مسائل خلافية

أبو البقاءعبد الله بن الحسين العُكْبُري
538- 616
نبده عن صاحب الكتاب:

هو أبو البقاءعبد الله بن الحسين العكبري ، له مصنفات كثير في التفسير والنحو، أشهرها إعراب القرآن، وكذلك إعراب الحديث، والتلخيص في الفرائض، إلى جانب كتب أخرى ،على سبيل المثال لا الحصر : التهذيب في النحو، اللباب في علل الإعراب، وغيرها...

نبده عن الكتاب:

يمكن اعتبار هذا الكتاب صورة عن المسائل الخلافية بين المدرستين الكوفية والبصرية ، والجدل الدائر بين كلتا المدرستين، تعرض فيه العكبري إلى خمس عشرة مسألة في النحو، وبين الخلاف فيها ، وساق حجج كل فريق؛ وهو غالبا ما ينتصر للبصريين .

طريقة عرض العكبري طريقة جدالية تتسم بقوة البرهنة، وعموماً فإن أسلوبه يتصف بنوع من الصعوبة، لكنه على الرغم من ذلك فهو مفهوم لمن ألِفَ طريقة القدماء الحِجَاجِيَّة.





بسم الله الرحمن الرحيم

  • مسألة: الكلام والجملة
الكلام عبارة عن الجملة المفيدة فائدة تامة، كقولك: زيد منطلق، وإن تأتني أكرمك، وقم وصه، وما كان نحو ذلك؛ فأما اللفظة المفردة نحو: زيد وحده ونحو ذلك، فلا يسمى كلاما بل كلمة. هذا قول الجمهور، وذهب شرذمة من النحويين إلى ان الكلام يطلق على المفيد وغير المفيد إطلاقا حقيقيا؛ والدليل على القول الأول انه لفظ يعبر بإطلاقه عن الجملة المفيدة، فكان حقيقة فيها كالشرط وجوابه، والدليل على انه يعبر به عنها لا إشكال فيه، إذ هو متفق عليه وإنما الخلاف في تخصيصه بذلك دون غيره وبيان اختصاصه بها من ستة أوجه:

احدها: انه ُيطلق بإزائها فيقال هذه الجملة كلام، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

والثاني: ان الكلام تؤكد به الجملة كقولك: تكلمت كلاما، وكلمته كلاما والمصدر المؤكد نائب عن إعادة الجملة، ألا ترى ان قولك: قمت قياماً، وتكلمت كلاما، تقديره قمت قمت لان الأصل في التوكيد إعادة الجملة بعينها، ولكنهم آثروا ألا يعيدوا الجملة بعينها فجاؤوا بمفرد في معناها، والنائب عن الشيء يؤدي عن معناه.

والثالث:ان قولك: كلمته،عبارة عن أنك أفهمته معنى بلفظ والمعنى المستفاد بالإفهام تام في نفسه، فكانت العبارة عنه موضوعة له، لا مبينة عنه، والكلام هو معنى كلمته.

والرابع:ان مصدر تكلمت:التكلم وهو مشدد العين في الفعل والمصدر والتشديد للتكثير وادني التكثير الجملة المفيدة؛ أما كلمت فمشدد أيضا وهو دليل الكثرة ومصدره:التكليم والتاء والياء فيه عوض عن التشديد.

والخامس: ان الأحكام المتعلقة بالكلام لا تتحقق إلا بالجملة المفيدة فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } (6) سورة التوبة؛ ومعلوم ان الاستجارة لا تحصل إلا بعد سماع الكلام التام المعنى والكلمة الواحدة لا يحصل بها ذلك وكذلك قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } (15) سورة الفتح؛ والتبديل صرف ما يدل اللفظ عليه إلى غير معناه ولا يحصل ذلك بتبديل الكلمة الواحدة لأن الكلمة الواحدة إذا بدلت بغيرها كان ذلك نقل لغة إلى لغة أخرى، وقال تعالى: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (75) سورة البقرة؛ وإنما عقلوا المعنى التام ثم حرفوه عن جهته ومثله قوله تعالى: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } (46) سورة النساء؛ ومن ذلك تعليق اليمين بسماع الكلام فانه لو قال والله لا سمعت كلامك فنطق بلفظة واحدة ليس فيها معنى تام لم يحنث.

