نيويورك مساء السبت 21 أيار 1921

يا مي يا صديقتي

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , هذه حقيقة بسيطة ظهرت لي منذ حين فانفتحت في روحي نوافذ وأبواب جديدة , ولما قررتها رأيتني واقفاً أمام مشاهد ما كنت أحلم بوجودها في هذا العالم.

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , ومن هذا الكثير وهذا الحنو قد تعلمت الصلاة بفرح والحنين بطمأنينة والامتثال بدون انكسار. لقد عرفت أن الرجل المستوحد يستطيع أن يغمر وحدته بنور " الكثير" ويزيل الاجهاد في عمله بحلاوة " الحنو" . وعرفت أن الغريب المستوحش يستطيع أن يكون أباً وأخاً ورفيقاً وصديقاً- وفوق كل ذلك أن يكون طفلاً فرحاً بالحياة. " كثيراً وبحنو" إن في هذا الكثير وهذا الحنو أجنحة تخيم وأيادٍ تبارك. صحتي اليوم أحسن مما كانت عليه منذ شهر , لكنني لم أزل مريضاً, وهذا الجسم الضعيف ما برح بدون نظام وبدون وزن وبدون قافية. وأنت تريدين أن أقول لك مم أشكو , فإليك خلاصة ما قاله الأطباء :

" اضطراب عصبي سببه الاجهاد ونقص في التغذية أدى إلى اضطراب في الجهاز العام للقلب فكان تسرع النبض نتيجة حتمية له, وقد بلغت نبضاته 115 في الدقيقة في حين أن النبض الطبيعي هو في حدود (80)."

أي يا ميّ, ففي العامين الغابرين قد حمّلت جسمي فوق طاقته, فكنت أصور ما دام النور وأكتب حتى الصباح وألقي المحاضرات وأختلط بجميع أنواع البشر – وهذا العمل الأخير هو أصعب شيء أمام وجه الشمس- وكنت اذا جلست إلى مائدة الطعام أشغل نفسي بالكلام والمتكلمين حتى تحضر القهوة فأتناول منها الشيء الكثير وأكتفي بها طعاماً وشراباً. وكم مرة عدت إلى منزلي بعد منتصف الليل وبدلاً من الخضوع إلى سنة الله في أجسامنا كنت أنبّه ذاتي بالحمامات الباردة وبالقهوة القوية وأصرف ما بقي من الليل كاتباً أو مصوراً – أو على الصليب. ولو كنت شبيهاً بقومي سكان شمال لبنان لما قبضت عليّ العلة بهذه السرعة. هم كبار الأجسام أقوياء البنية أما أنا فبعكس ذلك ولم أرث عن أولئك الأشداء حسنة واحدة من حسناتهم الجسدية. ها قد أشغلت فسحةً كبيرة بالكلام عن مرضي, وكان الأحرى بي أن لا أفعل – ولكن ما العمل وأنا لا أستطيع إلا الجواب على كل سؤال من سؤالاتك الممنطقة بحلاوة الاهتمام " والرغبة والتمني".

أين الرسالة الطويلة المقطعة المكتوبة بقلك رصاص وعلى ورق بلدي مربع التسطير في حديقة جميلة أمام صف من الذهبيات؟ أين رسالتي يا مي؟ لماذا لم تبعثي بها إلي؟ أريد الحصول عليها, أريدها بكلياتها وجزئياتها. أتعلمين مقدار رغبتي في الحصول على تلك الرسالة بعد أن قرأت نتفة منها- تلك النتفة القدسية التي جاءت فجراً ليوم جديد. أتعلمين أنه لولا خوفي من كلمة " وبجنون" لكنت بعثت إليك ليلة أمس برقية أرجوك فيها تسليم الرسالة إلى البريد؟

أترين فيَّ الطيبة يا ميّ؟ وهل أنت بحاجة إلى الطيبة؟ هذا كلام جارح بعذوبته فبما أجيب عليه؟ إذا كان في كياني يا صديقتي ما أنت في حاجة إليه فهو لك بكليته . ليست الطيبة فضيلة بحد ذاتها أما عكسها فجهالة- وهل تقطن الجهالة حيث " كثيراً وبحنو"؟

إذا كانت الطيبة في محنة الجميل وفي التهيب أمام النبيل وفي الشوق إلى البعيد والخفي- إذا كانت الطيبة في هذه الأشياء فأنا إذن من الطيبين, أما إذا كانت في غير هذه الأشياء فأنا لا أدري ما ومن أنا. وإني أشعر يا مي أن المرأة السامية تستلزم وجود الطيبة في روح الرجل حتى ولو كان جاهلاً.

