الأسطورة
المصطلح والوظيفة
فراس السوّاح
1. المصطلح: مسائل أساسية
في دراستنا لأية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، هنالك مسألة تطرح نفسها، ابتداءً، ولا نستطيع السير قُدماً في مهمتنا قبل التوقف عندها ملياً، ألا وهي مسألة المصطلح والتعريف. فبدون هذه الخطوة المبدئية التي من شأنها تعريف الظاهرة وتوضيح حدودها قد يجد الباحث نفسه يلاحق ظواهر بعيدة عن موضوع دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية من الظاهرة المعنية على حساب جوانبها الرئيسية. على أن المشكلة التي تواجهنا عندما نحاول أن نستهل دراستنا بتعريف للظاهرة وتوضيح لمصطلحاتها، هي أننا لا نستطيع التوصل إلى تعريف مرضٍ قبل أن نكون قد قطعنا شوطاً واسعاً في تقصي ظاهرتنا. لأن التعريف الذي لا يأتي نتيجة الدراسة المتأنية والمعمقة سوف يعكس أهواء الباحث ومواقفه المسبقة وإسقاطاته الخاصة عوضاً عن أن يكون مرشداً موضوعياً له. من هنا، فنحن أمام مأزق فعلي يتعلق بالمنهج. ذلك أن التعريف المسبق أمر ضروري لغاية توضيح وتحديد مجال البحث. ولكننا، في الوقت نفسه، لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نشبع ظاهرتنا التي نعكف عليها بحثاً وتحليلاً.
من هنا فإني أرى أن دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية يجب أن تتمّ على مرحلتين. تستهدف المرحلة الأولى التوصل إلى تعريف دقيق للظاهرة انطلاقاً من تعريف مبدئي عام وفضفاض، من شأنه حصر مجهود الباحث وتركيزه ضمن قطاع عام أو ظاهرة أشمل تحتوي الظاهرة الأصغر التي نحن بصددها. أما المرحلة الثانية فتعود إلى نقطة البداية مزودة بتعريف واضح ودقيق للموضوع، وتُقبِل عليه مجدداً وقد صار محدداً ومميزاً عن بقية الموضوعات المشابهة له أو المتداخلة معه.

في مجال الأسطورة، وهي ظاهرة من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية، يمكن للباحث أن يبتدئ من التعريف المبدئي التالي فيقول: "إن الأسطورة هي حكاية تقليدية تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية." غير أن التقدم في مسيرة البحث سوف يطلِعنا على العديد من الأجناس الأدبية التي ينطبق عليها هذا التعريف والتي نستبعدها من دائرة الأسطورة تدريجياً وذلك لعدم صلتها بها رغم مشابهتها لها من حيث الشكل، فنتعرف على الخرافة وعلى القصص البطولي وعلى الحكاية الشعبية وغيرها، وجميعها مما يشترك بهذه الدرجة أو تلك في التعريف الذي أوردناه. وكلما سرنا قدماً في مجهود الجمع والتدقيق والمقارنة استطعنا تمييز جنس الأسطورة عن غيره من الأجناس، واقتربنا أكثر فأكثر من تعريف دقيق يمكن الانطلاق منه إلى دراسة الأسطورة كظاهرة ثقافية متميزة ذات خصوصية عالية. وهذا التمييز لا يهم فقط باحثي الميثولوجيا بل وبقية الباحثين في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والبسيكولوجيا، نظراً لما تقدمه أساطير الشعوب لهذه المجالات من مادة غنية تساعدها على فهم وتفسير ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى. يضاف إلى ذلك ما لتوضيح مصطلح الأسطورة من أهمية بالغة بالنسبة لجمهرة القراء المهتمين بهذا الحقل المعرفي.


ولرب سائل يسأل: لماذا نثير الآن مسألة المصطلح والتعريف بعد أن ظننا المسألة صارت من ماضي البحث، وبعد أن أمضى علم الميثولوجيا أكثر من قرن وهو يبحث وينقب ويصوغ النظريات؟ أليس في العودة إلى هذه المسألة وضع إشارة استفهام حول منهجية البحث الميثولوجي ومعظم منجزاته؟ جوابي على هذا التساؤل هو أني أريد بالفعل أن أضع إشارة الاستفهام هذه حول ما يعتقد الكثيرون بأنه صار في حكم المعروف والموصوف في هذا المجال، وعلى وجه الخصوص تلك المجموعات من حكايا الشعوب التي يقدمها لنا مصنفوها تحت عنوان "الميثولوجيا" من دون أن يختبروا مادتهم على أي معيار من شأنه أن يفرز النص الأسطوري عن غيره من النصوص التي تنتمي إلى أجناس أدبية أخرى مازالت مختلطة بالجنس الميثولوجي الأصيل، حتى في أذهان كثير من المتخصصين. من هذه المجموعات، أخص بالذكر ما يُقدم إلى القراء تحت عنوان "الميثولوجيا الإغريقية"، لأن معظم مادتها لا ينتمي إلى الأسطورة بل اختلط بها لأسباب تتعلق بتاريخ البحث الميثولوجي.
تبدأ المشكلة، في رأيي، من أن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الأسطوري عن غيره، ولا هم دعوه باسم خاص يساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايات وأناشيد وصلوات وما إليها. ويمكن أن أسوق في هذا المجال مثالين، المثال السومري والمثال الإغريقي. فقد كان للسومريين مكتبات يحفظون فيها الرقم الفخارية تدعى "بيوت الألواح"، وكان لهم نظام للأرشفة يساعد خازن بيت الألواح على جرد محتوياته وخدمة المستفيدين منه. ولكننا إذا نظرنا إلى لوائح أرشيفهم لوجدنا أن النصوص الأسطورية مبعثرة بين البقية، وكأن المؤرشف لم يلمح ما يجمع هذه النصوص إلى بعضها ولم يجد ما يبرر ضمها إلى زمرة واحدة. وقد بقي نظام الأرشفة هذا قائماً حتى أواخر عصر المملكة الآشورية الجديدة، حيث نجد في مكتبة الملك آشوربانيبال النصوص وقد حفظت بعضها إلى جانب بعض دونما عناية بفرزها إلى مجموعات وفق موضوعاتها، وحيث نصوص الحكم والوصايا توجد إلى جانب الصلوات والتراتيل وإلى جانب الأساطير. يضاف إلى ذلك عدم وجود أية إشارة تميز النص الأسطوري الذي غالباً ما كان يتخذ عنوانه من سطره الافتتاحي الأول، شأنه في ذلك شأن بقية النصوص الطقسية أو الملحمية أو الأدبية البحتة. وإليكم بعض العناوين المدرجة في أحد فهارس المكتبات السومرية[1]: 1. "إنليل واسع الإدراك"، وهو بداية ترتيلة مرفوعة إلى الإله إنليل؛ 2. "السيد، إلى أرض الأحياء"، وهو بداية نص جلجامش وأرض الأحياء؛ 3. "إلى أين كنت تذهب"، وهو مأخوذ من السطر الأول لنص أيام الدراسة الذي يقول: "يا ابن المدرسة إلى أين كنت تذهب في الأيام القديمة؟"؛ 4. "الفلاح في سابق الأيام"، وهو مأخوذ من بداية رسالة تتضمن توجيهات موجهة من فلاح إلى ابنه؛ 5. "من الأعلى العظيم إلى الأسفل العظيم"، وهو بداية أسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل. نلاحظ من هذه العناوين كيف تم إدراج الأساطير إلى جانب النصوص المدرسية والتعليمات الزراعية وما إليها دون إعطاء خصوصية لأي منها.
وقد اتخذ جامعو التراث الأدبي الإغريقي الموقف نفسه من الأسطورة عندما جمعوها مع أشتات من الحكايات التي تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة ضمن سِفر واحد. وبما أن هؤلاء الإغريق لم يكونوا خَزَنَة ألواح بل أدباء وجمعة تراث، فقد عمد كل واحد منهم إلى إعادة صياغة ما وصل إليه من هذه الحكايات التقليدية وفق أسلوب أدبي خاص به، ووفق صنعة وخيال تُدخِل على النص المنقول تعديلات لابد منها في أية صياغة أدبية هدفها الإمتاع والمؤانسة، لا التوثيق والتدقيق. ونالت الأسطورة على أيديهم حظها من التعديل والتشذيب، وغابت في خضم الموروث الشعبي المختلِط حابلُه بنابله. وقد نشطت حركة الجمع التراثي بشكل خاص إبان العصر الهيلنستي عقب فتوح الإسكندر المقدوني على يد كتاب من أمثال كاليماخوس Callimachus وأبولونيوس Apollonious، وقلَّدهم في ذلك لاحقاً الشعراء الرومان من أمثال أوفيد Ovid وبروبرسيوس Propertius. وعندما جاء الباحثون الغربيون في العصر الحديث إلى النظر في تلك المجموعات الأدبية أطلقوا على ما حوته اسم الأساطير، وابتدأت مشكلتنا مع المصطلح والتعريف.
ومما زاد الطين بلاً أن جامعي ومقدمي الميثولوجيا الإغريقية من المحدثين قد عمدوا إلى إعادة صياغة ما كان الجامعون الإغريق والرومان قد أعادوا صياغته في وقتها، وذلك بلغة تروق لقارئ اليوم. وغالباً ما لجأوا إلى المزج بين الروايات المتعددة القديمة للحكاية الواحدة، فجاءت النسخ العصرية للميثولوجيا الإغريقية في حلة لا يربطها إلا أوهى الروابط بأصولها التي كانت متداولة شفاهاً قبل عصر التدوين في اليونان. ولكي أعطي مثالاً عن الجمع العشوائي غير المدقِّق للحكاية الإغريقية التقليدية تحت عنوان "أساطير الإغريق" مما راج في القرن العشرين، أذكر كتاباً شائعاً في الغرب عنوانه "الميثولوجيا" لمؤلِّفته إديث هاملتون. لقد جمعت المؤلفة في كتابها هذا كل ما يخطر بالبال من حكايا إغريقية، تتدرج في الأهمية والجدية من أسطورة خلق العالم إلى حكاية حب بطلها شاب وفتاة صغيران يحول الأهل دون زواجهما فينتحران. ولسوف أتوقف قليلاً عند هاتين "الأسطورتين" – بمصطلح المؤلفة – لأظهر مدى العبث الذي نال من أسطورة التكوين الإغريقية من جهة، ومدى افتقاد قصة الحب تلك إلى أي عنصر من عناصر الأسطورة الحقة.
