ربما جاز لنا أن نقول : إن المستشرق الفرنسي
( رينان RENAN ) كان أول من فتح باب الهجوم على العرب في كتابه ( تاريخ اللغات السامية المقارن HISTOIRE GENERAL ET SYSTEME COMPARE DES LANGUES SMITIQUES
وفيه حاول أن يؤكد أن في الدنيا نوعين من العقليات :
عقلية آسيوية ، وعقلية آرية .
أما العقلية الآسيوية فبعيدة عن الإبداع ، ومن صفاتـها
الضعف والإخفاق في كل شيء ؛ وما عقيدة التوحيد التي
تسيطر على معظم أقطار آسيا إلا دليل على هذا التخلف ،
وهذا الانحطاط . والآسيويون متهافتون ، ضعفاء في أخيلتهم ،
خوارون ، عاجزون في حروبـهم ، لم يشهد لهم التاريخ تفوقاً
حربياً ، ولا انتصاراً في أي عصر من العصور ؛ بخلاف العقلية الآريــة ، المتميزة بالإبداع ، المتفردة بالعبقرية ، القادرة على التصرف ،
المنتصرة في كل ميدان .
ذلك هو الهراء الذي طلع به رينان ، وقد كان
أول القطر ، ثم راح ينهمر ..
تبعه المستشرق الهنغاري اليهودي غولدزيهر GOLDZEIHER
في معظم كتبه ودراساته ، ولا سيما في كتابه المشهور : ( العقيدة والشريعة ) فقد حشاه سماً زعافاً وبهتاناً مبيناً ، وزعم ـ من جملة ما زعم ـ
أن حضارة المسلمين ليست نتاجاً عربياً ، وإنما كانت نتاجاً غير عربي ، وألح على التفريق بين العقلية العربية التي هي عقلية آسيوية غير منتجة ، وبين العقلية الآرية المبدعة .
ولحقه المستشرق الإيطالي غويدي ( الأب ) المعروف بالكبير . جاء إلى القاهرة ليحاضر في ( فضل العرب في الفلك والجغرافية والطب والعلوم الأخرى ) وكان في مطلع محاضرته رائعاً ، بلغ حد الإبداع ، لما أظهر من موضوعية ، ورصانة ، وحياد . وقد أنصف العرب ، وأشاد بفضائلهم ، وأظهر حساباتهم أدق من حسابات الإغريق والرومان والأمم الأخرى في هذه العلوم . ولكنه ما لبث أن هوى من حالق حين حاد عن موضوعه الأصيل إلى بحث في أسباب العبقرية والإبداع ، وقد حصرهما في العقلية الآرية دون سواها ، وأنكرها على العقلية الآسيوية ..وهكذا .
ومن إنكلترا طلع مرغوليوث بمثل ما طلع به رينان ، وغولدزيهر ، وغويدي ، وبدأ يشكك في كل التراث العربي ، وبكل العقل العربي ، ويملأ دروسه ومحاضراته بالأراجيف ، ويقنع طلابه ببراهين
وأدلة ما أنزل الله بها من سلطان .
وما هي إلا حقبة حتى كان صوت برتراند رسل الفيلسوف الإنكليزي يملأ الآفاق ، وكلمته التي جاءت في كتابه الضــخم ( تاريخ الفلسفة ) أكبر من أن تنسى . لقد قا ل : إن المكتبة العربية بكل ما تحتويه من تراث ومؤلفات أضن عليها برف من رفوف مكتبتي . والذي يلفت النظر أن الذين ترجموا كتابه إلى العربية لم يعلقوا بكلمة واحدة على هذه الإهـانة .
والذي سدد الطعنة النجلاء لكل ما صدر عن العرب والمسلمين هو الفيلسـوف الألماني ( أزوالد شبينجلر ) في كتابه المشهور :
( انهيار الغرب ) .
لقد أوصل نظرية التفريق بين العقليات إلى قمتها ، من حيث
البحث العلمي ، وتلمس الدلائل الموضوعية ، والاعتماد
على فلسفة التاريخ وتطوره .
كانت نظريته تقـوم على فكرة ( الظاهرة الأولية) وهو يعني أن لكل أمة من الأمم ( ظاهرة أولية ) هي التي تتحكم في سلوكها ،
وعقلها ، ونتاجها .
وفكرة ( الظاهرة الأولية) استقاها من علم البيولوجيا
والنبات ، فقد لاحظ أنه قد يتفق نوعان أو أكثر من النباتات
في المظاهر الخارجية ، السوق متشابهة ، والأغصان متشابهة ،
والأوراق كذلك ، وأحياناً قد تتشابه الثمار ، ولكن لدى
فحص الأوردة الصغيرة في الأوراق النباتية يظهر الفرق
في عدد هذه الأوردة ، أو شكلها . وهذا الفرق الدقيق هو
الذي يميز صنفاً من صنف ، ونوعاً من نوع .