حبذا لو كنت الساعة في مصر. حبذا لو كنت في بلادي قريباً ممن تحبهم نفسي. أتعلمين يا مي أنني في كل يوم أتخيل ذاتي في منزل في ضواحي مدينة شرقية وأرى صديقتي جالسة قبالتي تقرأ في آخر مقالة من مقالاتها التي لم تنشر بعد, فنتحدث طويلاً في موضوعها ثم نتفق على إنها أحسن ما كتبته حتى الآن. وبعد ذلك أنتشل من بين مساند فراشي بعض الأوراق وأقرأ قطعة كتبتها أثناء الليلة الغابرة فتستحسنها صديقتي قليلاً ثم تقول في سرها " يجب ألا يكتب وهو في هذه الحالة. إن تراكيب هذه القطعة تدل على الضعف والوهن والتشويش- عليه ألا يأتي بعمل فكري حتى يتعافى تماماً"- تقول صديقتي هذا في سرها وأنا أسمعه في سري فأقتنع بعض الاقتناع ثم لا ألبث أن أقول بصوت عالٍ " أمهليني قليلاً, أمهليني أسبوعاً أو أسبوعين فأتلو عليك قطعة جميلةً , جميلة للغاية". فتجيبينني بصراحة " يجب أن تمتنع عن الكتابة والتصوير وكل عمل آخر عاماً أو عامين, وإن لم تمتنع فأنا عليك من الساخطين!" – تلفظ صديقتي كلمة " الساخطين" بلهجة ملؤها " الاستبداد المطلق" ثم تبتسم كالملاكة فأحتار دقيقة بين سخطها وابتسامها, ثم أجدني فرحاً بسخطها وابتسامها- وفرحاً بحيرتي.

وعلى ذكر الكتابة – أتدركين مقدار سروري وابتهاجي وافتخاري بما ظهر لك من المقالات والحكايات في الشهور الأخيرة؟ ما قرأت لك قطعة إلى وشعرت بنمو وتمدد في قلبي, وما قرأتها ثانية إلا وتحولت عمومياتها إلى شيء شخصي فأرى في الأفكار والقوالب ما لم يره سواي وأقرأ بين السطور سطوراً لم تكتب إلا لي. أنت يا مي كنز من كنوز الحياة, بل وأكثر من ذلك- أنتِ أنتِ, وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا من أبناها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه. كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه.

بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أذهب إلى البرية فأسكن بيتاً صغيراً منتصباً كالحلم بين البحر والغابة – وما أجمل تلك الغابة , وما أكثر أطيارها وأزهارها وينابيعها. كنت في الأعوام الغابرة أسير وحيداً منفرداً في تلك الغابة. وكنت أذهب عشية إلى البحر وأجلس كئيباً على الصخور أو أرمي بنفسي إلى الأمواج كمن يريد أن يتملص من الأرض وأشباحها. أما في هذا الصيف فسأسير في الغابة وأجلس أمام البحر وفي روحي ما ينسيني الوحدة وفي قلبي ما يشغلني عن الكآبة.

أخبريني يا ميّ ما أنت فاعلة في هذا الصيف؟ أذاهبة إلى رمل الاسكندرية أم إلى لبنان؟ أذاهبة وحدك إلى لبناننا؟ أي متى يا ترى أعود إلى لبنان؟ أتستطيعين أن تقولي لي أي متى أتخلص من هذه البلاد ومن القيود الذهبية التي حبكتها منازعي حول عنقي؟