تقول إديث هاملتون في مطلع نصها عن أسطورة التكوين الإغريقية ما يلي: "في البدء، كان العماء هاوية لا يُسبر غورها، هائجة كالبحر ومظلمة وجرداء وموحشة"،[2] ثم تتابع: "هذه الكلمات للشاعر ميلتون، ولكنها تعبر بالضبط عما كان الإغريق يعتقدونه في أساس الأشياء وبداياتها. فقبل أن تظهر الآلهة، لم يكن هناك سوى العماء الذي لا شكل له، يحتضن تحته ظلمة كثيفة... كل شيء كان أسود فارغاً صامتاً بلا نهاية، ثم حدثت معجزة المعجزات. فبطريقة غامضة، ومن هذا الفراغ المترامي الخاوي انبثق إيروس أعظم الأشياء طراً. إن الكاتب المسرحي العظيم أريستوفان الساخر يصف هذا الانبثاق بكلمات طالما اقتبسها الكُتاب عنه فيقول: "الليل بجناحيه السوداوين، في قاع الهوة المظلمة العميقة، وضع بيضة في رحم الريح. وبتوالي الفصول انبثق الحب إيروس بأجنحة من ذهب." ثم تتابع: "هكذا إذن، من الظلمة ومن الموت ولد الحب، وبولادته بدأ النظام والجمال يطغيان على العماء وعلى الفوضى، مما مهَّد بعد ذلك لخلق الأرض. وهنا يحاول هسيود، وهو أول إغريقي حاول تفسير كيف بدأت الأشياء فيقول.. إلخ." يشكل نص إديث هاملتون هذا نموذجاً عن العمل التلفيقي في تقديم الميثولوجيا الإغريقية للقارئ الحديث. فالكاتبة هنا لم تكتف بالاقتباس عن الميثولوجيين الإغريق من أمثال هسيود، بل تعدَّتهم إلى مؤلفي الدراما الإغريقية، وتوَّجت ذلك كله بنص للشاعر الإنكليزي ملتون اعتبرته معبِّراً عن ما كان الإغريق يعتقدونه في أساس الأشياء. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الذي بقي من الأسطورة الإغريقية الأصلية بعد كل هذا الصقل والتحرير وإعادة التحرير؟ – خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الميثولوجيين الإغريق الأوائل الذين ندين لهم بمعظم ما نعرفه عن الأسطورة الإغريق (من أمثال هسيود وهوميروس) لم يكونوا رجال دين ولاهوت بل شعراء.
إلى جانب أسطورة الخلق هذه، أوردت المؤلفة العديد من الحكايات التي تنتمي إلى الجنس الميثولوجي الأصيل، ولكنها في الوقت ذاته ملأت بعض فصولها بقصص من نوع: لماذا يوجد الذهب في رمال النهر؟ لأن الملك ميداس قد اغتسل في ينبوع نهر باكتولوس ليزيل عنه لعنة اللمسة السحرية التي تحوِّل كل ما يلمسه إلى ذهب، حتى طعامه وشرابه. أو: لماذا ثمار التوت حمراء؟ لأن دم عاشقين قتيلين قد ضرجتهما بالحمرة بعد أن كانت بيضاء مثل الثلج. وما إلى ذلك من القصص التبريري الساذج الذي مازال الفلكلور الشعبي حافلاً به، والذي لم يؤخذ في يوم من الأيام على محمل الجد. وإليكم فيما يلي ملخصاً لحكاية التوت وكيف صار أحمر:
في قديم الزمان (وبمصطلحنا في القص الشعبي: كان يا ما كان) كانت الثمار الحمراء لشجرة التوت بيضاء كالثلج. وقصة تغير لونها قصة غريبة ومحزنة، ذلك أن موت عاشقين شابين كان وراء ذلك. فقد أحب الشاب بيراموس العذراء الصغيرة ثيسبي وتاق الاثنان إلى الزواج. ولكن الأهل أبوا عليهما ذلك ومنعوهما من اللقاء، فاكتفى العاشقان بتبادل الهمسات ليلاً عبر شق في الجدار الفاصل بين منزليهما. حتى جاء يوم برح بهما فيه الشوق واتفقا على اللقاء ليلاً قرب مقام مقدس لأفروديت خارج المدينة تحت شجرة توت وارفة تنوء بثمارها البيضاء. وصلت الفتاة أولاً ولبثت تنتظر مجيء حبيبها. وفي هذه الأثناء خرجت لبوة من الدغل القريب والدم يضرج فكَّيها بعد أن أكلت فريستها، فهربت ثيسبي تاركة عباءتها التي انقضت عليها اللبوة ومزقتها إرباً ثم ولَّت تاركة عليها آثار الدماء. حضر بيراموس ورأى عباءة ثيسبي فاعتقد بأن الوحش قد افترس حبيبته، فما كان منه إلا أن جلس تحت شجرة التوت وأغمد سيفه في جنبه، وسال دمه على حبيبات التوت ولوَّنها بالأحمر القاني. بعد أن اطمأنت ثيسبي لانصراف اللبوة، عادت إلى المكان لتجد حبيبها يلفظ اسمها قبل أن يموت وعرفت ما حدث، فالتقطت سيفه وأغمدته في قلبها وسقطت إلى جانبه. وبقيت ثمار التوت الحمراء ذكرى أبدية لهذين العاشقين.[3]
والآن، ما الذي يجمع حكاية هذين العاشقين إلى حكاية ظهور الكون المظلم من العماء البدئي؟ وكيف يمكن لكليهما أن يصنَّف في كتاب واحد تحت عنوان: الميثولوجيا؟
لقد قدَّمتُ هذه الوقفة عند كتاب مقروء على نطاق واسع بغرض إيضاح طبيعة المشكلة التي تعانيها الدراسات الميثولوجية بسبب غموض المصطلح، وبغرض الإشارة إلى أن مشكلتنا مع المصطلح والتعريف قد نشأت في جزئها الأكبر من مشكلة البحث الميثولوجي مع ما يدعى بالميثولوجيا الإغريقية ومناهج دراستها وتبويبها وتصنيفها. وهذه المشكلة في اعتقادي ستبقى قائمة ما لم يتم الاتفاق على معايير دقيقة لتمييز النص الأسطوري عن غيره من الأقاصيص. وهذا أمر يبدو بعيد التحقق في الوضع الراهن للبحث الميثولوجي. لكنني سوف أتقدم فيما يلي بطرح وجهة نظري في هذه المسألة كما تشكلت لدي بعد تفرغ طويل لدراسة الأسطورة وتاريخ الأديان.
1. من حيث الشكل، الأسطورة هي قصة، وتحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها. وغالباً ما تجري صياغتها في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداولها شفاهاً، كما يزودها بسلطان على العواطف والقلوب لا يتمتع به النص النثري.
2. يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن وتتناقله الأجيال مادام محافظاً على طاقته الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فالأسطورة السومرية "هبوط إنانا إلى العالم الأسفل" التي دُوِّنت كتابة خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد قد استمرت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريباً للأصل السومري حتى أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد. غير أن خصيصة الثبات هذه لا تعني الجمود أو التحجر لأن الفكر الأسطوري يتابع على الدوام خلق أساطير جديدة ولا يجد غضاضة في التخلي عن تلك الأساطير التي فقدت طاقتها الإيحائية أو في تعديلها.
3. لا يُعرف للأسطورة مؤلِّف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها. ولا تمنع هذه الخصيصة الجمعية للأسطورة من خضوعها لتأثير شخصيات روحية متفوقة تطبع أساطير الجماعة بطابعها وتحدِث انعطافاً دينياً جذرياً في بعض الأحيان.
4. يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان ظهوره مكمِّلاً لا رئيسياً.
5. تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية، وذلك مثل التكوين والأصول، الموت والعالم الآخر، معنى الحياة وسر الوجود، وما إلى ذلك من مسائل التقطتها الفلسفة فيما بعد. إن همَّ الأسطورة والفلسفة واحد، لكنهما تختلفان في طريقة التناول والتعبير. فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية وتستخدم المفاهيم الذهنية كأدوات لها فإن الأسطورة تلجأ إلى الخيال والعاطفة والترميز وتستخدم الصور الحية المتحركة.
6. تجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس هو غير الزمن الحالي. ومع ذلك، فإن مضامينها، بالنسبة للمؤمن، أكثر صدقاً وحقيقية من مضامين الروايات التاريخية. فقد يشكك هذا المؤمن بأية رواية تاريخية، ويعطي لنفسه الحق في تصديقها أو تكذيبها، ولكن الشك لا يتطرق إلى نفسه، إذا كان بابلياً، بأن الإله مردوخ قد خلق الكون من أشلاء تنين العماء البدئي، وبأن الإله بعل قد وطَّد نظام العالم بعدما صرع الإله يم وروض المياه الأولى، إذا كان كنعانياً. ويستتبع لاتاريخية الحدث الأسطوري أن رسالته غير زمنية وغير مرتبطة بفترة ما؛ إنها رسالة سرمدية خالدة تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنساني. إن عدم تداخل الزمن الأسطوري بالزمن الحالي يجعل من الحدث الأسطوري حدثاً ماثلاً أبداً. فالأسطورة لا تقص عما جرى في الماضي وانتهى، بل عن أمر ماثل أبداً لا يتحول إلى ماضٍ. ففعل الخلق الذي تم في الأزمنة المقدسة يتجدد في كل عام ويجدد معه الكون وحياة الإنسان؛ وإله الخصب الذي قُتِل ثم بعث إلى الحياة موجود على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول؛ وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرؤوس السبعة هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة وقوى الشر والموت؛ وخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجةً بدم إله قتيل هو تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصر مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تتحدث الأسطورة عن حدث محدد في تاريخ الناس فإن مرامي هذا الحدث تكون خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم. ونموذج هذا النوع من الأساطير أسطورة الطوفان الرافدية. فمع أن السومريين اتخذوا من حادثة الطوفان، التي أبلغت عنها الأسطورة، نقطة في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها وما حدث بعدها، إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن تاريخياً بالنسبة لهم، لأن الطوفان الذي دمر الأرض من حولهم مرة هو نذير دائم بسطوة القدر وتحذير من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال.
7. ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين وتعمل على توضيح معتقداته وتدخل في صلب طقوسه. وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار هذا النظام الديني، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة.
8. تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتعت بها الأسطورة في الماضي لا تدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث. فنحن اليوم نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، وبأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرات ذات تركيب معين، وبأن الكون مؤلف من مليارات المجرات، إلخ، وذلك لأن العلم قد قال لنا ذلك. وفي الماضي آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، مثلما نؤمن اليوم، بدون نقاش، بما ينقله لنا العلم والعلماء. وكان الكفر بمضامينها كفراً بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقداناً للتوجُّه السليم في الحياة.