والسادس: ان العرب قد تتجوز بالقول عن العجماوات، كقول الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني سلا رويدا قد ملأت بطني

وهو كثير في استعمالهم ولا ينسب الكلام إلى مثل ذلك فلا يقال: تكلم الحوض ولا الحائط ولا سبب لذلك إلا ان الكلام حقيقة في الفائدة التامة والقول لا يشترط فيه ذلك. ، وإذا ثبت ما ذكرناه بأن انه حقيقة في الدلالة على الجملة التامة المعنى فان قيل يتوجه عليه أسئلة؛ احدها: ان إطلاق اللفظ على الشيء لا يلزم منه الحقيقة فان المجاز يطلق على الشيء كما يقال للعالم بحر وللشجاع اسد وقال الله تعالى : { جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ } (77) سورة الكهف؛ و {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } (82) سورة يوسف، وكل ذلك مجاز وقد أطلق على هذا المعنى فلا يلزم من الإطلاق على ما ذكرتم الحقيقة ، السؤال الثاني: ان الإطلاق يكون حقيقة مشتركة أو جنسا تحته مفردات فالمشترك كلفظ العين والجنس مثل الحيوان فان الحيوان حقيقة في الجنس والواحد منه حقيقة أيضا فلم لا يكون الكلام والكلمة من هاتين الحقيقتين ، والسؤال الثالث:ان الكلام مشتق من الكلم وهو الجرح والجامع بينهما التأثير، والكلمة كذلك لان الحروف الأصول موجودة فيها، وهي مؤثرة أيضا إذا كانت تدل على معنى، وهي جزء الجملة التامة الفائدة والجزء يشارك الكل في حقيقة وضعه، ألا ترى ان الحق يثبت بشاهدين مثلا، وكل واحد منهما شاهد حقيقة واثبات الحق بهما لا ينفي كون كل واحد منهما شاهدا، كذلك ها هنا ألا ترى أن قولك: قام زيد، يشتمل على جزأين كل واحد منهما يسمى كلمة لدلالته على معنى وتوقف الفائدة التامة على حكم يترتب على المجموع ولا ينفي ذلك اشتراك الجزأين في الحقيقة، وعلى هذا ترتب التحريف والتبديل إذ كان كله حكما يستفاد بالجملة ولا ينفي حقيقة الوضع، ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } (5) سورة الكهف؛ وبقوله: { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا } (40) سورة التوبة؛ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } (115) سورة الأنعام؛ ومعلوم انه أراد بالكلمة الجملة المفيدة ، وإذا وقعت الكلمة على المفرد جاز ان يقع الكلام على المفرد.

