رحلة الذهاب


1



لم أع ماكان يتكلم عنه في حينها ، كانت الدنيا مليئة بالضجة ، امرأة تركض هناك ورجل متمددعلى الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وأطفال يصرخون ، ونساء يبكون أبناءهم وأزواجهم .

لم نعرف ماذا يحصل تقريباً ، لكن نفسي كانت تضج بأفكار شتى متنوعة ،تتقاذفها الصور والذكريات ، ناداني أبي بصوت خافت من جانب الحائط المستند علىالهواء

"
محمد من هنا ... "

ولكن لم يكمل عبارته ، فقد قطعتهارصاصة أوقفته عن الكلام ، فقد أزحم فمه الغائر في وجهه بالدماء الوردية ، اتجهتدموعي تغسل وجنتاي حزناً عليه لكنني لم أكن سوى أحد الصبية الذين فقدوا أهاليهم فيهذه المذبحة .

مر بجانبي أبو أحمد وأمسك يدي وانطلق بها إلى الجهة الشرقيةمن المدينة عبر الأزقة التي ازدحمت بالجثث فكانت كالطريق المغلف بالجثث ، سألتهباكياً :

"
إلى أين يا عمي ؟ "

فأجابني وهو يلقط ما يستطيع من أنفاس :

"
إلى بر الأمان بإذن الله "

لم أستطع أن أجمع أفكاري التي بدتمشتتة الأركان ، لم أستطع أن أبني شيئاً على ما يحصل ، فقد كان كل ما يشغل عقليمكان وجود أمي وأخواتي ، فهاهي يد أبي أحمد يبدو على أعصابها التلف والإرهاق فهوكبير طاعن في السن ، لكنه يغير وضعيتي فمرة على كتفه ومرة على ظهره ومرة في حضنه ،أدركت أنه قد تعب فطلبت منه إنزالي لكنه لم يرض قائلاً :

"
أين ستذهب في هذهالضجة "

فأطرقت صامتاً إلا دموعي فقد كانت تحكي حزناً على أبي الذي استشهدأمامي .

كان هناك أحد الضباط الإسرائيلين يتكلم في بوق كبير ذي صوت مرتفعوينادي بأن نخلي القرية ، وقد كان في الرتل الذي كنت فيه مع أبي أحمد ستة شبابيافعين وقد اطمأنوا جميعاً أنهم سيبقون على قيد الحياة لأنهم تعدو منطقة الخطرووصلوا إلى حدود " تبنين " وخففوا من سرعتهم وأنزلني أبو أحمد من على كتفه الذيانهار ، وأوعك نفسه قليلاً مظهراً أسنانه الصفراء الطاعنة في السن ثم اعتدل فأكملناطريقنا إلى أن وصلنا الشارع العام وأوقفنا إحدى السيارات المارة لنستقلها ونصل إلىحدود مدينة " تبنين " .



2



أنزلنا السائق على مشارفهامعتقداً بوجود اليهود فيها لكن أبا أحمد و من كان معه من الشباب متيقنون بعدموجودهم فيها ، لكن .... بعد أن قطعنا الشارع باتجاه الأراضي الزراعية وجدنا علماًمعلقاً على بيت يبدو خشبياً ... إنه علم الأوغاد علم اليهود ، انتابت أبا أحمدوالشباب حيرة فلم يصلوا إلى هنا ، كيف وجد العلم إذاً ، بدأت أنظر إليهم راجياً أنيكون ما يفكرون به هو العودة من حيث أتينا ! .

بدأ العرق بالتصبب على خدودأبي أحمد والشباب ، نظروا في وجوه بعضهم متناقلين الحيرة ! ثم قال أحدهم :

"
أنا .. أنا من كان صاحب الرأي في المجيء إلى هنا ... فإذاً أنا أتحملمسؤولية ما حدث وأذهب إلى هذا المبنى البسيط لأتأكد من عدم وجود يهود فيه ! "

"
ارتبك أبو أحمد بعض الشيء لكنه لم يبد أي اعتراض على الفكرة ، فانطلقهذا الشاب بأمر رباني وبشكل حذر و بطيء باتجاه هذا البناء الصغير ، يتحرك ... يتحرك ... يتحرك ، فإذا به يسقط ، ويصرخ أبو أحمد :

"
هذا ما توقعته من هؤلاءالأوغاد ، هذا ما توقعته ! " فقد كان هذا البناء هو مرتكز لـ " قانص"

آلييقنص من يأتيه من هذه الجهة .

ثم تبدو عبرات محتدمة بالسقوط على الأرض التيطالما شربت دماءً ولكن هذه المرة شربت دموعاً مالحة .

رأى الشباب أن يكونالابتعاد أفضل لكن أبا أحمد أصر على المضي في الطريق ولكن من مكان آخر ، وانطلقوامن الطريق العام بسيارة أجرة كانت قد مرت من هناك مصادفة ، فحملتهم رأفة بهم وقاللهم السائق أنه متجه إلى " تبنين " فأخبرناه بما حدث ، فحول طريقة إلى بيروت ،ونصحنا بالمضي معه .... وقد كان له بيت هناك



3



فيبيروت استضافنا سائق الأجرة في منزله لأنه كان أعزباً ، وقد كنت تقريباً ناسياً أنلي أهل بقوا في قانا ، واستمرت الحياة مع هذا السائق الخلوق البسيط عدة أيام ،وأخبار قانا تصل إلينا عبر زوار هذا السائق ، منها ما كان يصدق ومنها ما كان لايصدق :

"
يقولون أن عدد أسكان قانا الذين بقوا على قيد الحياة هم مئة فقط ! "

"
يقولون أن أولمرت وبوش عقدوا مؤتمرهم في قانا لقهر الشعوب العربية ! "



لا أدري مدى مصداقية هذه الأخبار ، لا أدري عن مدى حالة اليهود فيقانا .

كان جميع سكان المنزل مهذبون ويحترمون صغر سني ويداعبونني على أننيأصغرهم سناً وأنني أفقرهم حالاً ، ولكن ما لبث أحدهم أن سألني عن سبب وجودي في هذاالمكان قائلاً :

"
صحيح ، أليس لك أهل ؟ أتعيش وحدك ؟"

هنا أحسست أنشيئاً في جوفي بدأ يتحرك ولكنني أخفيته لكن للأسف لم أستطع أن أطيل إخفاءه ،فأظهرته متمثلاً بقيام إلى الغرفة ودخول إليها وقفل للباب خلفي .

استغربتعدم مجيء أحد لمعرفة حالتي ولا حتى أبا أحمد ، لم يأت لمواساتي ، وهنا بدأت أتذكرعائلتي وبدأت أتهم نفسي بالغباء لمجيئي مع أبي أحمد وقررت أن أبداً رحلة العودةلأجد أمي وأخواتي وجثة أبي .....