اعتماداً على ما قدمته أعلاه، أستطيع أن أخلص إلى التعريف التالي فأقول: "الأسطورة هي حكاية مقدسة، ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان."
ورغم أن الأقدمين لم يطلقوا على حكاياتهم المقدسة اسماً معيناً ولم يجمعوها في سفر واحد يفرقها عن بقية الحكايات إلا أنهم كانوا يميزون بدقة بين القصص الحقيقية التي ترتبط بالمعتقدات الدينية والقصص الزائفة ذات المضمون الأدبي البحت، مثلهم في ذلك مثل أهل الثقافات الحديثة.[4] لقد أجاب أحد الهنود الحمر من قبيلة إيو–وا (في أواخر القرن التاسع عشر) الباحث الميداني الذي كان يستعلم منه عن أساطير قبيلته قائلاً: "إن هذه لأمور مقدسة ولا أريد الحديث عنها. كما أنه ليست من عادتنا ذكرها إلا في المناسبات الدينية الخاصة، حين يجتمع الناس ويدور بينهم غليون التبغ."[5] ويميز أفراد قبيلة Pawnea بين نوعين من القصص التقليدية، وهما النوع الحقيقي والنوع الزائف. فهم يضعون في مرتبة الحقيقة جميع القصص التي تتناول أصول العالم، وهي قصص أشخاصها كائنات إلهية فائقة. تأتي بعد ذلك في المرتبة مباشرة الحكايات التي تروي المغامرات التي قام بها البطل القومي، وهو فتى متواضع النشأة ما لبث أن أصبح مخلصاً لشعبه فأنقذه من الوحش الهائل، وانتشله من الجوع والفقر، كما اجترح مآثر أخرى عديدة تتصف بالنبالة والكرم. ثم تأتي القصص التي تتعلق بالسحر، وكيف اكتسب هذا الساحر أو ذاك قواه الخارقة، وكيف نشأت المؤسسة الشامانية. أما القصص الزائفة، فهي القصص ذات المضمون الدنيوي البحت، وتدور حول مغامرات وأعمال شخصيات غير مقدسة. والأمثلة على مثل هذا التمييز كثيرة في ثقافات تقليدية شتى ومتباعدة. لهذا السبب تُمنَع رواية الأساطير كيفما اتفق، وتقتصر معرفتها على البالغين ممن وصلوا السن الذي يخولهم استلام أسرار دينهم، حيث يقوم الشيوخ بنقلها إلى الشباب كجزء من الطقوس الخاصة بإعدادهم لاستلام الأسرار. أما القصص الزائفة فيجوز روايتها في أي زمان ومكان.[6]
إن التعريف الذي سقته أعلاه سوف يساعدنا على تمييز النص الأسطوري، وعلى فرز جنس الميثولوجيا عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها. وبشكل خاص، فإن صفة القداسة التي يتمتع بها النص الأسطوري يجب أن تكون الفيصل الأساسي في عملية التعرف على النصوص الأسطورية لثقافة ما وتفريقها عن بقية النصوص. ولسوف أنتقل فيما يلي إلى استعراض أهم الأجناس الأدبية التي تختلط عادة بالأسطورة إلى درجة يصعب معها أحياناً التمييز بينهما.
لعل الخرافة هي أكثر أنواع الحكايا التقليدية شبهاً بالأسطورة، ولكن العين الفاحصة ما تلبث أن تتبين الفروق الواضحة بين النوعين. تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتمتلئ بالمبالغات والتهويلات، وتجري أحداثها بعيداً عن الواقع، حيث تتحرك الشخصيات بسهولة بين المستوى الطبيعاني المنظور والمستوى الفوق الطبيعاني، وتتشابك علائقها مع كائنات ماورائية متنوعة مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة. وقد يدخل الآلهة مسرح الأحداث في الخرافة، لكنهم يظهرون هنا أشبه بالبشر المتفوقين، لا كآلهة سامية متعالية، كما هو شأنهم في الأسطورة. من هنا، فإن الحدود بين الخرافة والأسطورة ليست دائماً على ما نشتهي من الوضوح. وقد يشبه بعض الخرافات الأساطير في الشكل والمضمون إلى درجة تثير الالتباس والحيرة، فلا نستطيع التمييز بينهما إلا باستخدام المعيار الرئيسي الحاسم الذي أثبتناه في تعريفنا للأسطورة، وهو معيار القداسة. فالأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصدق روايتها إيماناً لا يتزعزع، ويرون في مضمونها رسالة سرمدية موجهة لبني البشر. فهي تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة دائمة بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية. أما الخرافة فإن راويها ومستمعها على حد سواء يعرفان منذ البداية إنها تقص أحداثاً لا تلزِم أحداً بتصديقها أو الإيمان برسالتها.
من الحكايات التقليدية التي يصنفها المؤلفون الغربيون في زمرة الأساطير الحكايات الإغريقية، بينما ينبغي تصنيفها في زمرة الخرافة (وفقاً لما قدمته من معايير التفريق)، تلك الحكايات التي تدور حول الأبطال الخرافيين من الرجال وأنصاف الآلهة، أمثال بيرسيوس وياسون وثيسيوس. فهذه جميعاً حكايات غير مقدسة ولم يتداولها الإغريق كأساطير تحمل رسالة سرمدية من أي نوع لبني البشر. فإذا بحثنا عن أمثلة أكثر قرباً من ثقافتنا العربية، وجدناها في عدد من الحكايات التقليدية مثل سيرة سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة، وعدد لا بأس به من حكايا ألف ليلة وليلة.
إن صلة القربى التي تربط بين الأسطورة والخرافة تخلق بينهما حالة تبادل. فقد يلتقط الكهنة، في فترات ضعف المؤسسة الدينية وانهيار المعتقدات الراسخة، حكاية خرافية ويحمّلونها مضامين دينية ويضفون عليها طابع القداسة. وبالمقابل، فقد تؤدي تغييرات عميقة في بنية المعتقدات الدينية إلى زوال القداسة عن أسطورة ما وهبوطها إلى مستوى الخرافة، حيث تستمر في الأدب التقليدي بعد زوال الرابطة التي كانت تشدها إلى نظام ديني معين.
وكما رأينا في الخرافة، أقرب الأقرباء إلى الأسطورة، فإننا نرى في الحكاية البطولية أقرب الأقرباء إلى الخرافة. ولكن الحكاية البطولية تختلف عن الخرافة في أمرين: أولهما، أن أحداثها أقرب إلى الواقع، رغم المبالغة والتهويل؛ وثانيهما – وهو الأهم – أن البطل فيها يشكل صورة مثالية عن الإنسان وعما هو إنساني، وهي تستثير الرغبة في السامع إلى تحقيق هذه الصورة المثالية، وإن بدرجات قد لا تصل حد النموذج الأعلى الذي ترسمه الحكاية. وهي، على عكس صورة البطل في الخرافة، تطرح نموذجاً متخيَّلاً بعيداً عن الواقع إلى درجة لا يصلح لأن يكون مثالاً يحتذى به على أي صعيد. فلقد قام بيرسيوس في الخرافة اليونانية بقتل المرأة الأفعى ميدوسا التي تحوِّل الرجال بنظرتها إلى حجارة، ثم حطّ بعد ذلك في إثيوبيا حيث أنقذ العذراء أندروميدا المقيَّدة أمام التنين الهائل قرباناً له. وفي الخرافة العربية نجد سيف بن ذي يزن يصرع عشرات الجن بسيفه الذي انتهى إليه من سام بن نوح، ويقضي على الغيلان في واديهم بريشة ديك مسحور، وتلتقطه العفاريت الطائرة في الهواء كلما أحكم عليه الأعداء حصاراً، إلخ. إن مثل هذه المشاهد والأحداث لا تحركها شخصيات إنسانية نموذجية، بل شخصيات مختلقة حُكِم عليها منذ البداية أن تبقى حبيسة في حبكة القصة وخيال السامع دون تفاعل حقيقي مع النفس الإنسانية. أما في الحكاية البطولية، فعلى الرغم من المبالغات التي تغلف أحداثها وشخصياتها، فإن أبطالها بشر عاديون يتحركون في جو إنساني، وأعمالهم هي نموذج سامٍ ومتفوق لما يمكن للأفراد أن يطمحوا إليه، وعواطفهم وانفعالاتهم ليست مما لا يشعر به أو يختبره السامع. من القصص البطولي في التراث العربي نسوق مثال عنترة بن شداد، ومن القصص البطولي الإغريقي حكايات الإلياذة التي تدور حول شخصيات بطولية نبيلة مثل أخيليس وأغاممنون وباتروكلوس وهيكتور. وهي حكايات متفرقة من حيث الأصل تم جمعها فيما بعد إلى نسيج ملحمة واحدة. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى أن حضور هذا الإله أو ذاك في هذه الحكايات الإغريقية لا يختلف عن حضور الجني الحارس للبطل في الحكايا العربية الذي يقدم له العون حين الحاجة. ويبقى مسرح الحدث هنا إنسانياً ومشكلاته إنسانية وأبطاله إنسانيون إلى أبعد الحدود.
فإذا كانت الحكاية البطولية مما يقص أحداثاً تاريخية أو شبه تاريخية، أسميناها بـالحكاية البطولية الإخبارية. ويعتمد هذا النوع الأدبي على عدد من الوقائع التاريخية، ولكنه يراكم فوقها أحداثاً إضافية خيالية إلى درجة يغيب التاريخ معها في ضباب الخيال. إن الحروب الطروادية نموذج للحكاية البطولية الإخبارية، ومثلها تغريبة بني هلال في الأدب الشعبي العربي. فالتغريبة، رغم عنايتها بوصف البطولات الفردية لشجعان بني هلال ولخصومهم على حد سواء، إلا أنها تهدف من وراء ذلك إلى تقديم حدث تاريخي في قالب أدبي مشبع بالخيال.
ولدينا مصطلحان غربيَّان يمكن تصنيف موضوعهما تحت زمرة الحكاية البطولية أو الحكاية البطولية الإخبارية، هما الليجندة Legend والملحمة Epic. فالليجندة هي قصة غير مُتحقَّق من صحتها تاريخياً رغم الاعتقاد الشعبي بصحتها، ويطغى عليها الخيال وتمتلئ بالمبالغات، وهي تدور غالباً حول حياة أشخاص متميزين ومحبوبين على النطاق الشعبي. وتنتمي قصص حياة وأعمال وكرامات القديسين إلى هذه الزمرة. أما الملحمة، فهي تأليف شعري عالي المستوى يقص سلسلة من أعمال ومنجزات أحد الأبطال، وتجري معالجتها بإطالة وتفصيل على شكل نص مضطرد.