أتذكرين يا مي قولك لي مرة أن صحفياً في بيونيس آيريس قد بعث إليك برسالة يطلب فيها رسمك ومقالة من مقالاتك؟ لقد فكرت مرات عديدة في طلب هذا الصحفي وفي ما يطلبه جميع الصحفيين وكنت في كل مرة أقول متحسراً " لست بصحفي! لست بصحفي! لذلك يتعذر عليّ أن أطلب ما يطلبه الصحفيون. لو كنت صاحب مجلة أو محرر جريدة لطلبت رسمها بكل حرية, وبدون خجل, وبدون وجل, وبدون توطئة منسوجة من الألفاظ المرتعشة" كنت ولم أزل أقول هذا في قلبي, فهل سمع الذين اتخذوا قلبي وطناً لهم؟

ها قد انتصف الليل وللآن لم أخط الكلمة التي تلفظها شفتي وتلفظها تارة همساً وطوراً بصوت عالِ. إني أضع كلمتي في قلب السكينة فالسكينة تحتفظ على كل ما نقوله بحنو وحرقة وإيمان. والسكينة يا ميّ تحمل صلاتنا إلى حيث نريد أو ترفعها إلى الله.

أنا أذهب إلى فراشي. وسوف أنام الليلة طويلاً . وسوف أقول لكِ في الحلم ما لم أخطه على هذه الورقة. مساء الخير يا مي. الله يحرسكِ



[align=left:78d5d3bbbf]جبران[/align:78d5d3bbbf]



[align=center:78d5d3bbbf]***[/align:78d5d3bbbf]



نيويورك صباح الاثنين 30 أيار 1921


يا مي , يا ماري , يا صديقتي

( ماري هو اسم مي الأصلي , إلا أنها اختارت الثاني مختصرة اسم ماري إلى مي وهو الاسم العربي الجميل الذي تغنى به الشعراء. وقد غلب عليها واشتهرت به وأصبح اسمها الأدبي والشخصي.)

استيقظت الساعة من حلم غريب. ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة, والأمر الذي يزعجني في هذا الحلم ويزعجني جداً – هو أنني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً. ليس في حياتنا شيء أدعى إلى التفكير والتأمل من الأحلام. وأنا من الذين يحلمون كثيراً, بيد أنني أنسى أحلامي إلا إذا كانت ذات علاقة بمن أحبهم. لا أذكر أنني حلمت في ماضيَّ حلماً أوضح من هذا الحلم, لذلك أراني مشوشاً مضطرباً مشغول البال في هذا الصباح. ماذا تعني رنة التوجع في كلماتكِ الجميلة؟ وما معنى الجرح في جبهتكِ؟ و أيّ بشري يستطيع أن يخبرني مفاد انقباضي وكآبتي؟

سوف أصرف نهاري مصلياً في قلبي. أصلي لأجلكِ في سكينة قلبي. وسوف أصلي لأجلنا.

والله يباركك يا ميّ ويحرسك



[align=left:78d5d3bbbf]جبران[/align:78d5d3bbbf]



[align=center:78d5d3bbbf]***[/align:78d5d3bbbf]



نيويورك 9 أيار 1922


صديقتي الفاضلة.

تسألينني يا سيدتي ما إذا كنت وحيد الفكر والقلب والروح , فبما يا ترى أجيبك؟ أشعر أن وحدتي ليست بأشد ولا أعمق من وحدة غيري من الناس. كلنا وحيد منفرد. كلنا سر خفي. كلنا محجوب بألف نقاب ونقاب, وما الفرق بين مستوحد ومستوحد سوى أن الأول يتكلم عن وحدته والثاني يظل صامتاً. وقد يكون في الكلام بعض الراحة, وقد يكون في الصمت بعض الفضيلة.

لا أدري يا سيدتي ما إذا كانت وحدتي بما فيها من الكآبة مظهراً " لهوى بعض شخصياتي" أو برهاناً على عدم وجود شخصية في هذا الكائن الذي أدعوه " أنا" , لا, لا أدري. ولكن إذا كانت الوحدة عنوان الضعف فأنا بدون شك أضعف الناس.

أما مقالة" نفسي مثقلة بثمارها" فلم تكن " أنة شاعر في ساعة غمّ عابرة" بل " صدى لعاطفة عمومية قديمة مستتبة شعر ويشعر بها الكثيرون", وسيدتي تعلم أن ميلنا إلى سكب ما في أرواحنا في كؤوس الآخرين لأشد بما لا يقاس من الرغبة في الارتواء مما يسكبه الآخرون في كؤوسنا. تلك صفة لا تخلو من الغرور في بعض الأحايين ولكنها طبيعية.

