جمالية المكان: مقاربة للمفهوم
عبد الرزاق المساوي

استطاعت مجموعة من الدراسات النقدية، والقراءات الأدبية المعاصرة أن تثير كثيرا من القضايا والمشكلات (أو الإشكاليات) والأسئلة المعرفية المتعلقة بالإبداع الأدبي، إما النابعة من طبيعته أو الناتجة عن بعض علائقه، وذلك من أجل إضاءة النص الأدبي.. حتى أصبحت تناقش قضايا جزئية تـنطلق منها كي تكون أو تؤسس فكرة كلية حول الإبداع بصفة عامة..
وأظن أن الإبداع الشعري من أصعب أبواب الإبداع الأدبي والفني فتحا، ومن أخطرها اقتحاما، ومن أكثرها إلحاحا في طرح الأسئلة والإشكاليات والبحث لها عن ردود وأجوبة في الآن نفسه.. وإن أعقد الأسئلة الشعرية لهي تلك التي تثيرها طبيعته اللغوية من حيث الدلالة والإيحاء والوظيفة مع استغلاله لكل ما من شأنه أن يغني التجربة الشعرية.. وكذلك من حيث الترميز والتمثيل والتخييل وتوظيف الشخصيات والإحالة على (أو الإماءة إلى) ما هو تاريخي أو ما هو أسطوري..
ولقد تشعبت النظرات، وتعددت القراءات، واختلفت الآراء، وتنوعت التحاليل، وتشابكت الاستخلاصات، وتضاربت النتائج، ومن ثمة أشبعت كثير من القضايا الأدبية والنقدية بحثا ودراسة.. إلا أن الملحوظ هو أن بعض القضايا النقدية الأخرى لم تلق ما تستحقه من الطرح والتحليل والدراسة، وما يجب لها من البحث والعناية، على الرغم من أنها فرضت ذاتها، وتجلت بوضوح في الإبداع الشعري المعاصر على الخصوص، وتناسلت عبر قنواته المتعددة، كما أنها استطاعت أن تثير فضول بعض النقدة المهتمين ولكن فقط أشاروا إليها أو أثاروها ضمن باب من أبواب النقد، هذا الأخير - للأسف - إما أنه لم يستفق بعد من غفلته، أو استعصى عليه أمر البحث في مثل تلك القضايا، أو أنه شغل نفسه بقضايا يرى أنها تعبر أكثر عن طموحه و أغراضه وطروحاته، أو أن تحيزه لفئة من المبدعين الذين قد لا يصل إبداعهم إلى إثارة تلك القضايا الشعرية بحدة كافية أو بجدية جلية، هو الذي حال بينه وبينها، أو أن بعض أصحاب الأقلام تركوا مثل تلك القضايا لأنها لا تسايرهم في ركبهم المذهبي أو الفكري أو الثقافي أو الانتمائي، أو هي نتاج مدرسة أدبية لا تعبر عن توجهاتهم في هذا الشأن بالوضوح الذي يتمنونه؟..
على أي حال فإن الساحة الأدبية تتفاعل فيها مشكلات نقدية كثيرة، قديمة وحديثة، لابد أن يتمخض عنها في الزمن القريب أو البعيد انضباط نقدي تجتمع فيه قضايا رئيسة معدودة فنية وفكرية تخول لنا فتح مغاليق النصوص الأدبية وسبر أغوارها وضبط آلياتها وتفكيك مكوناتها ثم إعادة تركيبها وصياغتها من جديد في تشكيلات مختلفة..
وإن " جمالية المكان " لمن القضايا النقدية المعاصرة المثيرة والمثارة في الوقت نفسه، إلا أنها لم تحض بالاهتمام الكافي والحفاوة اللائقة بها كقضية نقدية مهمة وقادرة على فك جانب كبير من جوانب المكونات الفنية والدلالية لكثير من النصوص الإبداعية، بمعنى آخر إنها لازالت قضية ينظر إليها من طرف خفي أو على استحياء، ولم تصبح متداولة على مستوى الممارسة النقدية المنتشرة بعد، على الرغم من سيطرتها على مساحة واسعة من الإبداع الأدبي ككل والشعري منه على الخصوص ..
