محام يتحدث الى «الحياة» عن اوضاع صعبة يعانيها موكلوه منذ حرب تموز ...آلاف الجنود الإسرائيليين في مصحات نفسية تلاحقهم كوابيس الحروب القدس المحتلة - امال شحادة الحياة - 15/11/06//



جندي اسرائيلي يهدئ زميلاً له يبكي خلال حرب تموز (رويترز) اكثر من 4 آلاف دعوى تبحثها هذه الأيام وزارة الدفاع الإسرائيلية تقدم بها جنود يطالبون بالاعتراف بهم كمعوقي حرب لمشاركتهم في قمع انتفاضة الأقصى وحرب لبنان، ليضافوا الى نحو 7 آلاف اعترفت بهم الوزارة كمرضى نفسيين في الحروب السابقة. ويتوقع المحامون مضاعفة عدد المرضى النفسيين بين «أبطال» حرب لبنان الذين تجعلهم مشاهد القتل والدمار يعيشون في كوابيس دائمة. وهم يطالبون اليوم بالاعتراف بهم كمعوقي حرب نفسانيين.

ايتان جندي احتياط في الجيش الاسرائيلي. عندما وصلته الأوامر للمشاركة في الحرب على لبنان اعتقد كبقية الجنود ان المسألة ستستغرق بضعة ايام فقط وستنفذ المهمة بالقضاء على «حزب الله».

في الأيام الأولى، شاء حظه ان يكون في منطقة لم تسجل فيها مواجهات عنيفة بين مقاتلي «حزب الله» والجيش الاسرائيلي، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً إذ نقل الى بلدة بنت جبيل، حيث دارت المواجهات الأعنف في الأسبوع الثالث من الحرب «إطلاق النار من كل الجهات, صراخ جنود, وقتلى. روائح جثث محروقة ورعب. رعب بكل ما تعنيه الكلمة»، هكذا وصف ايتان مشاهد الحرب التي شارك فيها وأدخلته في حال من الهستيريا, ويضيف: «جلست جانباً في أحد البيوت اللبنانية ونظرت من النافذة فعادت الى ذاكرتي تلك الصور التي شاهدتها في الحرب اللبنانية الأولى... جثث في شوارع بيروت. صراخ لبنانيين تارة وجنود تارة اخرى. جثث محروقة. نيران مشتعلة. لقد شاهدت أمامي كل الصور التي حفرت في ذاكرتي منذ عام 1982. وكلها عادت امام عيني وأنا في بنت جبيل».

هذه التفاصيل، لا يرويها ايتان في رواية صحافية، بل وردت في نص الطلب الرسمي الذي رفعه الى وزارة الدفاع الاسرائيلية وطالبها فيه بالاعتراف به كمعوق حرب وتعويضه مالياً لما ألحقته حرب تموز (يوليو) به من مشاكل نفسية صعبة.

في الشهر الأول بعد انتهاء الحرب قدمت 450 دعوى الى وزارة الدفاع من جنود شاركوا في حرب تموز يطالبون فيها بتعويضهم، بينها 100 دعوى اعتبر مقدموها أنفسهم مرضى نفسيين ومنهم من يعاني من أمراض عقلية. وانضمت هذه الدعاوى الى مئات سابقة قدمها جنود شاركوا في قمع الانتفاضة الثانية والحملات العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتشير المعطيات الى ان في الشهر الأخير ارتفع عدد الدعاوى التي قدمها جنود شاركوا في حرب لبنان الى 4 آلاف دعوى. النسبة الأكبر من المتقدمين بالدعاوى يدرجون أنفسهم بين المعوقين نفسياً. هؤلاء، في حال التجاوب مع طلبهم، سينضمون لاحقاً الى 6700 جندي وضابط ممن قلّدوا «أوسمة البطولة» بعد ان قتلوا المئات من الفلسطينيين واللبنانيين من أطفال ونساء ومسنين واعترفت بهم وزارة الدفاع خلال السنوات الخمس الأخيرة كمعوقي حرب بعد إثبات انهم باتوا مرضى نفسيين ومنهم من يعالج في مستشفيات للأمراض العقلية.

11700 ضابط وجندي شاركو في معارك قتالية قاسية منذ حرب لبنان الأولى ثم اثناء الانتفاضتين والحملات العسكرية وصولاً الى حرب تموز, يعيشون اليوم أوضاعاً صعبة. توتر أعصاب وأمراض نفسية وإدمان مخدرات وانهيارات عصبية. وقائمة طويلة من الحالات النفسية الصعبة أطلق عليها المعالجون النفسيون في إسرائيل اسماً واحداً هو «اوهام الحرب».