ما أحسن قولكِ" إن كربة الوحدة وتباريحها تشتد وسط الجماهير". هذه حقيقة أولية . فكم مرة يجلس الواحد منا بين أترابه ومريديه فيحدثهم ويجادلهم ويشاركهم بالأقوال والأعمال- يفعل كل ذلك بإخلاص ومسرة, ولكن فعله لا يتعدى حدود الذات المقتبسة من عالم المظهر , أما ذاته الأخرى, ذاته الخفية, فتبقى ساكنة مستوحدة في عالم المصدر.

الناس, وأنا منهم, ميالون إلى الدخان والرماد, أما النار فيخافونها لأنها تبهر العين وتحرق الأصابع. الناس, وأنا منهم, منصرفون إلى درس ثنايا قشور بعضهم بعضاً , أما اللباب فيتركونه وشأنه لأنه لا يقع تحت حواسهم. وكيف يستطيع اللباب أن يظهر إلا بكسر القشرة؟ وليس من الأمور الهينة أن يمزق المرء قلبه ليرى الناس مكنونات قلبه. وهذه هي الوحدة يا سيدتي, وهذه هي الكآبة.

قد أسأت التعبير- وبشيء من القصد- عندما قلت لكِ في أواخر الصيف الغابر " منذ ستة أسابيع وأنا أحاول الكتابة إليكِ" كان يجب أن أقول" من ستة أسابيع وأنا أستأجر بعض الناس للاهتمام برسائلي لأن أعصاب يميني لم تكن صالحة للكتابة" ولم أحلم قط بأن لفظة " أحاول" ستتحول إلى مبضع في يد صديقتي. كنت أتوهم أن الأرواح المجنحة لا تسجن في قفص من الألفاظ. وكنت أتوهم أن الضباب لا يتحجر وكنت أتوهم وأتوهم وأجد الراحة والطمأنينة في أوهامي, حتى إذا ما طلع الفجر واستيقظت وجدتني جالساً على رابية من رماد وفي يدي قصبة مرضوضة وعلى رأسي اكليل من الشوك.. لا بأس فأنا المخطىء , أنا , أنا المخطىء يا " مي" .

أرجو أن تحقق الأيام رغبتك في السفر إلى أوربا . سوف تجدين , خصوصاً في إيطاليا وفرنسا, من مظاهر الفن والصناعة ما يسرك ويبهجك. هناك المتاحف والمعاهد, وهناك الكنائس القديمة الغوطية, وهناك آثار نهضة القرنين – الرابع عشر والخامس عشر , وهناك أفضل ما تركته الأمم المغلوبة والأمم المنسية. أوربا يا سيدتي مغارة لص غاوي خبير يعرف قيمة الأشياء النفيسة ويعرف كيف يحصل عليها.

كان بقصدي الرجوع إلى الشرق في الخريف الآتي. ولكن بعد قليل من التفكير وجدت أن الغربة بين الغرباء أهون من الغربة بين أبناء وبنات أمي. وأنا لست ممن يميلون إلى الهيّن ولكن القنوط فنون كالجنون.
تفضلي بقبول تحيتي مشفوعة بأحسن تمنياتي والله يحفظك.


[align=left:78d5d3bbbf]
المخلص
جبران خليل جبران[/align:78d5d3bbbf]



[align=center:78d5d3bbbf]***[/align:78d5d3bbbf]



نيويورك 5 تشرين الأول 1923


لا يا مي , ليس التوتر في اجتماعاتنا الضبابية بل في اجتماعاتنا الكلامية. ما لقيتكِ في ذلك الحقل البعيد الهادئ إلا وجدتك الصبية العذبة العطوفة التي تشعر بكل الأشياء وتعرف كل الأشياء وتنظر إلى الحياة بنور الله وتغمر الحياة بنور روحها. لكن ما اجتمعنا بين سواد الحبر وبياض الورق إلا رأيتكِ ورأيتني أرغب الناس في الخصام والمبارزة – المبارزة العقلية المفعمة بالقياسات المحدودة والنتائج المحدودة.

