حوار هادئ عن فضيلة العلامة الإنساني الكبير محمد أمين شيخو قدس الله سره
الحسيب النسيب
(1308 ـ 1384) هـ ـ (1890 ـ 1964) م
نسبه الشريف:
يُنسب العلاَّمة الجليل محمد أمين شيخو إلى السلالة الهاشمية.. سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقد قَدِمَ جدُّه (شيخو) مع أخي جدِّه (يوسف) من الحجاز إلى مصر.. فما طاب لهما المقام إلاَّ في دمشق مهد الأنبياء، وتفرَّعت عنهما:
ـ أسرة بيت (اليوسف) الشهيرة بالغنى والثراء.
ـ وأسرة بيت (شيخو) التي تحدَّر منها فضيلة عالمنا الكبير محمد أمين شيخو.
وكلمة (شيخو) نسبة إلى اسم جدّه (شيخو) المنسوب للشجرة المحمدية من نسل الحسين عليه السلام.. فهو عربي الأصل هاشمي النسب.
نسبٌ شريفٌ طاهرٌ ساد الورى
عزّاً وإجلالاً ومجداً فاخراً
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة التوبة: الآية (32).
هلَّ هلال بدره في دمشق 1308هـ في يوم مبارك لأب دمشقي يمتهن التجارة فأحبه حبّاً عظيماً وهام في جماله وطلعة بدره وطيب حضرته الذكي
.
كان في طفولته نشيطاً ذكياً يتفجَّر بالحركة والمرح ليبعث في قلوب من حولهصفاء الحياة وبهجتها، وكلما مضى في نشأته وتطوره يوم كان يبدو عليه المزيدمن الذكاء وقوة الشخصية وهذا ما جعل مكانته لدى والديه كبيرة يكرمانهويرعيانه بكل محبة وعطف وحنان، ولكن ما لبثت يد المنية أن اختطفت ذلكالوالد الحنون وأخذته وهو في سن الشباب بعد أن أنهكه المرض وأعياه الألم.
كان لوفاته أثر كبير في قلب كل من علم الأمر، إذ خلَّف وراءه أرملة وولدين.
لم يكن السيد محمد أمين قد أتم السابعة من عمره بعد، عندما حمل المسؤولية،مسؤولية والدته وحمايتها والدفاع عنها والحفاظ عليها من الشرور التي ظهرتمن حول عائلته بعد رحيل والده عن الوجود وسفر أخيه الكبير سليم إلى تركيا.
حتى في يتمه كان متميزاً، وفي صبره على مشاق الحياة والعسر بعد اليسر،وصبره صبراً لا يطيقه الجبابرة من الرجال، وفي كونه فرداً من أفرادالعائلة الصغيرة الكريمة التي ألمت بها ظروف صعبة.
وبسبب نسبه الشريف إلى سلالة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حاز علىتقرّب من قبل كبار المسؤولين الأتراك مما مكَّن أسرته أن تقطن بحي ساروجةالتي سمُّوها "استانبول الصغيرة" والتي كان يقطنها مسؤولوا الدولة التركيةالحاكمة إذ ذاك ومكَّنه من أن يدرس في الكلية الملكية العثمانية بدمشق "عنبر"، وأنهى دراسته فيها عندما بلغ الثامنة عشر من عمره.
تخرَّج منها برتبة ضابط أمن، بذَّ أصدقاءه وأقرانه بالشجاعة الفائقةوبالأمانة والصدق والاجتهاد والدأب على العمل المتواصل والنبوغ فيه.. ولقدتولَّى العديد من أقسام الشرطة في مناطق دمشق ومديراً لنواحيها فكانالقدوة المثلى، إذ ما يلبث أن يتولَّى قيادتها حتى يعمَّ الأمن ويرفرف فوقمنطقة عمله حمام السلام.
لقد كان العين التي لا تنام.. والسهم الذي لا يُخطئ في كنانة الدولة، فماكان يعجزها مجرم أو جريمة إلاَّ وتلجأ إليه، ولا يسود الخوف والقتلوالفساد والإجرام في منطقة ما إلاَّ وكان الأمل المنقذ فيدرأ الخطرويحرِّر الرقاب.