نأتي الآن إلى الحكاية الشعبية. إن ما يميز الحكاية الشعبية بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية هو هاجسها الاجتماعي. فموضوعاتها تكاد أن تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية، والأسرية منها خاصة. والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعاً؛ وذلك مثل زوج الأب الحقود، وغيرة الشقيقات في الأسرة من البنت الصغرى التي تكون في العادة الأجمل والأحب، أو غيرة الأشقاء من أخيهم الأصغر المفضل لدى الأب، والذي تجتمع له خصائص الشجاعة والنبالة في مقابل الخسة والحسد والغيرة لدى أشقائه، وما إلى ذلك. والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حد وتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية، مركزة على أدق تفاصيل وهموم الحياة اليومية. وهي، رغم استخدامها لعناصر التشويق، إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة، ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي. ففي مقابل القوة الخارقة للبطل في الحكاية البطولية وتصرفاته الفروسية، فإن البطل في الحكاية الشعبية يلجأ إلى الحيلة والفطنة والشطارة للخروج من المآزق والتغلب على الأعداء. كل هذا لا يعني أن العناصر الخيالية معدومة تماماً في الحكاية الشعبية. فهذه العناصر قد تُستخدم في الإثارة والتشويق عندما يقابل البطل غولاً أو جنياً فيستخدم شطارته وحيلته للإيقاع به. إلا أن دخول هذه العناصر في نسيج الحكاية الشعبية لا ينفي طابع الواقعية عنها، مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها. ومن حيث أسلوب الصياغة، فإن بنية الحكاية الشعبية هي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد، وتحافظ على تسلسل منطقي ينساب في زمان حقيقي ومكان حقيقي، على عكس الحكاية الخرافية ذات البنية المعقدة التي تسير في اتجاهات متداخلة ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي. وأخيراً فإن الحكاية الشعبية تتميز برسالتها التعليمية التهذيبية، ومعظمها يحمل في ثناياه درساً أخلاقياً ما، وذلك مثل جزاء الخيانة وفضل الإحسان ومضار الحسد وما إلى ذلك.
إن الحدود بين هذه الأجناس الأدبية التي صنفناها خارج زمرة الميثولوجيا ليست على درجة كافية من الدقة والوضوح. من هنا فإن الباحث في الأدب التقليدي يمكن أن يجزئها إلى زمر أكثر تخصيصاً. وهذا الموضوع يخرج عن دائرة البحث التي حددتها هنا التي تقتصر على رسم الإطار العام لمصطلح الأسطورة، ووضع أهم المعايير التي تفيدنا في التعرف على النص الأسطوري.
2. وظيفة الأسطورة ودورها في حياة الفرد والجماعة
تتميز ظاهرة الحياة عن الوسط الطبيعي الذي انبثقت عنه، ويتميز الكائن الحي عن الكائن الجامد، بعدد من الخصائص الجذرية التي يمكن تلخيصها بخصيصة واحدة أدعوها السلوك. فبينما تبدو الظواهر الفيزيائية (= الطبيعانية) منتظمة في شبكة من القوانين التي ترسم حركتها وعلائقها، فإن الكائن الحي، ابتداءً من الأميبا الوحيد الخلية، يبدي "سلوكاً" مستقلاً عن القوانين الناظمة للعالم الفيزيائي. وتتضح استقلالية وحرية هذا السلوك كلما ارتقينا في سلم التطور الطبيعي. فبينما تتحكم الحساسية الحيوية في سلوك الكائن البسيط التركيب، فيما يشبه الفعل وردّ الفعل الفيزيائي، فإن الكائنات المعقدة التركيب تبدو موجهة أكثر فأكثر بـ"الوعي" الذي يحكم علاقاتها بوسطها الطبيعي، حيث تتحول الحساسية الحيوية، كلما صعدنا في سلم الارتقاء، إلى شعور واعٍ موجِّه للسلوك الفردي وللسلوك الجمعي للأنواع الحية. غير أن هذا الشعور الواعي يبقى في أعلى الأشكال الحيوانية ضمن حدود الوعي الانفعالي المباشر الذي لم يتوصل بعد إلى تكوين "الأفكار". ولكن مع استقلال النوع الإنساني تدريجياً عن مملكة الحيوان، ينتقل الوعي من الانفعال المباشر إلى تشكيل الأفكار (= المفاهيم)، ويبدو السلوك موجَّهاً أكثر فأكثر بهذه الأفكار. فهنا تتوسط الفكرة بين الانفعال المباشر والسلوك، ونأخذ بترميز العالم قبل الاستجابة إليه. إن الخرفان الصغيرة تميِّز رائحة الذئب وتفزع لظهوره المفاجئ قبل أن تتكون لديها أية خبرة بهذا الخصوص. أما الإنسان فإنه يستجيب في خوفه لفكرة مسبقة كوَّنها من خلال تأمله لوسطه الطبيعي، وتصنيفه لما هو خطر ولما هو آمن بالنسبة إليه.
إن تكوين الأفكار هو أول تعبير عن نشاط الترميز الذي يرافق اتساع الوعي وارتقاءه. فهنا تأخذ الانفعالات بالتحول إلى أفكار. وهذه الأفكار تتضح وتنتظم كلما اتسع الوعي في مواجهته مع الخارج، وكلما أخذ بتوصيف هذا الخارج وترتيبه في كل مستوعَب ومفهوم. ثم جاءت الخطوة الحاسمة الثانية عندما انتقل الإنسان إلى ابتكار معادل موضوعي لأفكاره من خلال الكلمات، مع تطويره للُّغة البدائية الأولى. فبعد تكوين "فكرة" أو "مفهوم" عن الشجرة، مثلاً، تختزل عدداً لا يحصى من المعطيات الحسية، المنعزل بعضها عن بعض، تأتي كلمة "شجرة" كمعادل لهذه الفكرة، وتعمل على مَوْضَعَتها في الخارج لتقوم مقام كل الصور التي كوَّناها لأنفسنا عن الأشجار التي واجهت مدركاتنا الحسية. وبذلك يتم الانتقال من الترميز الذاتي، وهو صياغة الأفكار، إلى الترميز الموضوعي، وهو تثبيت هذه الأفكار في الخارج من خلال الكلمات، ومَوْضَعَتها هناك.
لقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان واكتشف معها مقدرته الهائلة على استيعاب ما حوله من خلال تكوين المفاهيم، ثم مَوْضَعَتها في الخارج عن طريق الكلمات، والاستناد إلى هذه الكلمات بعد ذلك من أجل خلق مستوى آخر من المفاهيم أعلى من سابقه، وهكذا دواليك في سلسلة متصاعدة رافقت ارتقاءه وتقدمه.
وبعد اللغة توصل الإنسان إلى اكتشاف شكل آخر من أشكال الترميز الموضوعي الذي يعمل على تثبيت أفكاره في الخارج هو الفن البصري. كما اكتشف مقدرته الكبيرة على التعامل مع الكلمات واستخدامها في مجالات غير مباشرة وغير نفعية. وهذا ما قاده إلى إنتاج الشعر والأسطورة – أقنومان في نظام رمزي واحد – عمل من خلاله على تحويل ومَوْضَعَة تجربته الانفعالية مع الكون والنفس الداخلية. والإنسان، في ترميزه الأسطوري لهذه التجربة، لا يلجأ إلى التحليل والتعليل الخطي المنظم، بل إلى إنتاج بنية أدبية تحاول من خلال تمثيلاتها وصورها الحركية إعادة إنتاج العالم على مستوى الرمز، وذلك في وحدات أدبية رمزية تعمل على اختزاله ثم تقديمه مجدداً إلى الوعي.
وفي الحقيقة، فإن كلاً من الفلسفة والعلم، اللذين ولدا من رحم الأسطورة، يقوم بالمهمة نفسها، أي اختزال تجربتنا مع العالم وتقديمه إلى الوعي وقد تم تفسيره وترتيبه. ولكن، بينما يلجأ كلا العلم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي يجزِّئ العالم ثم يعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمداً في ذلك على الاختبار والبرهان (العقلي في الفلسفة والتجريبي في العلم)، فإن الأسطورة تضع الإنسان بكلِّيته في مواجهة العالم، بجميع ملكاته العقلية والحدسية، الشعورية واللاشعورية، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه.
من هنا، فإن الأسطورة، في المجتمعات القديمة والمجتمعات التقليدية تلعب نفس الدور الذي تلعبه الميتافيزيقا في الثقافات المتطورة التي أعلت من شأن الفلسفة. وهي رغم عدم عنايتها بتكوين المفاهيم والمصطلحات التي اشتهرت بها الميتافيزيقا (وبقية موضوعات الفلسفة)، إلا أنها تدور حول نفس هذه المفاهيم والمصطلحات، وتعالجها على طريقتها متوسِّلة بالرمز ومستنفدة كل حيوية القص والصور الحسية، ومستكملة ذلك كله بالأفعال الطقسية ذات المعنى والمؤدى العميق.
إن كلاً من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب "النظام"، أي لمطلب الإنسان في أن يعيش ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدى للوعي في مواجهته الأولى مع الطبيعة. فالفلسفة تنتج نظاماً مترابطاً من المفاهيم التجريدية يدّعي تفسير العالم. والعلم يخلق نظاماً من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي إلى ترميز العالم في بنى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوانين الرياضي العلمي، فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى خلق نظامها الخاص، هو نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية التي يعتمد بعضها على بعض أيضاً، في هرمية متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤنسِن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، وترى في كل ظاهرة موضوعية نتاج إرادة أو عاطفة ما، فإنها تصنع صورة لكون حي لا يقوم على مبادئ ميكانيكية متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. والأسطورة في سعيها لخلق هذه الصورة، تفتح خزاناً لا ينضب مَعينه من وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي واللاوعي، في تجربة كلانية تحافظ على علائق الإنسان الطبيعانية مع عالمه، وعلائقه الثقافية في الوقت ذاته، وذلك قبل أن يتحول الإنسان إلى كائن ثقافي متعالٍ على الطبيعة متمايز عنها.