الله يسامحكِ. لقد سلبتني راحة قلبي, ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني.من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا.
يجب ألا نتعاتب , يجب أن نتفاهم. ولا نستطيع التفاهم إلا إذا تحدثنا ببساطة الأطفال. أنتِ وأنا نميل إلى الإنشاء بما يلازم الإنشاء من المهارة والتفنن والتنميق والترتيب. قد عرفنا, أنتِ وأنا, أن الصداقة والإنشاء لا يتفقان بسهولة. القلب يا مي شيء بسيط ومظاهر القلب عناصر بسيطة, أما الإنشاء فمن المركبات الاجتماعية. ما قولكِ في أن نتحول عن الإنشاء إلى الكلام البسيط؟

" أنت تحيين فيَّ وأنا أحيا فيكِ , أنتِ تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك".

أليست هذه الكلمات القليلة أفضل بما لا يقاس من كل ما قلناه في الماضي؟ ماذا يا ترى كان يمنعنا عن التلفظ بهذه الكلمات في العام الغابر؟ أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية أم ماذا؟ منذ البدء عرفنا هذه الحقيقة الأولية فلماذا لم نظهرها بصراحة المؤمنين المخلصين المتجردين؟ لو فعلنا لكنا أنقذنا نفسينا من الشك والألم والندم والسخط والمعاكسات, المعاكسات , المعاكسات التي تحول عسل القلب إلى مرارة وخبز القلب إلى تراب. الله يسامحك ويسامحني.

يجب أن نتفاهم , ولكن كيف نستطيع ذلك بدون أن يقابل الواحد منا صراحة الآخر بالتصديق التام؟ أقول لكِ يا ماري, أقول لك أمام السماء والأرض وما بينهما, أنني لست ممن يكتبون " القصائد الغنائية" ويبعثون بها إلى الشرق وإلى الغرب كرسائل خصوصية, ولست ممن يتكلمون صباحاً عن نفوسهم المثقلة بالأثمار وينسون مساءً نفوسهم وأثمارها وأثقالها, ولست ممن يلمسون الأشياء المقدسة قبل أن يغسلوا أصابعهم بالنار, ولست ممن يجدون في أيامهم ولياليهم الفسحات الفارغة فيشغلونها بالمداعبات الغزلية, ولست ممن يستصغرون أسرار أرواحهم وخفايا قلوبهم فينشرونها أمام أية ريح تهب, أنا كثير الأشغال مثل بعض الرجال الكثيري الأشغال, أنا أتوق إلى العظيم والنبيل والجميل النقي مثل بعض الرجال الذين يتوقون إلى العظيم والنبيل والجميل والنقي, وأنا غريب مستوحد مستوحش مثل بعض الرجال المستوحدين المستوحشين رغم سبعين ألف صديقة وصديق. وأنا مثل بعض الرجال, لا أميل إلى البهلوانيات الجنسية المعروفة عند الناس بأسماءٍ حسنة ونعوت أحسن, وأنا يا مي مثل جاركِ وجاري, أحب الله والحياة والناس, ولحد الآن لم تطلب مني الأيام أن ألعب دوراً لا يليق بجاركِ أو بجاري.

لما كتبت إليك في البداية كانت رسالتي دليلاً على ثقتي بك, لما جاوبتني كان جوابك دليلاً على الشك. كتبت إليك مضطراً فأجبتني متحذرة. حدثتك عن حقيقة غريبة فأجبتني بكل لطف قائلة " عافاك يا شاطر, ما أحسن قصائدك الغنائية." أنا أعلم جيداً أنني لم أتبع إذ ذاك السبل المألوفة. وأنا لم أتبع ولن أتبع السبل المألوفة. وأنا أعلم أن تحذرك كان من الأمور المنتظرة, وهذا, هذا هو سبب ألمي , لأنني لم أنتظر المنتظر. لو كتبت لغير ميّ لكان عليّ أن أنتظر المنتظر. ولكن هل كان بإمكاني إظهار تلك الحقيقة لغير ميّ ؟