والجواب: إما الإطلاق فدليل الحقيقة إذ كان المجاز على خلاف الأصل، وإنما يصار إليه بقرينة صارفة عن الأصل، والأصل عدم القرائن ثم ان البحث عن الكلام الدال على الجملة المفيدة لا يوجد له قرينة بل يسارع إلى هذا المعنى من غير توقف على وجود قرينة، وهذا مثل لفظ العموم إذا أطلق حمل على العموم من غير ان يحتاج إلى قرينة تصرف إليه، بل ان وجد تخصيص احتاج إلى قرينة وأما السؤال الثاني: فلا يصح على الوجهين المذكورين؛ أما الاشتراك ففيه جوابان احدهما: انه على خلاف الأصل إذا كان يخل بالتفاهم، ألا ترى انه إذا أطلق لفظ العين لم يفهم منها ما يصح بناء الحكم عليه والكلام، إنما وضع للتفاهم، وإنما عرض الاشتراك من اختلاف اللغات، والثاني: ان الاشتراك هنا لا يتحقق لان الكلام والكلمة من حقيقة واحدة ولكن الكلام مجموع شيئين فصاعدا والكلمة اللفظة المفردة ولا اشتراك بينهما؛ وإنما الكلام مستفاد بالأوصاف والاجتماع وليس كذلك المشترك، بل كل واحدة من ألفاظه كالأخرى في كونها مفردة ؛ وأما الجنس فغير موجود هنا، لأن الجنس يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث نحو: تمرة وتمر، وهذا غير موجود في الكلام والكلمة بل جنس الكلمة كلم وليس واحد الكلام كلامه فبان انه ليس بجنس. وأما السؤال الثالث: فخارج عما نحن فيه وبيانه ان اشتقاق الكلمة من الكلم،وهو التأثير والكلام تأثير مخصوص لا مطلق التأثير والخالص غير المطلق يدل عليه ان الكلم الذي هو الجرح مؤثر في النفس معنى تاما وهو الألم مثلا؛ والكلام أشبه بذلك لأنه يؤثر تأثيرا تاماً؛ وأما الكلمة المفردة فتأثيرها قاصر لا يتم منه معنى إلا بانضمام تأثير الآخر إليه فهما مشتركان في أصل التأثير لا في مقداره؛ وأما المعارضة بقوله تعالى: كبرت كلمةً ، فلا يتوجه لان أكثر ما فيه انه عبر بالجزء عن الكل وهذا مجاز ظاهر إذا كان الواحد ليس بجمع ولا جنس بل قد يعبر به عن الجمع والجنس؛ مجازا ووجه المجاز ان الجملة تتألف بعض أجزائها إلى بعض كما تتألف حروف الكلمة المفردة بعضها إلى بعض فلما اشتركا في ذلك جاز المجاز وليس كذلك التعبير بالكلام عن الكلمة لان ذلك نقيض معناها؛ ودليل المجاز في الكلمة ظاهر؛ وهو قوله:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (5) سورة الكهف؛ والكذب لا يتحقق في الكلمة المفردة وإنما يتصور فيما هو خبر والخبر لا يكون مفردا في المعنى؛ واحتج الآخرون بأن الاشتقاق موجود في الكلمة، والكلام بمعنى واحد وهو التأثير فكان اللفظ شاملاً لهما يدل عليه أنك تقول: إما تكلمت كلمة وإما تكلمت بكلمة، فيؤكد باللفظة المفردة الفعل كما يؤكد بالكلام فيلزم من ذلك إطلاق العبارتين على شيء واحد؛ والجواب: عن هذا ما تقدم في جواب السؤال الثالث؛ والله اعلم بالصواب
  • مسألة: حد الاسم