ولا ننكر أن هناكثلة من النقاد العرب(4)استطاعت بعد زمان طويل من الانتظار أن يقتحموا هذا الباب بكل صعابه ومعوقاته متخذين من قضية "جمالية المكان" موضوعا لبعض دراساتهم خصوصا الروائية.. لكنها في مجموعها لا تكفي للتدليل على أن المسألة أضحت قضية أو إشكالية نقدية في أدبنا العربي..مع الإشارة إلى أنها دراسات تتوسل المنحى الفكري العقلي في مفهومه للمكان ومن ثمة في طرحه لجمالية المكان.. أي أنها تدرس" جمالية المكان" من جانب أحادي هو الجانب الفكري أو النفسي المحض والمباشر فقط.. وفي الأغلب الأعم تقوم هذه الدراسات على الفهم والتصور الغربيين، مع العلم أن الفكر الغربي لـه خصائصه ومرتكزاته ومقوماته ومنطلقاته وأهدافه ومحدداته، وإن روجوا لعالميته وإنسانيته،تختلف-على الأقل - مع الفكر العربي الخالص نفسه في أسسه..فما بالنا إذا قلنا الفكر الإسلامي، فالاختلاف في مثل هذا الموضوع أشد وأوضح، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن ينهل الإسلامي الحكمة من كل فكر لا يصطدم مع الأصول والمقومات والدعائم التي يفخر بها دينه..
إن قضية " جمالية المكان " في الشعر لازالت موضوعا يحتاج إلى وقفة تأمل وإنعام نظر ودراسات متأنية تراعي كل ما من شأنه أن يساعد على تشخيص "جمالية المكان" في الإبداع الأدبي عموما، والشعري منه على الخصوص، ويرصد الوظيفة الدلالية والمعاني المجازية والتعابير البلاغية والتراكيب الأسلوبية والتخييل الشاعري..وكذا القضايا الرمزية والأشكال الإيحائية والمقومات الشعرية أو الشاعرية لهذه الجمالية التي يكتسيها المكان في الشعر.. وذلك بالاعتماد على تجزئ المكان الأدبي وإفراد وحداته المادية الملموسة كالبحث في جمالية المدينة أو البيت أو الشارع أو المقهى في الشعـر أو أشياء أخرى تحمل خصائص مكانية معينة.. ولكن ليس البحث فيها على أنها فضاء مادي أو وجودي أو كوني، ولكن على أنها فضاء فني أوأدبي أي تعبير لغوي وطريقة أسلوبية تكمن خلفها وظائف دلالية يتوخى منها الإبداع التعبير عن رؤية معينة للكون والوجود والحياة والإنسان والواقع المعيش في صياغة أدبية شعرية متميزة.. وبمعنى أبسط إن جمالية المكان في الشعر لا تقوم على التشخيص المادي المحض للجمال في مكان محدد.. كأن ترصد جمالا بصريا وصفيا – أي يعتمد على حاسة البصر – ، أو تعمد إلى تحريك حاسة الاستذكار في ذهن المتلقي أي أن يطرح الشعر مكانا يجد لـه في ذهن القارئ/المتلقي نظرة معينة لها ارتباط بالأحداث والوقائع والأشخاص الذين عاشوا فيها أو لا زالوا يعيشون فيها...فهذه نظرة تاريخية تسرد الماضي وتكتفي بما يوحيه، أو تصور الحاضر وتقف عند ما يمليه، مع أن الإبداع قد لا يقصد إلى ذلك قصدا، وإن توفر فيه ذلك.. ولهذا نجد على سبيل المثال فقط كتابات عديدة تتناول بالبحث والدراسة موضوع "البحر في الأدب"(5)..ولكن لا نقرأ فيها إلا عن الرحلات التي كانت مناسبة أو سببا لقول الشعـر الحامل لموضوع البحر كمكان لغوي لكنه لا يختلف دلاليا ووظيفيا عن المكان الواقعي سواء عند العرب أو عـند غيرهم من الأمم الأخرى..
ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن الجمال البصري أو الجمال الذهني/التاريخي – إن صح هذان التعبيران – في رسم جمالية المكان، ولكن لا يكفي ذلك ولا يغني، لأن اللغة الشعرية المتميزة من طبيعتها أنها لا تحيل على الواقع الملموس في ماديته بشكل مباشر، أو هي بما أنها لغة شعرية لا تقصد إلى هذا النوع من الإحالة الجافة، وإنما تحيل على المكان في دلالاته وإيحاءاته ورمزيته ووظائفه وبنياته المفهومية..إنها لا تحيل على المكان في هندسته الطولية والعرضيه والعمودية والأفقية أو في شكله المربع أو المستطيل أو المثلث أو الدائري، أو في شكله العمراني..وإنما تحيل عليه في إطار ما يحمل من معاني تثير النفس أو تثير ما فيها من أحاسيس، وتحرك الوجدان الذي يفرز ما عنده من شعور ولا شعور، وتغني الفكر، وتمتع العقل، وتروح عن الفؤاد، وفي إطار ما يزخر به ذلك المكان من دلالات تبني أفقا شعريا ينبعث الجمال من تراسيمه.. وتحيل عليه أيضا في إطار ما يكنه من وظائف من أجلها كان هذا المكان أو ذاك مختارا في نص معين أو نصوص شعرية محددة دون غيره من الأماكن..
وفي كلمة إن الشعر يرفض التعامل مع المكان الميت أو على الأقل في شكله المشوب بالموت، بل إنه يرفض كل سكونية فيه لأنها تذكر بالموت.. إن طبيعة الشعر تأبى السكونية في كل شيء، ولأن عناصره المكونة لبنيته تتمتع بكل مواصفات الحركة والسمات الحركية.. هكذا عهدنا الشعر، وهكذا هو في أصله..أما إذا امتلك الشاعر هذا الوعي بطبيعة المكان فإنه يفعل فيه فعلا تفجيرياوخلاقا.. وهكذا تجتمع طبيعة الشعر ووعي الشاعر ليتحدا فيكونا من اللاشيء شيئا يرتع في عالم الجمال، ويزهو في فضاء السحر، ويسبح في بحر البهاء..
إن " جمالية المكان " –كما أشرنا من قبل - لا تتحدد من خلال ما يثيره فينا المكان عن ماضيه أو حاضره أو حتى مستقبله فحسب، أو ما يحركه في دواخلنا من أخبار وأحداث ووقائع تنسب إليه أو تحال عليه فقط..أو ما يبعثه فينا من تشوق إلى رؤيته أو إلى استحضاره في الذهن واستذكاره ليس غير.. إن للمكان الحق في أن يثير ويحرك ويهز فينا كل هذه الأشياء والقضايا والأمور، لأن لـه في ذاكرتنا تاريخا قد يغور في الزمان.. وتصورا قد يحمل الكثير من الدلالات.. ومشاهد قد تمتع البصر وتنعش البصيرة وتأخذ اللب وتأسر العقل وتقيد الفؤاد..ومع هذا كله نرى أن "جمالية المكان " لا تتحدد في شكلها الكامل من خلال ذاتية المكان نفسه بقدر ما تتوضح من خلال وسائل التعبير وطرائق الحديث عنه، أي من خلال ما أسموه "باللعبة اللغوية" والتي تتوضح من خلال الإشارات الأسلوبية والعمليات التعبيرية، ومن خلال الألفاظ والمفردات المنتقاة، ومن خلال التراكيب والبناء اللغوي المختار، ومن خلال الصور البلاغية وما تزخر به من خلفيات إيحائية، ومن خلال المفاهيم والدلالات والرؤى والرموز..ومن خلال ما تحققه العلائق اللغوية عندما تكوّن بارتباطها وانسجام عناصرها والتحام ألفاظها وتراكيبها صورة أو صورا ومشاهد تعبر عن رؤية معينة لهذا المكان..وفي الآن نفسه تعبر عن رؤية محددة للكون والحياة والإنسان والوجود، كما تفصح عن المستوى الطبيعي الحقيقي ممزوجا بالمستوى الذاتي النفسي والاجتماعي والعالمي والثقافي والفكري والواقعي والخيالي..
