أمي فاطمة
بعد جهد جهيد، أستفيق متثاقلا من نوم لم أذق حلاوته منذ مدة، أرفع رأسي لأزيل غطاء فراشي حينما يزعجني منبه هاتفي برناته المتتالية، أصبحت تخيفني هذه الرنات وأرتعش عندما تدوي في مسامعي، وبسرعة تراني حاملا محفظتي، مسرعا إلى عملي، أغتنم بعض الدقائق لأتناول فطوري واقفا في مطعمي المعهود، حيث ما زالت الأزقة خالية في هذا الوقت المبكر من اليوم، باستثناء بعض المارة، موظفون يقصدون مكاتبهم، عمال يتوجهون إلى ورشاتهم، فتيات عائدات من المعامل بعدما كددن طول الليل، وقبل وصولي إلى المطعم تتراءى صورتها في مخيلتي، محياها، طلائع ابتسامتها، السن اليتيمة التي ما زالت عالقة في فمها الأدرد، أجدها جالسة قرب المطعم، تتلحف غطاء مرقعا باليا، تحيط بها قطع الكرتون كي تحتمي من برد الشتاء القارس، من الكلاب الضالة،من بعض المتسكعين الذين قد يتحرشون بها، قد يزيلون عنها الغطاء كي يسخروا منها مقهقهين في ليلها البهيم، أدقق النظر فيها عندما تزيل منديل رأسها فيظهر شعرها الأحمر المنتفش، تحاول تصفيفه بيدها، أرثي حالها وأقول في نفسي: إنها دوائر الزمن وما فعلت بهذه العجوز، ورغم تجاعيد وجهها، وشيخوختها، مازالت ملامح البشرة البيضاء والوجه الصبوح بادية للعيان، خاصة عندما تستعطف بعض زبناء المطعم بتحيتها الحنونة، فتقول: "صباح الخير يا ولدي صباح الخير يا ابنتي أعانكم الله" لعلهم يجودون عليها بكأس قهوة ساخن أو قطعة حلوى أو زلفة حساء ساخن، يشتري لها البعض ما تريد ويكتفي البعض بإعطائها قطع نقدية لا تغني ولا تسمن من جوع، تأتي فتاة شقراء جميلة كل صباح لتناول الفطور في هذا المطعم، هاتف محمول في يدها، يبدو أنها تشتغل ليلا، عيناها منتفختان من قلة النوم،أثر مساحيق التجميل باد على وجهها، صوتها مبحوح، تستقبلها العجوز بترحيب كبير، كيف كان العمل البارحة يا ابنتي؟ جيد يا أمي فاطمة تجيب الفتاة، فليحفظك الله ويرعاك يا بنيتي، عندما أراك تكبر الدنيا في عيني، أحبك يا ابنتي، دامت لك الصحة والعافية، تعاملها الفتاة بطيبوبة كبيرة، تجود عليها بسخاء، يتبادلان حديثا، كأن أما تتحدث مع ابنتها، تودع الفتاة العجوز فرحة بهذه الدعوات المباركة وتقول: إن أمي وابنتي ينتظراني، تعقب العجوز: حفظهما الله كذلك.
يتكرر عطف الفتاة كل صباح، وتتكرر دعوات العجوز كل صباح، يتردد صداها في أطراف الأبنية المتقابلة،تلتقطها بعض آذان المارة في الصباح الباكر، العجوز لا تعلم أن الفتاة الشقراء التي تغدق عليها المشتريات بائعة هوى تمتهن الدعارة، تقضي الليلة مخمورة في بيوت أحد الزبناء، تتقاضى أجرها، تتصدق بشيء قليل منه، تحمل هموم بنت وأم وعجوز في قرارة نفسها، عجوز تنتظر، أم تتلهف، بنت تترقب، فراخ مسنة في أعشاشها تنتظر،تنتظر وجبة الفطور المدنس، أزقة تردد أغنية الانتظار، شوارع تعيد لازمة قصيدة العار، شيخوخة تقاوم الانتحار، رذيلة تغذي الصغار، تحتفل الخطيئة بالانتصار.
22-01-2007
خليد خريبش