من هنا ينبع سلطان الأسطورة وسطوتها على النفس، حتى في دولة العلم العالمية التي نعيشها اليوم. ذلك أن الأسطورة تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة: الوحدة بين المنظور والغيبي، بين الحي والجامد، بين الإنسان وبقية مظاهر الحياة. والنظام الذي تخلقه الأسطورة فيما حولها ليس نظام العقل المتعالي الذي يجعل نفسه خارج العالم ثم يفسره عن بُعد وكأنه شيء غريب عنه، بل هو نظام الإنسان المتعدد الأبعاد الذي لا يستطيع أن يرى نفسه خارج العالم الذي يعمل على تفسيره، ويدرك بطريقة ما أن المفسِّر والمفسَّر وجهان لعملة واحدة. إن التمييز الذي يصنعه العقل بين العالم المدرَك والإنسان ما يلبث أن يذوب من خلال الأسطورة التي تعيد الربط بين طرفي الوجود: الإنسان/الوعي، والكون/المادة، وتكشف أمامنا تلك الروابط الجامعة لكل ما يتبدى في الوعي. من هنا، فإن ما يفرق متلقي الأسطورة في القِدم عن دارس نظام فلسفي أو نظرية علمية في العصر الحديث هو أن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئاً جديداً، وإنما قد غدا أكثر توافقاً وانسجاماً مع نفسه ومع العالم. ذلك أن ما تنقله الأسطورة من معانٍ لا يشبه الوقائع أو المعلومات الدقيقة. إنه إيحاء لا إملاء، وإشارة وتضمين لا تعليم وشرح وتلقين.
وتعتمد الأسطورة في تقنياتها هذه على استخدام الظلال السحرية للكلمات. فالكلمات في أية لغة ذات وجهين: وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسمَّيات، ووجه آخر سحري متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة على الإيحاء بمعانٍ غير مباشرة واستثارة مشاعر وأهواء كثيرة. فكلمة شمس، على سبيل المثال القريب، تدلّ على ذلك الجرم السماوي المضيء، ولكنها في الوقت نفسه تعكس في النفس معاني أخرى: فهي الوضوح، وهي الانتظام، وهي الصحو، وهي العقل، وهي الحقيقة، إلى آخر ما هنالك من ظلال لغوية مرتبطة بها. وبالمقابل، فإن القمر هو الأسرار، وهو التلون والتحول والغموض والعواطف الجياشة إلخ.
لقد استفاد الشعر من هذه الخصيصة السحرية للغة، ومن تلك الصيغ السحرية المتوالدة التي يمكن للغة أن تعبِّر بها. ومن هنا يأتي ذلك الطابع النبوي للغة الشعرية. فالشعر هو السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي. وقد شق لنفسه طريقاً مستقلاً بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، بين الدلالة والإشارة، بين المقولة والشطحة. ومن بعدُ أتقن عنها أيضاً كيف يمكن للغة السحرية أن تقول دون أن تقول، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم معنى محدداً ودقيقاً، وذلك من خلال رسالة كلانية غير تفصيلية. من هنا نستطيع فهم السبب الكامن وراء هجوم الفلسفة على الشعر في بداية عهدها. فقد رأى أفلاطون في كتابه الجمهورية ضرورة استبعاد الشعراء من الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة.
يمثل تاريخ الفلسفة صراعاً لا هوادة فيه مع الأسطورة. وقد استطاعت الفلسفة التوصل إلى تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة بعد أن أفلحت في الإمساك بتلابيب الأسطورة. ومع ذلك، فإن فلاسفة الإغريق الذين تصدوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية على أشلاء الأسطورة لم ينجوا تماماً من سحر البيان الأسطوري. لقد ركز أفلاطون بشكل خاص على أن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها من خلال نشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا من خلال رؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة. وهو إذ يدعو ذلك الوجه القدسي للوجود بـعالم المثل، ويرى فيه الخير الأسمى، فإنه يدعو إلى السعي لاكتساب أعلى وأسمى معرفة، وهي معرفة الخير، عن طريق العقل الصاحي الذي يبدأ بمعرفة الجزئيات وترابطاتها، صعوداً نحو مبادئها وعللها الأولى. هذا الطريق الطويل يبدأ عنده بالرياضيات، فالهندسة، فالفلك، في هرمية معرفية متصاعدة. ولكن أفلاطون، رغم محاربته للنزعة غير العقلانية في النفس الإنسانية، التي يعمد الشعر والأسطورة إلى إرضائها، ورغم محاربته للشعر باعتباره مركبة للأسطورة، وبما هو اكتشاف للخواص السحرية للغة، فإنه قد عمد، خارج كتاب الجمهورية، إلى تأليف أساطير من صنعه، مثل أسطورة أسرى الكهف وأسطورة اختيار النفس لمصيرها وأسطورة الحساب بعد الموت، وذلك لغاية شرح وتوصيل أفكاره المجردة، ولعلمه بما للأسطورة من سلطان على النفوس ومن مقدرة على تثبيت الأفكار والمعتقدات. كما أنه قد وافق على صناعة أساطير يجري تلقينها للصغار وفق خطة مدروسة، من شأنها تدريب هؤلاء على تلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم. على أن مثل هذه الأساطير التي يصنعها شخص بعينه وفق خطة مدروسة تفتقد إلى خصيصة النمو التلقائي التي تميز الأسطورة، وتعبيرها عن تجربة جمعية مشتركة. ومثل هذه المحاولات تقدم لنا مثالاً شديد الوضوح على صلة المعتقدات بالأساطير وضرورة الثانية للأولى، بسبب النزوع الطبيعي عند الناس نحو البيان والإيمان، وعزوفهم عن البرهان.
وقبل أفلاطون بزمن طويل، كان فلاسفة الإغريق الأوائل من أصحاب المدرسة الإيونية قد تأثروا بشكل خاص بأساطير ديانة الأسرار الأورفية وبالعديد من تصوراتها الماورائية. وعلى رأس هؤلاء أنكسمندر الذي يقول فيه بعض دارسيه بأنه قد نزع عن الإله الأورفي عباءته الدينية وحوله إلى مفهوم فلسفي. ونلاحظ بشكل خاص مدى تأثر الفلسفة الفيثاغورية بالأساطير الأورفية إلى درجة يصعب معها أحياناً التفريق بين العناصر الفيثاغورية والعناصر الأورفية، وخصوصاً عندما ننظر إلى الأفكار المتعلقة بتقمص الأرواح، ومبدأ الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وما إليها من الأفكار والمبادئ والتحريمات والرموز المشتركة بين هذين النظامين. ويبدو هذا التأثر بأوضح أشكاله في فلسفة إمبيدوقليس، حكيم صقلية والتلميذ النجيب لفيثاغوراس، التي يعتبرها العارفون بالأورفية بمثابة نسخة دنيوية عنها.[7]
هذا الطابع السحري للأسطورة، وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات، يفسر لنا تلك الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة، مما سأتعرض له بكثير من التكثيف والإيجاز فيما يلي.
إن الدين في قاعه البسيكولوجي الأعمق هو اختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. وهذه التجربة لا تختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون غيرها، بل يتعرض لها الجميع، وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف. غير أن هذه الخبرة الدينية، الفردية من حيث الأساس والمنشأ، لا تبقى حبيسة البسيكولوجية الفردية، بل يجري عادة تحويلها لتصب في تيار عقيدة مؤسسة ومصوغة في قوالب، تنشأ حولها طقوس وأساطير تلعب دور المرشد والمنظم للخبرة الدينية، وتدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. فهنا تقوم الأسطورة الجمعية بترميز الخبرة الدينية وتعمل على مَوْضَعَتها في الخارج، ثم تأتي الطقوس لتلعب دور المطهر للانفعالات الدينية العنيفة. عند هذا المستوى تتحول التجربة الانفعالية إلى صورة أو إلى مجموعة صور، ويتبلور المعتقد الديني يداً بيد مع الأساطير التي تعيد تقديم الانفعال الديني إلى الوعي وقد تحول إلى معتقد.
تنشأ الأسطورة، إذن، عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له. فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبِّته في صيغ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال. كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يشدُّه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهية بألوان وظلال حية، لأنها ترسم للآلهة صورها التي يتخيلها الناس، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض.
وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية، بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلاً موضوعياً يُمَوْضِعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعية ومعقولية، وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين مادامت محافظة على طاقتها الإيحائية العالية. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة، إلى أبعد حد ممكن، من أجل مَوْضَعَة خبرة كلانية بالقدسي لا تنفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يعمد كهان الديانات القديمة وأصحاب الرسالات الدينية عبر التاريخ إلى مخاطبة الناس بصيغ البرهان بل بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آيات من أي كتاب مقدس (وليكن التاو الصيني أو الأوبانيشاد الهندي أو الزندافيستا الزرادشتي أو المزامير التوراتية أو الإنجيل أو القرآن الكريم) تغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان. ذلك أن مثل هذه الآيات هي صيغ رمزية غير خاضعة للنفي أو الإثبات بالتقصي العلمي أو التحليل الفلسفي، شأنها في ذلك شأن الخبرة الداخلية التي نشأت عنها. من هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد الفلسفي والعلمي، واستمراره فاعلاً ومؤثراً في الحضارة الإنسانية رغم لامعقولية تعبيراته الرمزية.
إن أي نص فلسفي أو علمي يطرح نظرية لتفسير العالم أو لقطاع محدد من هذا العالم ينبغي أن يصاغ بطريقة يمكن معها اختبار نظريته لإثبات صحتها أو بطلانها، وذلك عن طريق البرهان العقلي المنطقي في الفلسفة، أو الاختبار التجريبي في العلم. وهذا الاختبار يكون أصيلاً بقدر ما يسمح بالإثبات وبالدحض في آن معاً. من هنا فإن قابلية النص الفلسفي أو العلمي للاختبار هي قابليته في الوقت نفسه للإثبات أم للنفي. وإن أي نص غير قابل للدحض من حيث المبدأ هو نص زائف.[8] من هنا يأتي تحايل بعض النظريات العلمية التي تتستر وراء ستار العلم، وخصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، عندما يجري تصميمها بطريقة لا يمكن إثبات زيفها. ولعلنا واجدين في نظريات فرويد في التحليل النفسي خير مثال على ذلك. فعقدة أوديب التي يرى فرويد أنها متمكنة من كل إنسان ذكر، وأنها تنضوي على الرغبة في قتل الأب من أجل الاستئثار بالأم، هي شأن لا يمكن دحضه سواء على المستوى المنطقي أم على المستوى الاختباري التجريبي. فإذا أنكر إنسان ما بأنه لم يشعر أبداً بالرغبة في قتل أبيه والاستئثار بأمه، جاءه رد النظرية المحكمة بأنه من الطبيعي أن لا يشعر بذلك لأن هذه الرغبات قد تعرضت لعملية كبت، ولا يمكن الإفصاح عنها إلا عند الرضوخ لعملية تحليل نفسي طويلة.