اختلف عبارات النحويين في حد الاسم وسيبويه لم يصرح له بحد فقال بعضهم: الاسم ما استحق الإعراب في أول وضعه، وقال آخرون: ما استحق التنوين في أول وضعه، وقال آخرون: حد الاسم ما سما بمسماه فأوضحه وكشف معناه، وقال آخرون: الاسم كل لفظ دل على معنى مفرد في نفسه ولم يدل على زمان ذلك المعنى، وقال ابن السراج: هو كل لفظ دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان محصل، وزاد بعضهم في هذا دلالة الوضع، وقبل الخوض في الصحيح من هذه العبارات نبين حد الحد الصحيح، والعبارات الصحيحة فيه مختلفة الألفاظ متفقة المعاني فمنها، اللفظ الدال على كمال ماهية الشيء وهذا حد صحيح لأن الحد هو الكاشف عن حقيقة المحدود ويراد بالماهية ما يقال في جواب ما هو، واحترزوا بقولهم: كمال الماهية من ان بعض ما يدل على الحقيقة قد يحصل من طريق الملازمة لا من طريق المطابقة، مثاله: ان تقول حد الإنسان هو الناطق فلفظ الحد يكشف عن حقيقة النطق ولا يدل على جنس المحدود وان كان لا ناطق إلا الإنسان ولكن ذلك معلوم من جهة الملازمة لا من جهة دلالة اللفظ، ومثاله من النحو: المصدر يدل على زمان مجهول، وليس كذلك فان لفظ المصدر لا يدل على زمان البتة ، وإنما الزمان من ملازماته فلا يدخل في حده ولو دخل ذلك في الحد لوجب أن يقال: الرجل والفرس يدلان على الزمان والمكان إذ لا يتصور انفكاكهما عنهما ولكن لما لم يكن اللفظ دالا عليهما لم يدخلا في حده، وقال قوم: حد الحد هو عبارة عن جملة ما فرقه التفصيل، وقال آخرون حد الحد ما اطرد وانعكس وهذا صحيح لان الحد كاشف عن حقيقة الشيء فاطرداه يثبت حقيقته أينما وجدت وانعكاسه ينفيها حيثما فقدت، وهذا هو التحقيق بخلاف العلامة فان العلامة تطرد ولا تنعكس ألا ترى أن كل اسم دخل عليه حرف الجر والتنوين وما أشبههما، أين وجد حكم بكون اللفظ اسما ولا ينتفي كونه اسما بامتناع حرف الجر ولا بامتناع التنوين، وإذ قدما حقيقة الحد فنشرع في تحقيق ما ذكر من الحدود وإفساد الفاسد منها، أما قولهم: الاسم كل لفظ دل على معنى مفرد في نفسه فحد صحيح إذ الحد ما جمع الجنس، والفصل واستوعب جنس المحدود وهو كذلك ها هنا ألا ترى ان الفعل يدل على معنيين حدث وزمان وأمس، وما أشبهه يدل على الزمان وحده فكان، الأول: فعلا والثاني: اسما والحرف لا يدل على معنى في نفسه فقد تحقق فيما ذكرناه الجنس والفصل والاستيعاب، وأما قول ابن السراج فصحيح أيضا، فان الاسم يدل على معنى في نفسه ففيه احتراز من الحرف وقوله غير مقترن بزمان محصل يخرج منه الفعل فانه يدل على الزمان المقترن به، وأما المصادر فلا دلالة لها على الزمان لا المجهول ولا المعين على ما ذكرنا ومن قال منهم يدل على الزمان المجهول فقد احترز عنه بقوله محصل فان المصدر لا يدل على زمان معين، وأما من زاد فيه دلالة الوضع،فانه قصد بذلك دفع النقض بقولهم أتيتك مقدم الحاج، وخفوق النجم واتت الناقة على منتجها فان هذه مصادر، وقد دلت على زمان محصل فعند ذلك تخرج عن الحد، ، وإذا قال دلالة الوضع لم ينتقض الحد بها لأنها دالة على الزمان لا من طريق الوضع وذلك ان مقدم الحاج يتفق في أزمنة معلومة بين الناس لا أنها معلومة من لفظ المقدم، والدليل على ذلك أنك لو قلت: أتيتك وقت مقدم الحاج صح الكلام وظهر فيه ما كان مقدرا قبله، والتحقيق فيه ان الحدود تكشف عن حقيقة الشيء الموضوع؛ أولا فإذا جاء منها شيء على خلاف ذلك لعارض لم ينتقض الحد به ويأتي نظائر ذلك فيما