والغريب أنني لم أندم بعد ذلك. لا لم أندم بل بقيت متمسكاً بحقيقتي راغباً في إظهارها لكِ, فكتبت إليكِ مرات عديدة وكنت أحصل بعد كل مرة على الجواب اللطيف, ولكن من غير ميّ التي أعرفها. كنت أحصل على الجواب اللطيف من كاتمة أسرار ميّ , وهي صبية ذكية تعيش في القاهرة بمصر. ثم ناديت وناجيت, وكنت أحصل على الجواب نعم كنت أحصل على الجواب ولكن ليس من تلك التي " أحيا فيها وتحيا فيَّ " بل من امرأة متحذرة متشائمة تأخذ وتعطي معي كأنها المدّعي العمومي وكأنني المُدّعى عليه.

وهل أنا ناقم عليكِ؟

كلا , لكنني ناقم على كاتمة أسراركِ.

وهل حكمت عليك حكماً عادلاً أم غير عادل؟

كلا, لم أحكم أبداً. إن قلبي لا ولن يسمح بإيقافك أمام منصة القضاء, قلبي لا ولن يسمح لي بالجلوس عليها. إن ما بنا يا ميّ يقصينا عن جميع المحاكم. ولكن لي رأي في كاتمة أسراركِ وهو هذا :

كلما جلسنا لنتحدث تدخل علينا حضرتها وتجلس قبالتنا كمن يستعد لتدوين وقائع جلسة من جلسات مؤتمر سياسي. اسألك, اسألك يا صديقتي, هل نحن بحاجة إلى كاتمة الأسرار؟ هذا سؤال مهم. إذا كنتِ حقيقةً بحاجة إلى كاتمة أسراركِ فعليَّ إذاً أن أستدعي كاتم أسراري لأنني أنا أيضاً أريد تسيير أشغالي على الطراز الأول! أتريدين كاتم أسراري أن يكون معنا؟

انظري يا ميّ: ههنا طفلان جبلاويان يمشيان في نور الشمس, وهناك أربعة أشخاص امرأة وكاتمة أسرارها ورجل وكاتم أسراره. ههنا طفلان يسيران يداً بيد, يسيران بإرادة الله إلى حيث يريد الله, وهناك أربعة أشخاص في مكتب يتجادلون ويتحاجون ويقومون ويقعدون وكل منهم يحاول إثبات ما يظنه حقاً له على حساب ما يظنه بُطلاً في الآخر. ههنا طفلان, وهناك أربعة أشخاص, فإلى أية جهة يميل قلبك؟ قولي لي إلى أية جهة؟

آه لو كنتِ تعلمين مقدار تعبي مما لا لزوم له. لو كنت تعلمين مقدار حاجتي إلى البساطة. لو كنت تعلمين مقدار حنيني إلى المجرد, المجرد الأبيض, المجرد في العاصفة , المجرد على الصليب, المجرد الذي يبكي لا يستر دموعه , المجرد الذي يضحك ولا يخجل من ضحكة- لو تعلمين , لو كنت تعلمين.

" وماذا أنا فاعل في هذا المساء"؟

ليس الوقت مساءً. نحن في الساعة الثانية بعد منتصف الليل فإلى أي مكان تريدين أن نذهب في هذه الساعة المتأخرة ؟ الأفضل أن نبقى هنا , هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوق حتى يدنينا الشوق من قلب الله. وهنا نستطيع أن نحب البشرية حتى تفتح لنا البشرية قلبها.

ها قد قبّل النعاس عينيك.

لا تنكري أن النعاس قد قبل عينيك. لقد رأيته يقبلهما. قد رأيته يقبلهما هكذا, هكذا كما يقبلون , فالقي رأسك هنا, إلى هذه الجهة ونامي, نامي صغيرتي, نامي فأنت في وطنكِ.

أما أنا فسوف أسهر , سوف أسهر وحدي . علي أن أبقى خافراً حتى الصباح. قد ولدت لأبقى خافراً حتى الصباح.

الله يحرسكِ. الله يبارك سهري . الله يحرسك دائماً.



[align=left:78d5d3bbbf]جبران[/align:78d5d3bbbf]



[align=center:78d5d3bbbf]***[/align:78d5d3bbbf]