءة الجدال والسجال
ومنطق النعال
تصيروا يا إخوتي
فتلك محنة يرى بها معادن الرجال
وكل محنة إلى زوال
ومن قضى فسابق وكلنا متابعون
وحسبه شهادة ينالها بلا قتال
بعد هذه المشاهد الشعرية الرائعة التي يزخر بها الجزء من القصيدة والتي لين الشاعر ريشته في رسمها وتخطيطها ومزج ألوانها وتنسيق مكوناتها والتي جملها أيضا بمجموعة من اللقطات المعبرة ابتداء من لقطة النور والضياء والإشعاع : "وأنتمو يا شمعة لم تنطفئ".. إلى لقطة المدح والشكر والابتهاج: "ونعم ما ينال" مرورا بلقطة العناء والبلاء الحسن ثم لقطة التواصي بالصبر والنظر إلى المحنة على أنها منحة ثم لقطة إحدى الحسنين تحقيق الرجولة والنصر أو الشهادة بلا حرب وكلها لقطات نابعة من نفس تفيض ابتهاجا ورضا مما جعل اللوحة / القصيدة تشع بألوان الطيف وتغمرها الألوان القزحية في أخف درجاتها وهي تطل من بين قطرات المطر وتحمل للمتلقي ضوء تلك الشمعة وصمود أولئك الإخوة وتحمل بشارة النصر إذا ما تم الصبر على الحق...
بعد هذه الرحلة يأتي المشهد الثالث بالانطلاقة نفسها مبتدئا بالواو ليؤكد على الرابط الروحي والوجداني والمصيري بين الأقطاب الثلاث وليؤكد الرابط الوثيق بين المشاهد على اعتبار أنها تمثل وحدة متكاملة على المستوى اللغوي والتركيبي وعلى المستوى النفسي والواقعي وعلى المستوى الموضوعي.. فهذا الرابط الذي يحيل لغويا / نحويا على ما سبق في القصيدة نجده يجمع بين الشاعر والدعاة والأمة ـ الأقطاب الثلاث ـ ويستمد قوة الربط من ياء النسب الدالة على الشاعر والمضافة مرة إلى الإخوة ومرة إلى الأمة:وأمتي من حولكم يا إخوتي.. مما يجعل العلاقة الحميمية تلك ثلاثية الأبعاد بشكل دائري انطلاقا من العلاقة الرياضية التالية:
الشاعر الإخوة
الإخوة الأمة
الشاعر الأمة
إخوتي أمتي
فالأمة تلتف حول الإخوة والإخوة يجاهدون من أجل الأمة والشاعر يباركهم ويفخر بهم ويحثهم على الاستمرار في طريق الحق ويوضح علامات الضعف الذي تنتابهم بين الحين والآخر كما يرسم لهم الخطوات المنجيات..
إن هذه الأمة تراقب الوضع الذي آلت إليه المدينة وتطل من خلف التلال ولكن لماذا استعمل الشاعر لفظة التلال بدل الجبال مثلا؟
لأن التلال كائن طبيعي متحرك لا يمكن أن يستقر على حال ولا أن يطول عليه الزمان صامدا فكل ريح هبت إلا وسوته لتحدث تلالا أخرى في أماكن أخرى، فهل تغير الأمة هي الأخرى مواقعها مع التلال كي تبقى دائما خلف ما يحجبها ويسترها وهي تتفرج على مصير غيرها؟..
إن هذه الأمة لتراقب الحال وتشاهد المآل وتتابع تطور الأحداث ولكن طبيعة تكوين وتربية هذه الأمة تأبى أن تبقى الحال على ما هي عليه فوجودها واختيارها للترقب خلف التلال موقف يصور هشاشة الاختيار وظرفيته تماما كهشاشة وظرفية التلال كما يصور عدم اقتناع الأمة بهذا الخيار وعدم تمكن مبدإ الهزيمة من نفسها وعدم انسلاخها عن أصولها وعدم ابتعادها عن جذورها وعدم موتها قابعة في صمتها وغربتها وإلا لكان الاختيار اللاشعوري للفظة "الجبال" حائلا وساترا أولى من اختيار "التلال"..
إن الإيمان بظرفية الاختيار وهشاشته هو الذي دفع الشاعر إلى إعلان هذه الرسالة الشعرية يتوخى من خلالها تحريك الهمة في الأمة التي ينتمي إليها وإيقاظها من سباتها وتعزيز حب قيادة سفينة هذه المدينة إلى بر الأمان وتذكيرها بما أصاب الأقوام / المدن من قبلها من نكال ووبال حتى تستوعب المثال وتنهض من كبوتها وتنفض عن نفسها غبار الزمن الهش الذي حام حولها ردحا من الزمن أنساها فيه ذكر ربها وتتحرك نحو العالم الفسيح الذي هو في انتظار قومتها والذي يصبو إلى تلك المدينة الفاضلة فيتمتع فيها بالأمن والأمان والإيمان والحماية من كل بلايا ورزايا الزمان..