يمر بك من المسائل. فأما من قال هو ما استحق الإعراب في أول وضعه، أو ما استحق التنوين فكلام ساقط جداً وذلك إن استحقاق الشيء لحكم ينبغي ان يسبق العلم بحقيقته حتى يرتب عليه الحكم ألا ترى انه لو قال في لفظة ضرب هذا اسم لأنه يستحق الإعراب في أول وضعه لاحتجت ان تبين أنه ليس باسم ولا يعترض في ذلك بالإعراب وعدمه ولو قال قائل إن إعرابه أو احكم باستحقاقه الإعراب لقيل له ما الدليل على ذلك فقال لأنه اسم فيقال له، ما الدليل على انه اسم فان قال بعد ذلك، لأنه يستحق الإعراب، أدى إلى الدور لأنه لا يثبت كونه اسما إلا باستحقاق الإعراب، ولا يستحق الإعراب إلا بكونه اسما وهكذا سبيل التنوين وغيره . وإما قول الآخر ما سما بمسماه فحد مدخول أيضا، وذلك انه أراد ما سمى مسماه، ولهذا قال فأوضحه فجعل في الحد لفظ المحدود ، وإذا كنا لا نعلم معنى الاسم فكيف يجعل فيما يوضحه لفظا مشتقا منه وذلك ان الاشتقاق يستدعي فهم المشتق منه أو لا ثم يؤخذ منه لفظ آخر يدل على معنى زائد ؛ قال عبد القاهر في شرح جمله: حد الاسم ما جاز الإخبار عنه ، قال والدليل على ذلك من وجهين: أحدهما: انه مطرد ومنعكس وهذا إمارة صحة الحد، والثاني: ان الفعل لا يصح الإخبار عنه، والحرف لاحظ له في الإخبار، فتعين ان يكون الاسم هو المخبر عنه إذ لا يجوز ان تخلو الكلمة من إسناد الخبر إليها، ، وإذا كان الفعل والحرف والاسم لا يسند إليه خبر ارتفع الإخبار عن جملة الكلام،والدليل على انه ليس بحد، وإنما هو علامة،وقد اختار ذلك عبد القاهر في شرح الإيضاح،ان هذا اللفظ يطرد ولا ينعكس والدليل عليه قولك: إذ ، وإذا، وأيان، وأين، وغير ذلك وأنها أسماء ولا يصح الإخبار عنها، فعند ذلك يبطل كونه حدا والوجه الثاني ان قولك ما جاز الإخبار عنه لا ينبئ عن حقيقة وضعه وإنما هو من أحكامه، ولذلك لو ادعى مدع ان لفظة ضرب يصح الإخبار عنها بأن يقول ضرب اشتد كما تقول الضرب مشتد لم يصح معارضته بالمنع المجرد حتى يبين وجه الامتناع والحد لا يحتاج إلى دليل يقام عليه لأنه لفظ موضوع على المعنى ودلالة الألفاظ على المعاني لا تثبت بالمناسبة والقياس فإن قيل: إذا ، وإذا، ونحوهما يصح الإخبار عنها من حيث أنها أوقات وأمكنة وكلاهما يصح الإخبار عنه، وإنما عرض لها أنها لا تقع إلا ظروفا فمن حيث هي ظروف لا يخبر عنها ومن حيث هي أوقات وأمكنة يصح الإخبار عنها، ألا ترى أنك لو قلت طاب وقتنا واتسع مكاننا كان خبرا صحيحاً والجواب: ان كونها ظروفا أوصاف انضمت إلى كونها وقتا ومكانا لم تستعمل إلا بهذه الصفة، فهي كالخصوص من العموم والخصوص لا يحد بحد العموم، ألا ترى ان الإنسان حيوان مخصوص ولا يحد بحد الحيوان العام لأن ذلك يسقط الفصل الذي يميز به من بقية أنواع الحيوان، والحد ما جمع الجنس، والفصل والوقت الذي يدل عليه، إذا هو الجنس وكونه ظرفا بمنزلة الفصل كالنطق في الإنسان وبهذا يحصل جواب قوله يطرد وينعكس لأنا قد بينا انه لا ينعكس والله أعلم بالصواب.
  • مسألة: أدلة اسمية كيف
كيف اسم بلا خلاف وإنما ذكرناها هاهنا لخفاء الدليل على كونها اسماً والدليل على كونها اسماً من خمسة أشياء:

