الرجل الأول
سأنتظرك ..
قرأها كثيرا في غربته فألهبت حماسته وأحس بأن لحياته معنى وهدفا يحيا من أجله .. لم تكن ترد على خطاباته الكثيرة إلا بهذه الكلمة المقتضبة ولكنها مثلت له الكثير في غربته . وانقطعت فجأة عن الكتابة إليه . كان يتلهف لأي كلمة تأتيه منها وعزى نفسه بجفاء مباغت ألم بها بنظرة مسترسلة متوالية لرسائلها القديمة ويذكر ما قالته لحظة أن كانت تودعه و تعلقت برقبته واستشعر أنفاسها الحانية :-
- أكتب لي كل ليلة . كل لحظة . أطلعني على غربتك أولا بأول . إني بانتظارك لنحقق حلمنا الذي طال أمدا بعيدا .
ما الذي بدلها ولم تقسو عليه بغتة . لم يبق في غربته الكثير . من أجلها وحدها تغرب . نعم تحبه ولكن المرأة لم تزل تحلم بالقصر النيف والهودج المتلألئ . لا تزال تحلم بمصباح علاء الدين الذي يخرج منه الجني ليحقق كل الأماني لمن أخرجه من سجنه ليمارس حريته بعد عناء . لم كفت عن الكتابة له . أرسل لأخيه ليعرف السبب ولكنه تجاهل أمرها حتى صاحبه ظل يتجاهل سؤاله عنها مرارا ولكن خطابا وصله قتله وأدماه ..
- نور تزوجت . فكر في نفسك فقط ولتنس الماضي بكل ما فيه .
دارت رأسه.لم تركته؟. وتلقاه في المطار وما أن غدا وحدهما حتى قال :-
- لماذا ؟.
- إنساها يا أخي .
- ولكن لم ؟.
- كل الذي أعرفه أننا استيقظنا لنجد هذه الدعوة لنا . كيف تم ذلك لا أدري .
- والحب ؟.
- الحب يا أخي كلمة عذبة حلوة يلوكها اللسان وتثير قلبك وقلبي وكل القلوب ولكنها كلمة . مجرد كلمة .
- والمعنى ؟.
- المعنى أنك تعيش الآن متأثرا بلطمة الحب القوية . حتما ستنسى حين ترى غيرها تعطيك حبا ظننت نفسك مفتقده بفقدك نور
- والحلم ؟.
- الحلم جميل ولكن الأحلام تأتينا دوما في النوم أو لحظات الشرود ولن يحيا الإنسان نائما أو شاردا على الدوام!!
- وهي ؟.
- هي قنعت بما من القدر عليها .
- وأنا ؟.
- أنت أخي ذهبت وتغربت وأدركت وعرفت !!
- ذهبت من أجلها وتغربت من أجلها ولكن أدركت لنفسك وعرفت معنى الحياة الحقيقي هو نسيان الماضي . معنى الإنسان هو النسيان وستنساها حتما .
*****
عشر سنوات مضت . لكم تغيرت الدنيا . أنتظر طفلي الثالث ولم يكن لي نصيب منه وحاولت زوجتي وحاولت أن أنسيها ألمها وأنا في عجب من رغبة شهوانية مستعرة وشعور جياش بأمومة طاغية في كل امرأة . رغبة المرأة في الأمومة كرغبة حب البقاء فينا . وعلى مضض لبيت رغبة صاحبي فلست من هواة السهر وسد هو في وجهي كل سبل الاعتذار .. أذكر قول أخي ونصحه لي بالنسيان ولما أخذت بنصحه أخذت حظي من الدنيا . ورحب بي وهو لا يصدق حضوري وحاولت أن ألهي نفسي من وحدة استشعرتها فور ولوجي حفلته ولكنه بين الفينة والأخرى يناديني لأصافح صديقا أو يقدم لي من لا أعرفه . ولم أقو على تحمله فتجاهلته ولزمت مكاني حتى باغتني صوت أعرفه تنكره نفسي .
- مرحبا محمود .
هي . وقعها سحرا لم يزل بنفسي.ونسيانا كنت محبه ظانا أنه أجهز على ما لها مني فإذ بي أراني كلي لها وما مني لنفسي شيئا !!
حاولت أن أرحب بها . أن أشير لها لتجلس . أن أفعل أي شيء . ولكن كل شيء تاه وهرب لما التقت عينانا كأن عينانا استنكرتا ما فات وكأني لم أزل في لحظة وداعي لها وانتظارها . نصحك أخي ولى بنظرة عين كانت أشد قسوة من ليال طوال زعمت بنفسي قوة فأهلكت نظرة عين صرحا من وهم قوة بنته سنون عشرة !!
- كنت أتتبع أخبارك سعدت كثيرا بك .
- حقا ؟.
- ما بك ؟.
- لا شيء .
- ألا زلت حزينا ؟.
- مم ؟.
- من قديم بيننا .
- الدنيا كل يوم تتجدد والجديد يهدم القديم وينهيه أو نتجاهله .
وحاولت أن أتمادى في قولى ولكنها تركتني وقد تأبطت ذراعه وتركت صاحبي دون أن أخبره أعجب لتدابير القدر ولاحظت زوجتي ما اعتراني فصمتت . كانت تحترم صمتي وغضبي . وضعفي أيضا !!
وفوجئت بها في مكتبي وأشعلت سيجارا وقالت :-
- تغيرت كثيرا يا محمود .
- الدنيا كلها تغيرت هل سأبقى وحدي دون القانون الأبدي .
- لا تقتلني بكلماتك .
- من قتل الآخر ؟.
- وماذا كنت أفعل ؟.
- ما فعلتيه .
- لم أكن أملك سواه .
- وغربتي من أجلك .
- أحلام اليقظة أسوأ أماني الإنسان وأحلامه . حين ودعتك تخلصت من أثر الحب وقلت إلي متى الانتظار وكنت أمنى نفسي بفتى أحلامي ولكن فتى أحلامي غدا كالماء حين يغلي . يتبخر ..
كنت أرقبها ذاهلا . كيف أباحت لنفسها قتلي مجددا بكلماتها .
- كنت أحبك . ولكن قلت لنفسي إلي متى الحب . قد تغيره الغربة . إن المرأة كورقة الشجر نضوجها وجمالها في الربيع وذبولها في الخريف والجمال لا يبقي وكل رجل يريدها جميلة .
- أنت مخطئة .
- كلا .
- ألم أكن فتي أحلامك ؟.
- كان هذا فيما مضى . من بعيد كان يحق للفتاة أن تحلم بفتى أحلامها وقد تجده ثم لم تعد تقبل إلا فتاها الذي استأثر بقلبها ولكن هذا العصر ولي ولم يعد هناك فتى أحلام فتى أحلام المرأة هو الرجل الأول الذي يأتيها ويقدر جمالها اللحظي ذاك هو فتى أحلامنا الآن . كنت أحبك والآن أحترمك .
ثم ودعتني.ودعتني وقد أحرقت كل أفكاري.ودعتني وقد ضربت رأسي بعنف في حائط صلد فلم ارتد إليها أخبرتني أن فك قيدك.لم أعد أنتظرك !!
من الكتاب الأول ( الراقدون .. قياما )
حمادة البيلي
عضو نادى القصة
رئيس رابطة الكتاب العرب
نائب رئيس منتدى الثقافة الدولي