ويتوجه الشاعر إلى أمته والتي هي أمة إخوته بأسئلة استنكارية يحدد من خلالها مواطن الداء والوهن ويرسم طرق العلاج والدواء بأسلوب وعظي تتخلله لمسات شاعرية عالية النبرة لو ألقيت في حفل شعري على ومسمع من الأمة لفعلت فعلها في الأنفس
ووصلت إلى الأعماق لتخرجها من الاكتفاء بالملاحظة والمراقبة والمشاهدة والحوقلة وإذراف الدموع وكتابة البيانات والاحتجاجات
والسباحة في الخيال والبكاء على بقايا الأطلال فهي أمة تفيض بالعطاء دونما سؤال وما دامت تفيض فهي لا تحتاج إلى السؤال.. فلماذا تكتفي بمقعد الذين يفهمون من الحوقلة ظاهرها ويعتمدون ترديدها باللسان دون استيعابها بالوجدان وجعلها من السنان لإثبات الذات والكيان..
هذه الأمة ليست من أولئك المحوقلين ولكنها جالستهم وسمعت منهم ورضيت قولهم وفعلهم حتى تأثرت بهم كما خاضت وجالت في المدينة ونسيت قول ربها سبحانه: p .. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيرهم إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا..i(سورة: النساء الآية:139)..
لقد جالست هذه الأمة جماعة المحوقلين الذين لا يفهمون حقيقة معاني الحوقلة تلك الحقيقة التي تصور مفهوم الحوقلة على أنها تركيب لغوي يفيض بمعان نفسية عالية وأبعاد واقعية راقية وطموحات تغييرية مستمرة فحين يخرجها المؤمن بها حق الإيمان من أعماق أعماقه مسرا بها أو معلنا "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" فإنه يستمد الحول والقوة من صاحب الحول والقوة في الأصل وبذلك يأمن على نفسه ويضمن السلام والأمان لكل حركاته وسكناته لأنه يتحرك وهو يعتقد اعتقادا جازما لا يشوبه أدنى شك بأن من يسنده هو القوي ذو الجلال والحول والعلو والعظمة لا خوف ولا حزن ولا وهن...ومن ثمة فإن حركة الأمة تصبح مستوعبة للمثال وفاهمة للوضع ومتعظة من الدرس وطامحة لتغيير الواقع انطلاقا من تغيير النفس نحو الفهم الصحيح للحوقلة.. وهكذا يكون النهج سليما والطريق قويمة والتوجه واضحا بينا والواقع المتردي راقيا متطورا ويتحقق الخروج من الغربة تماما كما أخبر سيد الخلق سيدنا محمد رسول الله r حين قال فيما يرويه الإمام الترمذي في جامعه: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس.." وتنطلق العودة إلى قيادة العالم بمنطق الحكمة المنطلقة من فهم الحوقلة نفسها ورفع راية سبحان ذي الجلال والكمال فيصبح بذلك المحال هو الغريب في هذه الأمة لا مكان له فيه..
سبحان ذي الجلال والكمال
فتلك حكمة تحرك القلوب في الصدور
تزحزح الرواسخ الثقال
لعله أن يحدث الذي نظنه المحال
أن يحدث التغيير في النفوس
وذاك غاية المنال
أن يحدث الزلزال
وبهذا تنتهي القصيدة وتنتهي معها تلك المشاهد المثيرة التي تصور المدينة في شكلها الواقع رمزا للفساد العقدي والسلوكي وكل ما يترتب على هذين العنصرين في الحياة وصورت رجالا معدنهم نقي وأصيل أثبت نقاءه وأصالته من جديته في الدعوة إلى الخير والعمل على نشره والصبر عليه انطلاقا من ".. وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" كما صورت الأمة المترقبة التي نامت ثم نهضت بعد يبات طويل لتأخذ بزمام المبادرة في عالم المستقبل وأخيرا صورت النهاية الموفقة لكل من يريد الخير ويحب الفضيلة ويسعى إلى نشرهما أو على الأقل تأييدهما ودعمهما بكل الوسائل بعد أن يتشبع هو نفسه بهما..
إنها ملامح البنية التي تحكم هذا النص وتنشر عليه كله سلهامها كما تحكم أغلب إن لم أقل كل النصوص الشعرية الإسلامية المعاصرة التي تعاملت معها إما قراءة عابرة أو قراءة متأنية أو قراءة نقدية أو قراءة مقارنة.. فتأكد من خلال ذلك أنها "بنية الغربة والعودة" فطوبى للغرباء الأدباء الذين عادوا إلى ساحة الوغى وألف طوبى...
المراجع والهوامش:
1.مجلة المشكاة العددان المزدوجان 36و37 سنة 2001 وجدة المغرب الصفحة:122..
2.للاستئناس انظر قصائد "الرجل الجوف" و"الأرض اليباب" لإليوت ت. إس. و"البغي" لنزار قباني. و"المومس العمياء" لبدر شاكر السياب.. وقصائد أخرى لصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل وغيرهم..