احدها: أنها داخلة تحت حد الاسم، وذلك أنها تدل على معنى في نفسها ولا تدل على زمان ذلك المعنى.

والثاني: أنها تجاب بالاسم، والجواب على وفق السؤال وذلك قولهم: كيف زيد؟ فيقال: صحيح أو مريض أو غني أو فقير، وذلك أنها سؤال عن الحال فجوابها يكون حالا.

والثالث: أنك تبدل منها الاسم فتقول: كيف زيد؟ أصحيح أم مريض؟ والبدل هاهنا مع همزة الاستفهام نائب عن قولك: أصحيح زيد أم مريض؟ والبدل يساوي المبدل منه في جنسه.

والرابع: ان من العرب من يدخل عليها حرف الجر قالوا: على كيف تبيع الأحمرين؟ وقال بعضهم؟ انظر إلى كيف يصنع؟ وهذا شاذ في الاستعمال ولكنه يدل على الاسمية.

والخامس: ان دليل السبر والتقسيم اوجب كونها اسما وذلك ان يقال لا تخلو كيف من ان تكون اسماً أو فعلا أو حرفاً، فكونها حرفاً باطل لأنها تفيد مع الاسم الواحد فائدة تامة كقولك: كيف زيد؟ والحرف لا ينعقد به وبالاسم جملة مفيدة. فأما " يا" في النداء ففيها كلام يذكر في موضعه.

وكونها فعلا باطل أيضا لوجهين:

احدهما: أنها لا تدل على حدث وزمان ولا على الزمان وحده.

والثاني: ان الفعل يليها بلا فصل كقولك: كيف صنعت؟ ولا يكون ذلك في الأفعال إلا ان يكون في الفعل الأول ضمير كقولك: اقبل يسرع؛ أي: أقبل زيد أو رجل، وإذا بطل القسمان ثبت كونها اسما لأن الأسماء هي الأصول ، وإذا بطلت الفروع حكم بالأصل. والله اعلم بالصواب
  • مسألة: اشتقاق لفظ اسم
الاسم مشتق من السمو عندنا، وقال الكوفيون من الوسم، فالمحذوف عندنا لامه وعندهم فاؤه ؛ لنا فيه ثلاثة مسالك المعتمد منها ان المحذوف يعود في التصريف إلى موضع اللام، فكان المحذوف هو اللام كالمحذوف من ابن، والدليل على عوده إلى موضع اللام أنك تقول: سميت وأسميت، وفي التصغير سُمَيٌّ، وفي الجمع أسماء وأسامٍ، وفي ُفعيل منه سمي أي اسمك مثل اسمه . ولو كان المحذوف من أوله لعاد في التصريف إلى أوله، وكان يقال: اوسمت ووسمت ووسيم ووسيم واوسام . وهذا التصريف قاطع على أن المحذوف هو اللام فان قيل هذا إثبات اللغة بالقياس وهي لا تثبت به.

والثاني: ان عود المحذوف إلى الأخير لا يلزم منه ان يكون المحذوف من الأخير بل يجوز ان يكون مقلوبا وقد جاء القلب كثيرا عنهم كما قالوا لهي أبوك فأخروا العين إلى موضع اللام، وقالوا الجاه، واصله الوجه وقالوا أينق واصله أنوق، وقالوا قسى واصله قووس، وقالوا في الفوق فقا والأصل فوق؛ ، وإذا كثر في كلامهم جاز ان يحمل ما نحن فيه عليه.