يسير النص الديني المتسلح بالأسطورة على خطى هذا النمط نفسه من النظريات الدوغمائية المدعمة والمصممة بطريقة لا يمكن إثبات زيفها. فلقد خرج الفلاسفة الطبيعيون الأوائل، مثلاً، بنظرية عن العواصف الرعدية مفادها أن مثل هذه الظواهر تنجم عن تصادم جزيئات ثقيلة في السحب.[9] وبالطبع فإن هذه النظرية المصممة بطريقة تعرضها للدحض قد دُحِضت بعد التعرف على الكهرباء وأثر الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة في تشكيل العواصف الرعدية. أما قول النص الديني المدعم بالأسطورة بأن العواصف الرعدية هي نتاج لغضب الآلهة، فإن مثل هذه النظرية محصن ضد النقض ولا يمكن دحضه بالمنطق الأرسطي أو بالتجربة العملية. وحتى عندما تعترف هذه النظرية الدينية بأن للكهرباء دوراً في إحداث الرعود فإنها تؤكد في الوقت ذاته أن الكهرباء نفسها ليست إلا أداة في يد الإرادة الإلهية، وأن المسبب الأخير للرعد هو الإله الذي يسخِّر خصائص الكهرباء.
ومن ناحية أخرى، فإن النظرية المفتوحة على الدحض تقدم إرشادات من أجل الممارسة. وهذه الإرشادات إما أن تقودك للتثبُّت من النظرية أو لدحضها. أما النظرية المحصنة ضد النقض فلا تعطيك سوى تعليمات لا يقودك تنفيذها إلى معرفة مدى صحة النظرية من خطئها. وإليكم هذا المثال المبسط عما أقول: لنفرض أن سائلاً سأل عن الطريق إلى الكنيسة، فقال له أحدهم: "استمر مباشرة في هذا الطريق ثم انعطف في الطريق الثاني إلى اليمين وهناك ستجد الكنيسة." إن مثل هذا القول يحتوي إرشاداً لأن السالك بعد بضع دقائق سوف يعرف نتيجة عمله بهذا الإرشاد، فإما أن يجد الكنيسة وإما ألا يجدها. لقد وصل صاحبنا إلى الكنيسة فعلاً وهناك سأل الكاهن عن الطريق إلى ملكوت السماوات. فقال له: "تبرع بكذا لصندوق الكنيسة وأشعل شمعة أمام المحراب إلخ، وحين تموت فإن روحك تذهب إلى ملكوت السماوات." فدفع الرجل وأشعل شمعة وفعل كل ما هو مطلوب من مسيحي مؤمن. ولكن هذه النظرية الثانية لا تقدم الإرشاد للممارسة كما فعلت الأولى عندما دلَّته على الطريق إلى الكنيسة. ذلك أن الموضوع هنا يتعلق، أولاً، بالروح، وهي ليست مما يمكن التأكد منه بأية طريقة عملية، وثانياً، لأن ذهاب الروح إلى الملكوت شأن لا يمكن اختباره بالتجربة. من هنا فإن النظرية لا يمكن إثبات زيفها من صحتها. لقد تلقى الرجل في مثالنا هذا تعليمات عليه أن يثق بها دون مساءلة، ولم يتلق إرشاداً، لأن الإرشاد من شأنه أن يكشف لك عن صحة ما قيل أو عن خطئه. لقد وضعت أمامه تفاصيل الفعل، لكن الهدف الذي يجب عليه تحقيقه من وراء هذا الفعل يقع خارج المعرفة العملية ولا يمكن الجزم بإمكانية تحققه أو عدمها.[10]
لقد أشرت منذ قليل إلى أن الفلسفة استطاعت تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقاً من نقدها للأسطورة. ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال انتصاراً مؤزراً للفلسفة على الأسطورة. فالأسطورة لم تكن معنية بالنقد الفلسفي ولم يكن الفكر الأسطوري يشعر بالتهديد الحقيقي من قبل الفكر الفلسفي بسبب تلك الخصيصة الأساسية فيه، وأعني بها: امتناعه على الدحض، وسيادته على الجانب الانفعالي غير العقلاني في الإنسان. ففي عقر الدار التي نشأت فيها الفلسفة، أي بلاد اليونان، وبعد الفلاسفة الإيونيين الأوائل والسفسطائيين وسقراط وأفلاطون وأرسطو، لم تستمر الديانة الإغريقية التقليدية المتمثلة بعبادات الأسرار، مثل الأسرار الألفسينية والأسرار الأورفية، وحسب، بل إنها ازدادت ازدهاراً وزاد أتباعها بشكل ملحوظ. إضافة إلى ظهور عبادات أسرار جديدة قدمت من الشرق ودخلت عقر دار الثقافة الإغريقية، ومن بعدها الثقافة الرومانية، نذكر منها أسرار سيبيل وسيرابيس وميثرا. من هنا، فإن ما يقال لنا من أن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حداً للفكر الديني والميثولوجي هو قول مشكوك بصحته، ويسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من النظر العقلي، وأن الفلسفة هي شكله الأعلى.
إننا غالباً ما نقبل الرأي القائل بأن تاريخ الفكر الإنساني قد تتابع عبر أربع مراحل هي: السحر، فالدين، فالفلسفة، فالعلم التجريبي. وقد تشكل هذا الرأي انطلاقاً من فرضية هيجل التي تقول بأن عصراً ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية. ثم جاء الأنثروبولوجي البريطاني السير جيمس فريزر ليصوغ نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر عند جذور التحضُّر البشري، وقدم لنا وجهة نظر محكمة وجذابة بشأن المراحل الأربعة لتطور الفكر الإنساني، جعلتها في حكم البدهية التي يسوقها معظم الكتاب دون إخضاعها للنقد المسبق. غير أن نظرة فاحصة إلى مسار الحياة الفكرية للإنسان تُظهِر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، ثم تراجع الفكر الفلسفي قروناً عديدة قبل أن يُبعَث مجدداً في العصور الحديثة، متوكئاً على عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقدٍ على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها له الفلسفة مع فترة مدها الأولى، فقد لبث أسير التصورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين وعن الأسطورة، ثم تبع كوبرنيكوس غاليليو، فنيوتن، اللذين كان لهما معاً فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.
يقودنا هذا إلى طرح عدد من التساؤلات المشروعة: هل دالت دولة الأسطورة تماماً لصالح دولة العلم الكونية الحديثة؟ وهل انتصرت النزعة العقلانية بعد هذه القرون الطويلة من صراعها مع الأسطورة؟ هل ندرس الأسطورة اليوم باعتبارها ظاهرة ثقافية تمتُّ إلى ماضي الحضارة الإنسانية أو إلى الثقافات التقليدية (التي استمرت قائمة على هامش الخط الرئيسي لتقدم الحضارة الإنسانية حتى العصر الحديث)؟ وهل لم يبق للأسطورة أي أثر محرك في حياتنا الحديثة؟
لقد تراجعت الأسطورة عن مواقعها القديمة كمركز للحياة الفكرية في المجتمعات، وقامت الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية بالاستيلاء على معظم ميادينها، وبشكل خاص تلك الميادين ذات الموضوعات التي يمكن إخضاع مقولاتها للبرهان وللاختبار، ولكنها بقيت متحصنة في ذلك الموقع القوي الذي لم تستطع دولة العلم والعقل الحديثة دكَّه حتى الآن، وهو الدين، في تلك المساحة الضيقة من أطروحات الدين التي بقيت عصيَّة على الدحض وعلى الاختبار. فالأديان القائمة اليوم في شتى ثقافات العالم مازالت حريصة على أساطيرها التقليدية التي حافظت على طاقاتها الإيحائية إلى حد ما، وذلك رغم نضوب الفكر الأسطوري الذي كان فاعلاً ومؤثراً في شتى مناحي حياة الثقافات القديمة. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى قيام اتفاق غير معلن بين الدين والعلم على التعايش وعدم الاعتداء، حيث تُرِكت الطبيعة بقضها وقضيضها إلى المناهج العلمية تُعمِل فيها تجزئة ودرساً وتمحيصاً، وبقي الدين متحصناً في تلك المواقع التي لا يرغب العلم في الاقتراب منها، أو يعلن عدم مقدرته في الوقت الحاضر على التعامل معها. وهنا تلعب المعتقدات الدينية وأساطيرها دوراً إيجابياً وبنَّاءً، باعتبارها وسيلة تواصل فعالة تجمع وتوحد في عالم يجنح نحو التغريب والتفريق.
في ظل هذا الوضع الراهن من المصالحة بين العلم والدين قد لا يجد عالم الفيزياء غضاضة في الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح والذهاب إلى الكنيسة حيث يشعر لدقائق تقع خارج الزمن الفيزيائي بأن الإله الابن قد تجسد في يسوع وولد من رحم العذراء في بيت لحم لكي يقدم خلاصاً للبشرية. وقد لا يجد أيضاً عالِم مسلم غضاضة في تأدية فريضة الحج والطواف حول الكعبة وتقبيل الحجر الأسود ورجم الشيطان بسبع حصوات. إننا في التعامل مع عالم الظواهر الطبيعية اليوم (وبعد أن اقتنع الدين بحصته من القسمة التي فرضتها المصالحة) نستطيع أن نتخلى كلياً عن أي مفهوم ديني والالتزام بالبرهان المنطقي والتجريبي. أما عندما ننتقل من المجال الطبيعاني الخارجي إلى عالم النفس الرحيب، فإن الدين يؤكد حضوره الآن مثلما أكده في الماضي، لأن الرموز الدينية تبقى على الدوام تعبيراً عن وظيفة نفسية غير عقلانية؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن العلم (بعد اقتناعه بحصته من القسمة أيضاً) قد قصر دوره على البحث في مظاهر العالم وتسخير قوانينه لمصلحة الإنسان، بينما يتطلع الدين إلى ما وراء مظاهر العالم ويبحث في المعنى والغايات النهائية؛ أي أنه يبدأ من حيث ينتهي العلم. وفي الواقع، فإن العلم، عندما يأخذ بتجاوز مظاهر الواقع نحو المعنى والغايات النهائية، يبدأ بالتخلي عن لغته وينتقل إلى التحدث بما يشبه الرؤى النبوية. ذلك أن المعنى ليس شيئاً كامناً في صميم المظاهر، بل هو شيء متعلق بالوعي الإنساني ويضاف إلى المظاهر من خارجها. فالظواهر فقط "تحدث"، ونحن نعطيها ما نشاء من معنى. العالم "يحدث"، أما معناه فكامن فينا. إذ نحن الجنس الحي الوحيد الواعي الذي يتساءل عن المعنى.