المحامي ايلي سبان، الذي يترافع عن عدد من الجنود المعوقين جسدياً ونفسياً من حرب لبنان الثانية، قال لـ «الحياة» انه يتوقع ارتفاع عدد المعوقين نفسياً خلال الأشهر المقبلة بنسبة عالية. وأضاف: «بشكل عام الذين يعانون من حالات انهيار نفسي صعبة هم الذي يرفعون الدعاوى خلال فترة قصيرة، لكن المرضى الذين يتعرضون خلال الحرب لصدمات نفسية ينتظرون فترة أطول حتى يتخذوا قرار رفع الدعوى، اذ ان التجارب السابقة دلت إلى ان المئات من الجنود كشفوا عن أمراضهم النفسية بعد فترة طويلة من تدهور حالهم. بعضهم حبس نفسه داخل البيت وبعضهم لجأ الى المخدرات وهناك حالات طلاق عديدة في أوساطهم نظراً الى عدم تحمل الزوجات الوضع، وهناك من لم ير أولاده منذ 10 او15 عاماً, اذ غادر الأولاد البيت بعد تعرضهم لحالات اعتداءات وضرب وتنكيل من والدهم المريض النفسي». والحالات الأخطر بين هؤلاء، كما يشير المحامي، هي لدى أولئك الجنود الذين خدموا في وحدات مختارة واعتبروا آنذاك من أبطال الجيش وربما تلقوا ايضاً الأوسمة. فهذه الوحدات كانت في مقدم المعارك وقتل من أفرادها أعداد كبيرة من الجنود.



من اختطاف الجنود الثلاثة عام 2000 وحتى معارك بنت جبيل ودبل 2006



ايتان ليس الوحيد بين الجنود الذين شاركوا في الحرب اللبنانية الأولى ثم الثانية ورفعوا دعوى للاعتراف بهم كمعوقين نفسيين, يؤكد المحامي سبان ان العديد من الجنود الذين طالبوا بالاعتراف بهم كمعوقين لم يحتملوا ما حصل معهم في الحرب الأخيرة لتكرار المشاهد والتجربة الصعبة من الحرب الأولى في لبنان ما اضطرهم الى تلقي العلاج النفسي للتخفيف من صدمتهم. بين هؤلاء جنود ممن خدموا في الوحدة التي قتل «حزب الله» ثلاثة من جنودها عام 2000 واستخدم الجثث في صفقة الأسرى عام 2003. هذه الوحدة تعتبر مختارة في الجيش الاسرائيلي ويطلق عليها»601». وعدد من أفرادها يعانون من مشاكل نفسية صعبة وأحدهم حاول الانتحار.

الجندي يعالج في قسم مغلق للأمراض العقلية ويصف حالته في الدعوى التي رفعها الى وزارة الدفاع بـ «الكوابيس المرعبة» ويقول انه لا يستطيع النوم: «كلما اذهب الى السرير للنوم اغمض عيني وابدأ بالتفكير بمواضيع كثيرة لكن مشاهد الرعب والخوف التي عشتها عند اختطاف الجنود الثلاثة لا تفارقني».

وزارة الدفاع رفضت في البداية الاعتراف به كمريض حرب, وكل الجهود التي بذلها محاميه لم تجد نفعاً، ما زاد من مشاكله النفسية الى حد محاولته الانتحار عبر القفز من نافذة غرفته فأصيب بكسور في مختلف أنحاء جسمه واستأنف محاميه في ما بعد قرار وزارة الدفاع وعندها فقط اعترفت به الأخيرة كمريض نفسي. واليوم تعتبر حاله خطيرة.

قائمة الدعاوى في الوزارة تطول ووراء كل دعوى من بعد حرب لبنان الثانية قصة تعكس الحال التي يعيشها جنود الجيش الاسرائيلي.

العديد من هؤلاء لم يترددوا في الحديث عن مشاكلهم وكان أبرزهم أحد نجوم التلفزيون الإسرائيلي ويدعى رودريغو غونزالس، الذي لم يتمكن من العودة الى متابعة تقديم برنامجه التلفزيوني الذي يحظى بشعبية كبيرة. غونزالس يعاني اليوم من مشاكل نفسية صعبة, وهو شارك في معارك قرية دبل ونقل جثث تسعة من زملائه. اليوم يقول انه على رغم مرور ثلاثة اشهر على انتهاء الحرب ما زالت رائحة الجثث المحروقة تنبعث في رأسه. يصف ما حصل له قائلاً: «كانت عقارب الساعة تقترب من الثانية عشرة ظهراً.

فجأة سمعنا أصوات ضجيج في أجهزة الاتصال. حملنا النقالات وركضنا كالمجانين نحو الوادي وكان إطلاق النار في اتجاهنا من كل الجوانب. عند وصولنا انتشرت رائحة اللحم المحروق. شاهدت جندياً ملقى على الأرض. كان اسود كالفحم، من رأسه وحتى قدميه. أخذت نفساً وكان من الصعب ان أخرجه حتى لا أشم الرائحة. الآلام التي سيطرت على المنطقة أسكتتني تماماً. نظرت من حولي فوجدت جنوداً من دون أيد او أرجل. سمعت انيناً من كل الجهات عندها استيقظت وبدأت أتحرك تماماً كما يتحرك الرجل الآلي. لم يكن لدي الوقت لأخاف. سحبت جندياً على النقالة وكانت الإصابة قسمت وجهه الى قسمين فشاهدت ما في داخل جمجمته. سحبته وكانت الدماء تتطاير علي... لقد مات بعد قليل».