وعندما حلَّ الوهن في جسد الدولة التركية وخمدت فيها شعلة الإسلام عمَّالفساد وامتدت جذور الفوضى في كل أرجاء البلاد وبلغ الإجرام حدّاً لايُوصف ولا يُطاق حتى صار العيش صعباً والأيام محفوفة بالأخطار والليلبهيماً ومرعباً إلاَّ في دمشق وريفها وضواحيها، حيث كانت عينه الساهرةترعى الأمن وقلبه الرحيم يكرِّس السلام
.
وبعمله وشجاعته وإقدامه واجه أعاصير المجرمين وأحاط بالكثير من العصاباتوقبض على كبارها وزعمائها، فتوّجت أعماله كلها بالنصر والتأييد حتى لُقِّب "بأصلان" أي: الأسد لِما عُرِف من بسالته وعدم مهابته للصعاب، فكانباعتماده على ربِّه رجل الأمن الوحيد الذي وقف في وجه الظلم والإرهاب، حتىوصل الأمر أن المجرمين والسارقين كانوا يلجؤون إليه ويأتون إليه خوفاً منبطشته والتماساً لعدله ورحمته ورضاه.
وهكذا تدرَّج في المناصب وتنقَّل بين الأقسام إلى أن عُيِّن مديراً لقلعةدمشق بما فيها المستودعات والسجون، وبقي فيها ردحاً من الزمن قدَّم أثناءهمن روائع البطولات والأمجاد ما لم ترَ الشام مثيله إلى الآن، حيث جازفبإطلاق سراح آلاف المحكوم عليهم بالإعدام وزجَّهم في الصفوف الأماميةللدفاع عن البلاد ضد العدو الكافر، وكان السبب في إزالة أعواد المشانق منالبلاد التي زرعها جمال باشا السفاح تعسُّفاً في أسواق البلاد وأحيائهاوالتي كانت تبتلع كل يوم المئات من أبناء الشعب. وكم تعرَّض في سبيل ذلكإلى الموت مرات ومرات فأنجاه الله بعظمته ورحمته ونصرته.
وفي عهد فرنسا وبما أنه ضابط أمن مدني أُعيد إلى تسنُّم منصبه كمدير ناحيةأو رئيس قسم، وحين اندلعت الثورة السورية الكبرى كان بحبه لربِّه ورغبتهالنبيلة في خدمة وطنه العضد والساعد للثوَّار، وشريانها الأبهر، فكانخاتمها بيده أميناً عليه فأقضَّ مضاجع الفرنسيين بمحاولاته الرهيبة لقلبالهزيمة نصراً مسلِّماً الثوَّار أكبر صفقة من الأسلحة مصدَّرة من فرنساإلى بلاد الشام، ولما قام بتسليم هذه الأسلحة التي كان الفرنسيون يضعونهافي مخازن قلعة عنجر في لبنان إلى الثوَّار ليلاً طاش صواب الجنرال "كاترو" فأصدر القرار بإعدام السيد محمد أمين. ولكن الله العلي نجَّاه ومعاونهبكلماته التامات وانقلب لديهم مكيناً أميناً "على ظنِّهم الخاطئ".
* * *
لزم الشيخ أمين كفتارو قرابة إحدى وعشرين سنة وتفانى في خدمته والإخلاص لهوالدفاع عنه، وفي الأربعين من عمره الغالي فتح الله عليه من علمه فبدأبتلاوة سورة الفاتحة شهوداً، فأضحى يمدُّ شيخه بالعلوم الربَّانية العليابشهادة شيخه، فضلاً عن مساعدته إيَّاه من جاهه وماله.
وبعد وفاة الشيخ المذكور حزن عليه كثيراً وتأثَّر لوفاته، فلقد كان خيراًعميماً يجري على يد ذلك الشيخ الطيب، ولم ينسَ لحظات الصفاء التي جمعتهماوالتي كانت سبباً ليسلك سُـبُل الهداية والدعوة إلى الله وفق كتاب اللهوسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحيد.
وبعد وفاته خلفه في تسليك المريدين فحمل لواء الإرشاد بكل قوة وجدارة.
وهو يدعى "أمين بك"، وكلمة "بك" أصلها تركي وهي تعني: الطاهر.