غير أن المشكلة في أديان اليوم هي تحول الأساطير إلى دوغما تخدم إيديولوجيا جامدة لا تقبل التغيير. ففي مقابل الخلق الدائم والتلقائي للأساطير في الزمن الماضي، صارت الأساطير إلى حالة ثابتة تعكس جملة من المعتقدات التي تحرسها المؤسسة الدينية وتعمل على عدم تعريضها للتفسير المنفتح أو التأويل. وهذا ما يهدد بانقطاع التجربة الروحية الداخلية عن تعبيراتها الخارجية، وبتحويلها إلى جملة من القناعات الذهنية السطحية، وإلى جملة من الطقوس التي فقدت فحواها ودورها ومعناها. وهنا يتحول الإيمان الطوعي إلى إيمان مفروض، ويُفتَح الباب واسعاً أمام الهرطقة التي تقطع الأفراد عن تجربتهم الروحية وترميهم في صحراء من الخواء النفسي. وكردّ فعل على هذا الجمود العقائدي، تعمل الأسطورة أحياناً على تجديد نفسها على هامش الدين المؤسساتي، من خلال الخيال الشعبي الخلاق الذي يصنع أساطيره دون رقابة القيِّمين على الأساطير التقليدية في المؤسسة الدينية. ومن الأمثلة على ذلك شيوع أساطير شعبية ذات طابع ديني قوي في بلادنا، ونموذجها أساطير الخضر في بلاد الشام، والسيد البدوي في مصر، وشيوع خرافات الأولياء الذين حلوا محل الآلهة الثانوية في الأساطير القديمة. فهذا الولي للشفاء وذلك لإزالة العقم إلخ. أما في بلاد الغرب، فبعد فقدان مثل هذه الأساطير الشعبية لقوتها الإيحائية اتجه الكثيرون نحو أديان الشرق الأقصى يبحثون فيها عن أساطير ورموز روحية لم تفقد بعد طاقتها الإيحائية، ولم تتحول إلى إيديولوجية ناجزة جامدة، بل حافظت على صلتها بذلك النبع الداخلي الخلاق الذي يجعلنا في تواصل حر ودائم مع القدسي.
واليوم، لا توجد أساطير حقيقية فاعلة على نطاق واسع في الحياة الفكرية والروحية والأدبية للثقافات الحديثة خارج الأديان القائمة التي جعلت من أساطيرها بنى متحجرة من الماضي البعيد، أشبه بتلك البُنى الحجرية التي تركها لنا الأقدمون من أمثال الزقورات الرافدية والأعمدة التدمرية. غير أن الأسطورة لا تمارس تأثيرها فقط من خلال نصوصها المتداولة بين الناس، وإنما من خلال ذلك النزوع الأسطوري المتجذِّر في البسيكولوجية الفردية والجمعية. من هنا، فإن انحسار الأسطورة عن معظم مواقعها القديمة لا يعني استئصال النزوع الأسطوري الذي يقبع في أعماق النفس متخفِّياً خلف آليات التفكير العلمي والفلسفي. ولهذا النزوع وجه إيجابي بناء، وآخر سلبي قد يكون شديد الأذى والتدمير.
في جانبه الإيجابي، يعمل النزوع الأسطوري على التخفيف من سلطان النزعة العقلانية التي ترى إلى الكون باعتباره آلة جبارة عمياء، تعمل وفق قوانين أزلية ميكانيكية. فمع مغادرة العصور الوسطى في أوروبا والدخول في العصور الحديثة، أخذ المفهوم القديم عن عالم عضوي حي يتلاشى تدريجياً ليحل محله مفهوم عن عالم ميكانيكي آلي لا حياة فيه. وقادت فلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن وفلكيات كوبرنيكوس وتلامذته إلى عكس مسار السعي العلمي وتغيير أهدافه. فبعد أن كان سعي العلم يتجه نحو اكتساب الحكمة وفهم سبل الطبيعة من أجل العيش بوئام معها، تحول سعيه إلى السيطرة على الطبيعة عوضاً عن التكامل معها، وشرع الإنسان في استخدام معارفه العلمية والتقنية من أجل الإخلال بنظام البيئة المستقر منذ القدم. وترافق ذلك مع نظام للقيم المعرفية تم تعميمه على العالم بأسره تقريباً، حل محل النظم المعرفية التقليدية التي تنطلق من الإحساس بالوحدة مع الوسط الطبيعي وبتداخل الظواهر الروحية والمادية.
وهنا يأتي دور النزعة الأسطورية لدى الإنسان، التي تجد تجسيدها الأكثر إيجابية وحيوية وفعالية من خلال الشعر والفن.
يقوم الشعر والفن التشكيلي بإعادة برقعة الطبيعة بذلك الستار الصوفي الأخّاذ، بعد أن نزعت الثورة العلمية عنها قدسيتها وكشفت الأسرار عن كثير من مجرياتها. من هنا ضرورة الفن الذي يعيدنا إلى الطبيعة ويعيد وحدتنا معها ككائنات طبيعانية بالدرجة الأولى، كما يعيدنا إلى التأمل في الغايات القائمة خلف المظاهر الكونية المختلفة، ويرجِع إلينا ذلك الحدس الخلاق، والإدراك الباطني للمدهش، والرائع، والفائق، و... القدسي. وإن الفن الذي لا يصدر عن مثل هذا النزوع الميثولوجي المتأصل في النفس هو فقط فن الحواسيب الفائقة التي تقوم الآن بعدد لا يحصى من المهام "الإبداعية"! وإلى جانب الشعر والفن التشكيلي هناك فنون أخرى تمتح من المصدر الميثولوجي الدفين عينه، وعلى رأسها الدراما والسينما. فلقد أخذت الدراما الإغريقية تلعب دوراً هاماً في حياة الناس في بلاد اليونان بعد أن تحولت الأساطير اليونانية الكلاسيكية إلى أدبيات دنيوية ونُزعَت عنها غلالاتها الميثولوجية. وفي العصر الحديث ترافقت نهضة الدراما واستئثارها بعقول الملايين في أوروبا مع الثورة العلمية في القرن السادس عشر والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وما أحدثته هاتان الثورتان من فراغ ميثولوجي داخلي. وربما لهذا السبب اتجهت الدراما الإغريقية في بداية عهدها إلى النضح من الموروث الميثولوجي التقليدي، وقام شكسبير بابتكار مسرحيات مازالت تحركنا إلى الآن، لأنها نابعة عن نزوع ميثولوجي أصيل كان يواجه به إنسان ذلك العصر طغيان النزعة العقلانية التي تعمل بإصرار على نزع الأسطورة عن كل الموروث القديم، أدبياً كان أم دينياً. أما عن صعود السينما في القرن العشرين وتحريكها لمليارات البشر حول المعمورة فلا يمكن تفسيره إلا بصدور الفن السابع عن نزوع ميثولوجي وسده لحاجات ميثولوجية أصيلة لدى جماهير الناس في كل مكان، حتى غدت السينما بمثابة الصانع الرئيسي لأساطير القرن العشرين.
وهكذا، فما دامت الأسطورة، باعتبارها ميلاً ونزوعاً، تعمل كخميرة لكل أشكال التعبير الفني، وتضع بين أيدينا منظاراً ملوناً يعيد البهجة والمعنى إلى الحياة، فإن باستطاعتنا الركون إليها واعتبارها مصدراً إيجابياً في إنتاج الثقافة واستهلاكها.
غير أن النزوع الأسطوري، باعتبار طبيعته غير العقلانية، قد يشكل في بعض الأحيان تهديداً حقيقياً على المجتمعات الحديثة في العديد من المجالات. ففي فترات المحن والشدائد التي يمر بها مجتمع ما، تطفو الأسطورة على سطح الوعي وتنبعث النبوءات القديمة من مرقدها لتفسير حقيقة ما يجري، ويأخذ السياسيون وحتى العلماء بما يشبه الأساطير. في مثل هذا الجو غير العقلاني الذي يجتاح الجماهير قد يجد أصحاب العقول الأكثر رجاحة صعوبة في مقاومة التوجُّه إلى مكان ظهر فيه طيف السيدة العذراء، أو الانضمام إلى الآلاف المؤلفة من المتدافعين للحصول على البركة والشفاء من تمثال قيل أنه يذرف الدمع، أو آخر قيل إن قطرات من الدم تتساقط من مواضع المسامير على كفيه وقدميه. وقد تنبعث من أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة تجد تجسيداً لها في ظواهر يسبغ عليها الهوس الجمعي طابعاً إعجازياً وبعداً ماورائياً. من ذلك، على سبيل المثال، ما حدث منذ بضع سنوات في بلدة سورية نائية قيل إنه ظهر فيها تيس يحلب اللبن وإن لبنه يصنع المعجزات ويشفي الأمراض عن طريق الشرب أو الدهن. وهكذا تم بعث إله الخصب القديم تموز من مرقده، وراح أحد رموزه التقليدية يسرح بين أهل القرن العشرين ويوزع بركاته على الناس، وصار المكان مزاراً مقدساً يتقاطر إليه عشرات الألوف.
وفي صيف عام 1996 تجول كاهن كندي في محافظات لبنان وسورية، معلناً أنه قادر على شفاء الأمراض بإذن الله وبإيمان الناس. وفي كل بلدة حل فيها تعطل نظام الحياة اليومية وترك الجميع بيوتهم ومشاغلهم وتوجهوا إلى مكان إقامة الكاهن، إما للشفاء أو لمشاهدة ذلك العرض المدهش. وقد قال لي شهود عيان أثق بهم أن عدداً لا بأس به من حالات الشفاء قد تم بشكل مدهش في ذلك الجو المشحون بالميثولوجيا وبالإيمان. ولعل من أكثرها لفتاً للنظر أن رجلاً مقعداً كان يشق طريقه وسط الحشود المتدافعة على كرسي ذي عجلات عندما علق في قلب الخضم البشري دون أن يستطيع تقدماً ولا تراجعاً، ولكنه ما لبث أن قام عن كرسيه بعد وقت قصير. لقد نسي جميع هؤلاء المتقاطرين إلى ذلك العرض الميثولوجي أن سيجموند فرويد أعلن قبل مئة عام من الآن، استناداً إلى تجارب سريرية موثقة، أن كل مرض هستيري ذي منشأ نفسي قابل للشفاء بواسطة الإيحاء وعن طريق استنفار القوى الداخلية للإنسان، سواء أكان هذا المرض عمى أم صمماً أم شللاً. وأي جو قادر على استنهاض القدرات الداخلية للمريض خير من هذا الجو المشحون بإيمان عشرات الألوف أو برغبتهم الحقيقية في الإيمان وفي التصديق؟ ولكن النزوع الميثولوجي في النفس الإنسانية يأبى إلا أن يعبر عن نفسه في كل مناسبة تتيحها له شروط هذا العالم الخاوي من الميثولوجيا.