والجواب: أما الأول فغير صحيح فانا لا نثبت اللغة بالقياس بل يستدل بالظاهر على الخفي خصوصا في الاشتقاق، فان ثبوت الأصل والزائد والمحذوف لا طريق له على التحقيق إلا الاشتقاق، ويدل عليه لفظ ابن فأنهم قالوا: بني وأبناء وتبنيت، والبنوة علم ان المحذوف لامه. وأما دعوى القلب فلا سبيل إليه فان القلب مخالف للأصل فلا يصار إليه ما وجدت عنه مندوحة ولا ضرورة هنا تدعو إلى دعوى القلب ويدل على ذلك ان القلب لا يطرد هذا الاطراد ألا ترى أن جميع ما ذكر من المقلوبات يجوز إخراجه على الأصل.

المسلك الثاني:أناَّ اجمعنا على ان المحذوف قد عوض عنه في أوله فوجب ان يكون المحذوف في آخره كما ذكرنا في ابن، وإنما قلنا ذلك لوجهين:

احدهما: أنا عرفنا من طريقة العرب أنهم إذا حذفوا من الأول عوضوا أخيراً مثل: عدة وزنة، ، وإذا حذفوا من آخره عوضوا من أوله مثل: ابن، وهنا قد عوضوا في أوله فكان المحذوف من آخره.

والثاني: ان العوض مخالف للبدل فبدل الشيء يكون في موضعه والعوض يكون في غير موضع المعوض منه، فلو كانت الهمزة عوضا من الواو في أوله لكانت بدلا من الواو ولا يجوز ذلك؛ إذ لو كانت كذلك لكانت همزة مقطوعة ولما كانت إلف وصل حكم بأنها عوض؛ فإن قيل التعويض في موضع لا يوثق بان المعوض عنه في غيره لان الغرض منه تكميل الكلمة وأين كملت حصل غرض التعويض ألا ترى أن همزة الوصل في ِاضرب وبابه عوض من حركة أول الكلمة وقد وقعت في موضع الحركة.

فالجواب: ان التعويض على ما ذكرنا يغلب على الظن ان موضعه مخالف لموضع المعوض منه، لما ذكرنا من الوجهين؛ قولهم الغرض تكميل الكلمة ليس كذلك، وإنما الغرض العدول عن أصل إلى ما هو اخف منه، والخفة تحصل بمخالفة الموضع؛ فأما تعويضه في موضع محذوف فلا تحصل منه خفة لان الحرف قد يثقل بموضعه فإذا أزيل عنه حصل التخفيف.

المسلك الثالث: ان اشتقاق الاسم من السمو مطابق للمعنى فكان المحذوف الواو كسائر المواضع وبيانه ان الاسم احد اقسام الكلم وهو اعلى من صاحبيه إذ كان يخبر به وعنه وليس كذلك صاحباه فقد سما عليهما ولان الاسم ينوه بالمسمى ويرفعه للاذهان بعد خفائه وهو معنى السمو، فإن قيل هذا معارض باشتقاقه من الوسم؛ فان المعنى صحيح كما ان المعنى فيما ذكرتموه صحيح فبماذا يثبت الترجيح ، قيل الترجيح معنا لوجهين:

احدهما: ان تسمية هذا اللفظ اسما اصطلاح من أرباب هذه الصناعة؛ وقد ثبت من صناعتهم علو هذا اللفظ على الآخرين ومثل هذا لا يوجد في اشتقاقه من الوسم.

والثاني: انه يتخرج بما ذكرنا من المسالك المتقدمة. أما حجتهم فقد قالوا الاسم علامة المسمى والعلامة تؤذن بأنه من الوسم وهي العلامة فيجب أن يكون مشتقا منها.

والجواب: عنه ما تقدم من الأوجه الثلاثة، على ان اتفاق الأصلين في المعنى وهو العلامة لا يوجب ان يكون احدهما مشتقا من الآخر، ألا ترى ان دمثا ودمثرا سواء في المعنى وليس أحدهما مشتقا من الآخر، وكذلك سبط وسبطر، وابعد من ذلك الأسد والليث بمعنى واحد ولا يجمعهما الاشتقاق