كان يرتاد مجالسه زهرة شباب الشام ولبنان والعراق طالبين الري من ينبوعهالمحمدي الثري المعطاء لِما فيها من جو المهابة والجلال والقدسية.
إذا المكارم في آفاقنا ذكرتفإنما بك فينا يُضرب المثل
* * *
تميَّزت مجالسه القدسية بروعة البيان وتفرّده وكمال المعنى ووضوحه وحضورالحقيقة وكمالها، فكانت كلماته تقع في نقطة الهدف وتكون في قلوب السامعينبرداً وسلاماً ونوراً يأخذ بألبابهم تطير بنفوسهم إلى عليين.
بدَّد الظلمة ومزَّق التناقضات وقضى قضاءً مبرماً على مدارس الدسوس والجدلالعقيم الذي أقام في عقول الناس فجوة كبرى بينهم وبين ربِّهم، فعرَّفالناس حقيقة الإله وكمال صفاته.. ربّاً رحيماً حكيماً عادلاً منْعِماًمتفضِّلاً يستحق العبادة لذاته وكونه صاحب الجمال والكمال، فهو الذي لايُحمد على مكروه سواه لِما يعود على المرء بالشفاء والعطاء، وهو الغني عنالعباد وعن ولائنا له وطاعتنا إيّاه، فنحن نحتاج إلى الدخول عليه في حصنالإيمان النوراني فنتَّقي به كل مكروه وسوء.
لقد كان سفر حياته الشريفة ترجمةً عالية ودستوراً واضحاً لما أتى به منبيان مُذهل تنطوي فيه حقائق مدهشة صاعقة تدير الرؤوس وتحني الجباه، فكانتالحقيقة نوراً والصورة برهاناً وكان المثل والتطبيق العملي الصحيحعنواناً.. بيان قد عجزت عن مثيله وإلى الآن حضارات العالم وقوانين الدنياالوضعية..
لِمَ خُلِقنا؟. ولِمَ هذا الكون العظيم، ما فائدة طقوس الدين؟.
لِمَ الجوع فالأكل برمضان؟. ما مردود وفائدة الصلاة؟.
لِمَ الحج في صحارٍ، لا ماء فيها ولا شجر؟.
لِمَ وجدنا؟. وأين كنّا؟. لِمَ الموت وماذا حقّاً بعده؟.
ما هي النفس؟. ما هي الروح؟. وما العقل؟.
ماهية الجنَّة؟. ماهية جهنم؟.
القضاء والقدر؟. عالَم الأزل؟.
حقائق وأسئلة غابت عن أذهان الناس، إذ انشغلوا بالدنيا وزخرفها ونسوا أن يبحثوا في ملفات الوجود ويتعرَّفوا على أسراره.
حتى لقد قال فيه عالِم العصر الإنكليزي الشهير السير "جون بينت" قول حق إبان اجتماعه بعلماء الغرب:
"إن كل ما توصَّلنا إليه من علوم لا يعدل بحر ذلك العالِم الكبير في الشرق".
* * *
منهجه في الدعوة:
لقد كانت دعوته إلى الله انطلاقاً من منهج لا يعرف الخطأ أبداً:
{قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاوَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَالْمُشْرِكِينَ** سورة يوسف: الآية (108).
على ضوء هذه الآية الكريمة قام يدعو إلى الله ما ينوف عن ثلاثين عاماً بصورةٍ يدور فيها حول النقاط التالية:
ـ تعريف الناس بكمال الله تعالى وبيان رحمته بعباده وعدله في خلْقه، وردّ كلما علق بالأذهان وما دار على الألسنة مما يتنافى مع العدالة والرأفةوالرحمة وسائر الكمالات الإلهية ونبراسه في ذلك قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ** سورةالأعراف: الآية (180).
ـ بيان كمال الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين شهد الله تعالى في كتابهالكريم بطهارة نفوسهم وعصمتهم وجعلهم مُثُلاً عليا للعالمين يقتدون بهم،كما ورد في كتابه الكريم "عصمة الأنبياء" وذلك ما لم تستطعه الأوائل. ودحضكل افتراء أو تفسير يتنافى مع سموِّهم ورفيع مكانتهم متمسِّكاً في ذلكبقوله تعالى:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} سورة الأنعام: الآية (90).