كما يتجلى النزوع الأسطوري في المجتمعات الحديثة فيما نراه من جنوح جماهير الشباب إلى خلق أنصاف آلهة تسكن على الأرض وتقدم للناس عزاءات صغيرة تعوِّضها عن جفاف الحياة العصرية وغربة الأفراد بعضهم عن بعض فيها. ولنا في نجوم موسيقى الروك الحديثة خير مثال على نزوع الجماهير إلى خلق مثل هذه الشخصيات التي تحيط بها هالة من القداسة جديرة بأي إله شعبي أو قديس أو ولي. إن ما نراه في صالات الروك الهائلة من هوس جمعي ليشير فعلاً إلى نشوء "عبادات"، دنيوية من حيث الشكل، لكنها تتمتع بكل ما للعبادات الدينية من فعل وتأثير، وتصدر عن النوازع الأسطورية المتأصلة في النفس البشرية ذاتها التي جعلت في الماضي الأسطورة ممكنة. يكفي أن تشاهد واحدة من هذه الحفلات المجنونة على شاشة التلفاز، أو تنخرط إذا أسعفك الحظ بواحدة منها، حتى تقتنع بأن عربدات طقوس الإله ديونيسيوس لم تنقطع قط، وأنها مازالت تمارَس تحت أسماء جديدة وبأشكال جديدة كلما ازدادت وحشة ووحدة الشباب في هذا العالم الغريب، وزادت حاجتهم إلى الشعور بالاتحاد والاندماج. فالإنسان الحديث الذي غالباً ما يفخر بعلمانيَّته وعقلانيته هو سليل ذلك الإنسان المتديِّن القديم صانع الأساطير؛ وهو إذ يدير ظهره لأساطيره التي فقدت لديه كل مقدرة على الإيحاء، إنما يعمل على استبدال أساطير مزيفة وطقوس عابثة بها، قد ترضي ذلك النزوع الأسطوري لديه، لكنها لا تجعله في انسجام وتلاؤم مع متطلباته الحقيقية. وهذا ما يجعل الجماهير على الدوام عرضة للوقوع في براثن أساطير حديثة مصممة بشكل مدروس من أجل توجيه الجماهير والسيطرة عليها. ويتجلى ذلك بأخطر صوره في مجال السياسة.
إن أخطر الجوانب السلبية للنزوع الأسطوري تتبدى في مجال السياسة، وخصوصاً إبان فترات صعود الأنظمة التوتاليتارية. فخلال فترات الاضطراب ومنعطفات التغيير التي قادت إلى صعود هذه الأنظمة، يعمل مفكِّروها على الإفادة من النزوع الأسطوري بما هو نزوع غير عقلاني، فيعمدون إلى فبركة أساطير مدروسة بمهارة يضعونها تحت تصرف أساطين الإعلام، من شأنها استقطاب الأحوال الانفعالية عند الجماهير ومصادرة محاكماتها المنطقية لصالح نزعاتها غير العقلانية. ويعتمد هؤلاء على الاستفادة القصوى من ظلال الكلمات ومن الطابع السحري للغة، وينحتون مصطلحات ذات شحنة عاطفية هائلة تحرك الجماهير وتوجهها نحو الغايات المرسومة. يقول الفيلسوف الألماني إرنست كازيرر: "لقد بدأ العالم السياسي منذ عام 1933 بالقلق من إعادة تسليح ألمانيا ومن احتمال انفجارها دولياً. والواقع أن إعادة تسليح ألمانيا قد بدأ قبل ذلك بسنوات عديدة، وإن لم يكن قد لحظه أحد. إن إعادة التسليح الحقيقية قد حدثت عندما أُعيد إحياء الأساطير. ولم تكن إعادة التسليح العسكري إلا عاملاً مساعداً، نتيجة ضرورية لإعادة التسليح الذي أحدثته الأساطير السياسية. وأول خطوة اقتضت الضرورة القيام بها هي إحداث تغيير في مهمة اللغة. ولو أني قرأت هذه الأيام كتاباً من الكتب الألمانية التي نشرت في ذلك الوقت فإني سأرى أنني لم أعد قادراً على فهم اللغة الألمانية. وهذا أمر مذهل. فلقد تم صك كلمات جديدة، بل وأصبحت الكلمات القديمة تستخدم للدلالة على معانٍ جديدة. ويرجع هذا التغيير إلى أن هذه الكلمات بعد أن كانت تستعمل في أغراض دلالية ووضعية ومنطقية قد أصبح لها الآن دور سحري، قصد به إحداث آثار معينة لتحريك انفعالات معينة. ولكن البراعة في استعمال الكلمة السحرية ليست كل شيء. فلكي تُحدِث الكلمة تأثيرها كاملاً ينبغي أن تضاف إليها طقوس جديدة. وتتميز هذه الطقوس برتابتها وصرامتها وتزمتها، كالطقوس التي نراها في المجتمعات البدائية. ولكل طبقة وجنس وجيل من الأجيال الطقوس الخاصة به. فلا أحد يستطيع السير في الطرقات، ولا أحد يستطيع تحية جاره أو صديقه دون اهتمام بأحد الطقوس السياسية. والعواقب المترتبة على هذه الطقوس الجديدة واضحة. فلا شيء يمكن أن يخمد كل قوانا الفعالة وقدراتنا على الحكم والإدراك النقدي، وينزع عنا الشعور بالشخصية والمسؤولية الفردية، مثل الأداء المضطرد لنفس الطقوس."[11]
إن الإيديولوجية النازية التي قادت إلى كارثة على مستوى العالم سيطرت على عقول عشرات الملايين من خلال أساطير رثة، مثل "أسطورة الفوهرر الملهم" و"أسطورة العرق الآري المتفوق"، وما إليها من أساطير تم زرعها بمهارة في مجتمع يفتخر بأنه صانع الفلسفة الحديثة في أوروبا ورائد الفكر العلمي والتكنولوجية المتفوقة. وقد عمد مفكِّرو ودعائيو هذه الإيديولوجية منذ البداية إلى نبذ كل ما يمت إلى "البرهان" بصلة، مؤكدين على "البيان" السحري، في كتاباتهم ومنشوراتهم، واستطاعوا خلال فترة وجيزة الولوج من "بوابة اللاعقلانية" المفتوحة دوماً في النفس الإنسانية، فاستولوا على نفوس وعقول أكثر شعوب أوروبا نزوعاً نحو التفكير العقلاني الصارم. يقول أحد مفكري الحركة النازية فيلهلم ستابل: "إن الحركات السياسية التي تلجأ إلى أسلوب الإقناع هي الحركات التي نالت مكانتها أصلاً بالإقناع. أما النازية فإنها إيديولوجية بسيطة وتقوم على أفكار أولية لا تحتاج إلى اللجوء للإقناع".[12] وقد أكد هتلر نفسه، وفي أكثر من مقطع في كتابه المشهور كفاحي، على ضرورة تفادي الإقناع في التوجه إلى الجماهير والتركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات. وتميزت أفكاره الساذجة التي طرحها في هذا الكتاب وفي جميع خطبه الشهيرة بعدم قابليتها للبرهان على أي صعيد، وابتعادها عن أبسط الوقائع العلمية. ففي شرحه للنظرية النازية في الأجناس يقول: "إن الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أجناس: 1. الجنس الذي صنع الحضارة، 2. الجنس الذي حافظ عليها وسندها، 3. الجنس الذي يعمل على تدمير الحضارة. أما الجنس الأول فهو الجنس الآري الصانع الوحيد للحضارة. وأما الجنس الثاني فهم الآسيويون من أمثال اليابانيين والصينيين الذين استمدوا الحضارة من الآريين ولم يكونوا خالقين لها. وأما الجنس الثالث فمثاله اليهود الذين ما فتئوا يهدمون منجزات الحضارة الإنسانية.[13] ثم يخلص من هذه الأطروحات وأمثالها، مما لا يقيم وزناً لأي منطق منضبط وحقيقة تاريخية أو علمية، إلى القول بضرورة سيادة العنصر الآري وافتتاحه لعصر جديد في تاريخ البشرية.
إن من يسخر من أمثال هذه الأساطير السياسية الحديثة اليوم عليه أن يتذكر أن هذه الأساطير نفسها هي التي قادت ملايين الألمان إلى الموت في بطاح روسيا الثلجية وفي صحاري شمال أفريقيا الموحشة. وأن أمثالها جاهز أبداً للتوالد كلما سنحت لها الفرصة وتهيأت الشروط. فبوابات اللاعقلانية الإنسانية جاهزة في كل لحظة للانفتاح على مصاريعها وتدمير كل ما بناه العقل الإنساني بكد وأناة. والنزوع الأسطوري في جانبه البناء قد يتحول في أي وقت إلى ارتماء في حضن الشيطان، ويسمح لكل تلك العفاريت والغيلان أن تنطلق من قماقمها المنسية، لتخرج في أشكال عصرية جديدة وتتربع في سدة السلطان، وتكرس إبليس سيداً بالفعل لهذا العالم.
إن دراسة الأسطورة وفهمها، من خلال المنظور الذي قدمته في هذا البحث، تتحول إلى دراسة للإنسان، ودراسة الماضي إلى فهم للحاضر واستشراف للمستقبل.


[1] س.ن.كريمر، من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، مكتبة المثنى ببغداد، ص ص 375–378.
[2] إديث هاملتون، الميثولوجيا، ترجمة حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990، ص89.
[3] نفس المرجع، ص 151.
[4]أعني بالثقافات التقليدية الثقافات البطيئة التقدم من الناحية التكنولوجية التي عاشت حتى الزمن الحديث على هامش الخط الرئيسي لتقدم الحضارة الإنسانية. وهذا التعبير بديل عن تعبير "الثقافات البدائية" الذي يتضمن صفة "الانحطاط" في مقابل صفة "الرقي" بالمعنى القيمي لهاتين الصفتين.
[5] Dorsey, Eleventh Annual Report of the American Bureau of Ethnology, 1889–1890; Cited by J. E. Hrrison in her Themis, University Books, New York 1966, p. 329.
[6] ميرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق 1990، ص ص 12-13.
[7] Watter Wili, “The Orphic Mysteries” (in The Mysteries, ed. by Joseph Campbell, Princeton 1978, pp. 83-85.
[8] أنا مدين بهذه اللفتة إلى الفيلسوف موريس كورنفورث في كتابه الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ترجمة فاروق عبد القادر، دار الآداب والثقافة، بيروت 1979، ص16.
[9] وهذا ما كان والدي يقوله لي وأنا في السادسة من عمري رغم أنه كان إنساناً متعلماً، ربما لأن في هذا التفسير العلمي القديم نوعاً من السهولة في التقبل بالنسبة لعقل طفل صغير.
[10] المرجع نفسه، ص ص 90-91.
[11] إرنست كاسيرر، الأسطورة والدولة، ترجمة أحمد حمدي محمود، القاهرة 1975، ص ص 372–375.
[12] W. Reich, The Mass Psychology of Fascism, Pelican, 1975, p.68.
[13] Ibid., pp. 110-111.