إن المكان في الإبداع الأدبي عامة وفي الإبداع الشعري على الخصوص ليس صورة (فوتوغرافية) أو شكلا مرسوما هندسيا (طوبوغرافيا) كما أنه ليس موصوفا وصفا علميا أو مشهديا أو تشريحيا، وإنما هو تعبير أو تلفظ لغوي أو دال يحمل في ذاته مدلولا ثم يحيل على مرجع معين، ثم يصير من حيث الرؤية إلى مرجع مفتوح يعطي للدال فرصة كبيرة يتناسل من خلالها(6) كما قد يرتبط بدوال أخرى ضمن تركيب لغوي معين، وفي إطار سياق أسلوبي محدد، بل وضمن نص أو نصوص إبداعية متعددة تتفق في استعمالها اللغوي للمكان نفسه.. وهذا يسعف الدال على توسيع دائرة مدلولاته ومرجعه المفتوح.. لذا أصبح لزاما أن تخرج اللفظة المكانية المستعملة في الملفوظ/المتخيل (أي أن يخرج الدال) من المستوى الملموس إلى المستوى المجرد، ومن الإطار المحسوس إلى الإطار المعنوي، ومن المرئي إلى المفهومي أو الرؤيوي،ومن مجرد التذكر إلى التفكروالارتقاء في التخيل..
إن أماكن الإبداع الشعري لغوية بالضرورة وإن أحالت على ما هو مادي في الأصل.. تتحرك في إطار ما تعطيه اللغة وما تزخر به تراكيبها وما تمنحه من معاني ومفاهيم وما تتمتع به من رؤى وما تحويه من رموز وما تكنه من تشكيل خصوصا إذا فجرها الإبداع الشعري تفجيرا شاعريا يُفيض على مفهوم المكان جمالا وسناء وسلاسة قد لا تبدو للعيان أو حتى للمتفحص الذي يعتمد على اللغة في منطوقها العادي أو في مفهومها الضيق والقاصر، أو في لعبتها غير الناضجة..أو يعتمد بعض الأدوات النقدية العتيقة/المتجاوزة، أوالتي لم ترق بعد إلى ما آلت إليه الدراسات الحديثة، أولم تتمتع بنظرة تكاملية توليدية وتفجيرية تعتصر اللغة الإبداعية اعتصارا في أساليبها وتراكيبها وعلائق كل مكوناتها كي تنتهي في ذلك وبذلك إلى الحصول على لب وأسِّ تلك اللغة وجوهرها الذي يحرك الأنفس ويدغدغ الوجدان ويرقى بالفكر ويسحر العقل ويعلو بالروح ويسمو بالفؤاد، ويبرز المادة المدروسة في جوهرهاالشفاف، وهي ترقى في معارج الأدبية والشعرية..
ويمكن أن نقسم المكان في الشعر كما في غيره من حيث المبدأ إلى قسمين اثنين: أحدهما يأتي محددا والآخر يكون غير محدد..وبلغة النحاة القدامى ينقسم المكان إلى جنس وعلم، بمعنى أنه ينقسم إلى اسم جنس وهو الذي لا يختص بواحد دون آخر من أفراد جنسه كدار ومدينة وبحر.... واسم علم وهو الذي يدل على معين بحسب وضعه كدمشق وبغداد والنيل.....(7).
أما المكان الجنس فهو أوسع دلالة وأشسع وظيفة وأغنى إيحاء وأوفى رمزا من المكان العلم، لأن هذا الأخير محدود الدلالة ويربطنا - نحن معشر المتلقين/القراء – بإطار معين وشكل محدد يفترض أننا نعرفه، كما أنه يفرض علينا التقيد به وبما يوحي به من أمور ترتبط به دون غيره، نفسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا ووجدانيا...ومع ذلك فإنه بوسع الناقد أن يستغل كل طاقاته النقدية والتحليلية والإبداعية ليزرع الروح الجمالية الواسعة في هذا المكان العلم كي يجعل منه مكانا قريب المفهوم والدلالة من المكان الجنس الذي من طبيعته أنه يفسح المجال للخيال الواسع والتأويلات المختلفة، والقراءات المتعددة، وحتى الإسقاطات المفترضة، كي يسبح في فضائه العريض ويمرح في دلالاته المتنوعة والكثيرة ويتمتع بوظائفه العديدة..

يتبع