ـ الدعوة إلى التمسُّك بأهداب الشرع الشريف، وتقوى الله حق تقاته مع تحذيرالإنسان من أن يُتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني راجعاً إلى قولهتعالى:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْيَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِوَلِيّاً وَلا نَصِيراً} سورة النساء: الآية (123).
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الكيِّسُ مَنْ دانَ نفسَهُ وعمل لمابعدَ الموْت، والعاجزُ من أتبعَ نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني ».
ـ إرشاد الناس إلى خطوات الإيمان الصحيح وفق ما بيَّنه رسول الله صلى اللهعليه وسلم لأصحابه الكرام أخذاً عن كتاب الله، إذ ما من امرئٍ خالطت بشاشةالإيمان قلبه إلا استقام على أمر الله وكان له رادعٌ من نفسه، وقد أشارتعالى إلى ذلك بقوله الكريم:
{..وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ..} سورة التغابن: الآية (11).
ـ توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وبيان شأنه العالي عند اللهثمَّ الإرشاد إلى طريق محبته صلى الله عليه وسلم، وبيان ما تثمره محبة تلكالنفس الزكية الطاهرة من إقبال بصحبتها على الله واصطباغ النفس المؤمنةالمستشفعة بها بكمالٍ من الله تأسياً بقوله تعالى:
{..فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواالنُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورةالأعراف: الآية (157).
ـ كان عمراً غالياً ثميناً قضاه هذا الإنسان الطاهر بالجهاد والرغبة فيالتقرُّب من الله.. وبهذا القرب نال ما نال من درجات وكمال.. وحقَّق ماحقَّق من أمجاد وأعمال مشحونة بالجهاد الإنساني المقدَّس.. وبالتضحياتالإنسانية الكبرى.. حتى كانت حياته مثلاً أعلى لسلوكٍ أسمى من أجل نصرةالحق.. ببطولات لا مثيل لها هزمت الباطل وجعلته زهوقاً.
ـ لقد رهن حياته الثمينة بأجمعها لخدمة أخيه الإنسان.. يُسابق عجلة الأيامفي جريها ويُضاهي الشمس بنورها.. وقد تحوَّل على يديه ليل الشام إلى نهارلما يسطع عليها من أنوار أعماله وبركات تضحياته حتى كان يواصل الليلبالنهار متجاوزاً عن راحته ولو لم يطرق النوم له جفناً عدة ليال متوالياتباستثناء غفوات وهو يحاول ويُجاهد في سبيل إنقاذ أخيه الإنسان من مستنقعاتالحزن والآلام غير مبالٍ بما يعترضه من أخطار الموت أو الإعدام ولا بمايتكبده في سبيل الله من مال أو تنازلات.. وكثيراً ما كان يبقى خاوي الوفاضعلى الرغم من سابق غناه المادي.. وهنا فلا غرابة ولا غرور أن يفتح اللهعليه بليلة مباركة ذلك الفتح المبين حتى يُشاهد ملكوت الإله ويعرج بنفسهفي تلك العوالم القدسية العليّة المحمَّدية التي هيَّأ الله له والتي حصلعليها بصدقه ومجهوده وتضحياته.. كذلك فكل من جاهد لأجلها وصدق في حبِّهوطلبه لله وللرسول صلى الله عليه وسلم فالباب مفتوح له ولكل سالك مريدصادق.
ـ فعلى هذا المنوال الرائع قضى حياته الغالية الزاخرة بالمعرفة بالله التيلا يطمئن القلب إلاَّ بها ولا تسعد البشرية إلاَّ إذا حصلت عليها.. فكانالسراج الذي يُضيء للأجيال طريقها إلى السعادة بكتاب الله والنبراس الذييهدي البشرية إلى ما تصبو إليه من الكمال والسعادة والفضيلة والحياةالطيبة من الله إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في غرَّة شهر ربيع الآخر عام 1384 هـ، ووُري جثمانه الطاهر الشريف بمقبرة نبي الله "ذي الكفل" في حيالصالحية.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ممَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَال إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}سورة فصلت: الآية (33(.