وصلت للمربد الرسالة التالية :

" يفكر الرجال بالعودة أكثر ما يفكرون بالرحيل "
سانتياغو الراعي
باولو كويلهو


القبر



رجع إلى وطنه بعد غربة دامت عشرين عاما .. عشرون عاما والأيام تحاول اغتصابه وتزرع في عموده الفقري انثناء عشرون عاما .. والأبيض يحاول أن يغزو السواد .. والاثنين صارت ثلاثة .. والبعاد صار قريبا جدا.. (1)
ردد في مخيلته .. سوف يستقبلني ما بقى من أهلي بهيلولة كبيرة .. أرجو أن لا يحضروا معهم زفة غيطة 2) وأحرج في المطار .. نعم هذه الغربة لها فعل السحر لتجعل الكل يحبك .. وأنا لم أقصر مع أحد .. لقد أحضرت الكثير من الهدايا -وكل شيء طبعا من موطنه الأصلي، حتى الأشواق ولا شيء مقلد إلا الدموع.



حين هبطت الطائرة هبط معها قلبه، ثم ارتفع إلى حدود ربطة عنقه، حتى كاد يشعر به في حلقه .. ماذا سوف أفعل حين أهبط إلى المطار؟ .. ردد: هل أقبل الأرض التي مشيت عليها ورضعت من حليبها..؟ لن أتمكن من ذلك فالكل سوف يحاول معانقتي أولا ولمس شعري الذي طال وأصبح أنعم وأجمل .. وسوف يحاول الآخرون رؤي! ة وتحسس ملابسي التي هي على آخر موضة .. بل هناك من سوف يحاول معرفة نوع العطر الذي أضعه على جسدي الممتلئ .. سوف يتفحصونني في محاولة لاستخراج الفوارق السبع بيني وبين آخر صورة لي في ذاكرتهم .. إلخ إلخ إلخ..

حين هبطت الطائرة وخرج من الباب وحيدا .. حيث أنه كان المسافر الوحيد على متنها .. صعق حتى كاد شعره الجميل الذي طال وصار أجمل، كاد أن يسقط .. ردد .. لا أحد في استقبالي ليقبلني ويستنشق عطري الجميل ويلمس شعري الطويل الناعم .. ولا حتى أحد يفتش حقائبي التي تمتلئ بالهدايا .. والأحزان .. والذكريات .. والأشواق المزيفة .. وبعض المغامرات الكاذبة .. وكثير من قصص الهوى المزورة .. وكلها تحت بند: تغرب واكذب .. !!!.

لكنه لم يجد أحدا .. فالكل قد مات .. كل شيء في بلاده مات منتحرا .. حتى شرطي الجمارك ورجال الأمن انتحروا لأنهم لم يعد بإمكانهم ممارسة أمراضهم على خلق الله.

كان انتحارا جماعيا .. ومن لم يحضر الوليمة انتحر ببطء .. فأبشع صور الانتحار هي الانتظار.

لم يجد سوى عدة قبور بعضها لم يردم بعد .. يبدو أنه لم يتوفر الوقت فحتى الرادم كان يخاف أن يفوته قطار الانتحار! .. وبعض تلك القبور ردمت ولكن ليس جيدا لعدم توفر الأيدي الحافرة .. لمح قبورا لها نصب من رخام مكتوب عليها (يا أيها النفس المطمئنة) عن أي اطمئنان يتحدث الرخام؟.

حتى الموت مترف في بلادي .. فهناك قبور لها مواقع تجارية .. وقبور لا يعرف موقعها حتى ناكر ونكير .. ولم يفكر يوما أن يضع حتى الغراب فراخه هناك.

كان كل شئ ميت .. حتى النخلة الوحيدة التي كان عرجونها الممتلئ رطبا جيدا يتدلى على بيوت جيراننا وبيتنا .. وخيركم خيركم لأهلكم.

عند نهاية السلم في الطائرة لمح شيئا شد انتباهه وبعثر التخبط في داخله وكل علامات الاستفهام والتعجب تسمرت داخل جمجمته التي يغطيها شعره الجميل .. وحين نزل السلم بحذر محاولا التقرب منه .. تبين أن ذلك الشيء ما كان إلا حفرة .. وقبل أن يصل إليها لكي يتفحص ما بقعرها ويكتشف ماهيتها تعـثر .. وبماذا؟.. بحقيبته الممتلئة .. أحزانا .. وأشواقا .. وذكريات .. وهدايا ودموع .. تلك الحفرة لم يكن في قعـرها شيء .. فلقد كانت قبره!.



التوقيع: ميلاد السـوقي
العجوز دائما

السويـد

_____________________________________________
(1) الشيب .. والقدمان .. والنظر
(2) فن من الفنون الشعبية الليبية