وليس بمنكر أن ما وصفناه من هذا الحال يشبه في بادئ ما نشاهده من حالة لغتنا اليوم، وما لم نزل ننعاه عليها منذ حين، من تقصيرها عن الوفاء بمطالبنا العصرية،إلا أن ذلك إذا استقريت أوجهه وأسبابه، وسبرت غور اللغة في نفسها، وقست مبلغ استعدادها، علمت أنه ليس منها في شيء وأيقنت أنها لا تزال في ريعان شبابها وطور ترعرعها، وأن فيها بقية صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة. ولكن ما أدركها من ذلك وارد من قبل الأمة، وتخلفها في حلبة الحضارة والمدينة إذ اللغة بأهلها، تشب بشبابهم وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم.

وبديهي أن اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها. وقد اختصت هذه اللغة بميزية عز أن توجد في غيرها، وهي أن أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعا، إلا أنها من أكثرهن صيغا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب فضلا عما فيها من تشعب طرق المجاز.