مشاهد هذا الجندي، يقول رودريغو، لا تفارقه البتة: «كلما اغمض عيني أتذكر هذا الجندي. أشم رائحة اللحم المحروق. اسمع أنين الجنود. مشاهد لا تنسى».

يقول رودريغو انه عند عودته الى البيت فتحت له صديقته الباب لكنه كان عاجزاً عن احتضانها وتقبيلها.



المستعربون



وتحاول وزارة الدفاع التغطية على الدعاوى في محاولة للتخفيف من آثار القضايا التي نشأت في أعقاب الحرب والتي تذكر بالفشل الاسرائيلي، غير ان الجنود ومحاميهم لا يترددون في الحديث ولا في رفع الدعاوى. فإذا لم يحصلوا على التعويضات التي تشملها الدعاوى ففي احسن الأحوال يضمنون عدم مشاركتهم في أي حرب مقبلة او حملة عسكرية في الأراضي الفلسطينية او أي نوع من المعارك التي تهدد حياتهم, وهؤلاء اخذوا من المعركة التي قادها المستعربون الذين شاركوا في عمليات في الأراضي الفلسطينية، مثلا للوضع الخطير الذي قد يصل إليه الجندي الذي يشارك في معارك حربية.

فوحدة المستعربين كانت أولى الوحدات التي كشفت عن وجود مرضى نفسيين داخل الجيش نتيجة الحروب, علماً ان هذه الوحدة تعتبر من أهم الوحدات المختارة في الجيش. وفي أعقاب كشفها تبين ان الجيش يحاول علاج هذه المشكلة بهدوء وسرية وكان وجد حلاً موقتاً لها عبر إقامة قرية خاصة لعلاج الجنود أطلق عليها «ايزون» أي توازن.

وما يقلق وزارة الدفاع الإسرائيلية هذه الأيام ليس الأعداد المرتفعة للجنود المرضى نفسياً، انما كشف هذه القضايا لأسرار أمنية. اذ ان الجنود المرضى يروون بالتفاصيل للمحامين قصص خدمتهم العسكرية وبينها أسرار عسكرية يؤدي نشرها الى تبعات كثيرة.



هل يكررون تجربة بيوت الدعارة؟



حتى هذه اللحظة ما زالت وزارة الدفاع الإسرائيلية منشغلة اكثر في طبيعة الدعاوى التي تصلها من «أبطال» حرب لبنان الثانية ولم تدخل الى مرحلة العلاج، باستثناء توفير اختصاصيين نفسيين يرافقون عددا من هؤلاء الجنود.

وتحاول الوزارة التوصل الى تسوية اكبر عدد من الدعاوى قبل وصولها الى المحاكم والكشف عن أسرار كثيرة عن الحرب. غير ان المحامين الناشطين في هذا المجال يتوقعون وصول عدد كبير من الدعاوى الى المحاكم. ولكن الأهم في هذا المجال الخطة التي ستعمل بموجبها الوزارة لحل مشكلة هؤلاء الجنود.

في تجربة سابقة للجيش، وبالتحديد بعد حملة «السور الواقي» التي نفذتها إسرائيل عام 2002 في الضفة الغربية وجدت الوزارة حلاً لعدد من الجنود الذين لم تتمكن من استيعابهم في القرية العلاجية او حتى أقسام المرضى النفسيين في المستشفيات ، بعلاجهم من طريق بيوت الدعارة خصوصاً للجنود الذين انساقوا الى عالم المخدرات. فاستأجرت لهم الوزارة بيتاً يصل إليه يومياً مرافقون واختصاصيون اجتماعيون لضمان العلاج الضروري لهم، وكما يقول احد الاختصاصيين فإن البداية كانت صعبة للغاية وهناك من المدربين الشبان من لم يصمدوا معهم بسبب ميولهم العنيفة الخطيرة. وقالت إحدى العاملات في المطبخ انها تعرضت لاعتداءات متواصلة منهم ووصلت الى وضع تخاف فيه على حياتها.

خلال اشهر طويلة فشل الاختصاصيون في علاج بعض هؤلاء وأحياناً لم يتمكنوا حتى من ضبطهم ومنعهم من تعاطي المخدرات.

وضمن ما بحثه الاختصاصيون للتخفيف من حدة توتر الجنود المرضى إيصالهم الى بيوت الدعارة، علماً ان القانون الاسرائيلي يمنع عمل هذه البيوت وتنظم الشرطة حملات لاقتحامها واعتقال من في داخلها. وتم تمويل ذهابهم الى هناك من الموازنة المخصصة للعلاج. ويقول الاختصاصي المسؤول عنهم انه يأخذ كل واحد منهم مرة واحدة على الأقل في الشهر. ويدخل هو بداية ليطمئن الى نظافة المكان وتوافر وسائل الوقاية اللازمة ثم يفسح المجال أمامهم حيث يمضون هناك عدة ساعات وبعدها يعودون الى البيت لمواصلة تلقي العلاج