.. نَهَضْتَ باكراً.. تناولْتَ وجبة فطورك.. ارتديت ثيابك.. قبَّلت يد أمك.. طلبت منها أن تدعو لك بالتوفيق. خرجت من المنزل.. راقبت الأطفال عند باب المدرسة وهم يعدون.. يصرخون و يمرحون .. ابتسمت وكلمت نفسك،لا أدري ما الذي قلته لنفسك،لأنك احتفظت به لنفسك، استحضرْتَ لحظاتٍ غابرةً من زمن الطفولة، حين كنتَ في مثل عمرهم، تعدو وتصرخ و تمرح و تحلم..و تخرج لسانك الصغير في وجه هذا العالم الوقح*..و تقول: عاهرة أنت أيها الحياة.. و أنا ملك الدعارة..
.....تنفَّسْتَ بعمق فَمَلأَتْ خياشيمَ أنفك رائحةٌ لها طعم لذيذ، ما كنْتَ تعتقد من قبل أن للتراب رائحة تعيد لك حيويتك التي فقدتها من زمان.. خاصة بعد سقوط رذاذ في مثل هذا الوقت من اليوم...فامتزجت رائحة التراب برائحة الأطعمة الصادرة من الدكاكين التي يستعد أصحابها لتهيئ الوجبات التي سيبتاعها - جحافل البؤساء- كما كنت تسميهم؛ عمال و عاملات المصانع المجاورة، وقت يسمح لهم بأخذ استراحة وجبة الغذاء، استراحة لا تتجاوز مدتها خمسة عشر دقيقة، ووجبة لا يتجاوز ثمنها خمسة دراهم، فيصبح العمال في سباق مع الزمن لالتهام شيء شبيه بالطعام، ما أن يوضع في الفم حتى يصل إلى المخرج ، لعدم وجود المعدة ما تهضم...


عبَرْتَ الزقاق المفضي إلى التل المشرف على الميناء، جلسْتَ القرفصاء قرب شجرة ماتت أوراقها من زمن بعيد،كما ماتت أحلامك في هذا القبر الذي يسمونه الوطن، ألقيت ببصرك نحو الأفق حيث تراءى لك في الضفة الأخرى عشرات الأيادي تُلَوٍّحُ لك و عشرات الأحضان مفتوحة مستعدة لاستقبالك.. قلت في نفسك و لنفسك، : أعرف كل تلك الأيدي وتلك الأحضان، نعم أعرفها؛ يدا نيتشه و اسبينوزا وتلك، نعم؛ وحضن يسبرس و هايدجر و ديكارت و كانط و ليبنتز و فويرباخ و..و ..كلهم يلوحون لك.. وتسمع صدى أصواتهم تصل إلى أذنك و هي تردد أن تعال.. أن أقبل.. وفوق رؤوهسم ضوء قوي أبيض..
مرَّ قربك بعض من رجال بلدتك..قرأوا لك السلام ، لم ترد عليهم و همس أحدهم :"مجنون" شرزتهم بنظرتك القاسية و قلت:": و إذا خاطبهم.. صمَتَّ قليلاً وتابعت ،قالوا سلاماً" و أردف الجمع "صدق الله العظيم". بديت كأنك لم تكترث لما سمعت،و نار الشتيمة تولع في أحشائك، وقلت بصوتك ا لجهوري:" قل أعوذ برب الفلق.." و صمَتَّ فردد من كان ماراً قربك : "من شر ما خلق".
طال انتظارك ؛ و طال انتظار أهل الضفة الأخرى، مالت الشمس نحو المغيب، و كفت الأيدي عن التلويح..و استدارت مشت وغابت عن ناظرك..
عدت إلى بيتك.. في طريقك وقفت عند المقبرة، المقسمة إلى قسمين، تذكرت يوم كنت صغيراً و سألت أباك عن سر التقسيم، أجابك إجابة غامضة احتفظت منها ب"جماعة"،" المُحِْرقون" و "جماعة المحروقة كتبُهم".لم تفهم يومها شيئاً، اقتربت من القبر بدأت تحفر بيد عارية وتخرج ما به، و ضعت يدك على جمجمة ..أزلت الغبار عنها و رفعتها إلى مستوى وجهك و بدات يصرخ لماذا؟ لماذا ؟ لماذا؟.....
· اقتباس من عنوان رواية "إخراج اللسان الصغير في وجه العالم الكبير" لمؤنس الرزاز

تطوان 17/02/2007