وكذلك أمر الناس ، فقد ينتقل عربي ـ مثلاً ـ إلى بلد أوربي ،
فيظهر كأنه منهم ، من حيث طعامه ، وشرابه ، ولباسه ، ووجهه ،
ولونه ، وقد يشبههم حتى في لغتهم ، والفرق الوحيد الذي
منهم يكمن في( الظاهرة الأولية) المترسبة في أعماقه . وتبدو
واضحة لدى أنواع من السلوك ، وألوان من التحريض .
قد يثور إذا حدق أحد في زوجته ، أو غازلها ، وقد يضرب
من يهينه أدنى إهانة ، في حين أن ( الظاهرة الأولية) عند
غيره قد لا تكون لها هذه الاستجابات ، وإنما تكون لها
استجابات أخرى ، ومن لون مختلف .
كذلك درس شبينجلر تطور التاريخ ، فرأى كل أمة تمتاز
بـ ( ظاهرة أولية ) تختلف عن الظاهرة الأولية عند سواها .
فالإغريق مثلاُ تبدو ظاهرتهم الأولية في ( المكان ) ومن صفات
المكان وجود الأعمدة علواً ، والمسافات امتداداً . لهذا فإنهم عنوا
بالأعمدة ، والمعابد المختلفة ذات الأعمدة الجميلة ، وقالوا بتعدد الآلهة .
والظاهرة الأولية عند الرومان تبدو في ( العمود ، أو الجبل ) وهو يرمز إلى الاستعلاء والقمة . وهذه الظاهرة هي التي جعلتهم يتفوقون حربياً على الشعوب الأخرى ، ويتسلطون عليها . كذلك فإن مفهوم الدولة عندهم منسجم مع هذه الظاهرة ، إذ يرونها فوق المجتمع ، وما خلاصة مجموعة ( جستنيان ) الفقهية إلا برهان على هذه الفوقية ،
أو على هذه الظاهرة ـ على حد قوله ـ .
أما العرب ، ويعني بالعرب كل ما امتد من الجزيرة العربية
إلى أن يشمل سورية ، والعراق ، والقسم العربي من فارس ،
فالظاهرة الأولية تتجلى في ( الكهف ) . و( الكهف ) عند شبينجلر يمثل محدودية مظلمة ، ذات ازورار غير منفتح ، وإيحاؤه محدود ،
مكتنف باللاانفتاح ، وبالإغراق في الإبهام .
وللتدليل على صحة ما ذهب إليه ضرب مثلاً بالهندسة العربية المولعة بالأقواس ، والقباب ، والمحاريب بل ببنائهم الأصلي
الذي هو ( الخيمة ) . وفي زعم شبينجلر فإن الخيمة توحي بالكهف ،
ولا سيما في مظهرها الخارجي ، بل في مظهرها الداخلي كذلك .
وإلحاحاً علىهذه الظاهرة الأولية جاء إلى الشعر العربي
وزعم أنه مظهر للخيمة .
استدل على ذلك بعلم العروض الذي ابتكره الخليل بن
أحمد الفراهيدي ، وبالتسميات التي استخدمها في أكثر
مصطلحاته ، كالعروض ، والسبب ، والوتد ، وغيرها ، فإنها
جميعاً تدل على الخيمة وأجزائها .
والقصيدة العربية دليل آخر على هذه الخيمة ، فالتزام
الشاعر بقافية واحدة من أول القصيدة إلى آخرها يجعلها
بمثابة العقدة التي تمثل رأس الخيمة ، ويجعل الأبيات بمثابة
الشعاع الذي ينطلق من هذه العقدة ، أو يتجمع فيها .
وهذا كله يوحي بصورة الخيمة .
إذن ، فالخيمـة ، والأقواس ، والمحاريب ، والشعر العربي
تقود إلى ظاهرة ( الكهف ) وهذا يفسر انغلاق التفكير ، وتحجره ،
أو قل : يمثل ـ على الأقل ـ محدوديته وانطباقه .
وهكذا ، راح ينتقل من أمة إلى أخرى ، ويبتدع لها ظاهرتها
الأولية ، ويحاول أن يستخدم كل المعطيات العلمية للدلالة على
صحة ما يقول ويدعي .
ولا نغالي إذا قلنا : إن هذا الفيلسوف الكبير ينا ل من
علماء الفلسفة الحضارية التقدير الكبير ، والاحترام الجم ،
ويعد من أعظم مفكري القرن الحالي .
نظرية شبينجلر هذه رد عليها العلماء ، وقالوا : إن كل
زعم في التمييز بين الأقوام ، وظاهراتهم الأولية هو وهم من
الأوهام ، لا يسنده واقع ، ولا تؤيده حقيقة ، ولا يدعمه منطق .
فليس هناك في الدنيا كلها أمة صافية ، وأن كل أمة وضعت
رجلها في التاريخ صارت مركبة . وصفاء العروق غاب عن هذا
العالم منذ آلاف السنين ، حتى إنه غاب عن الأسكيمو ذاتهم ،
بعد أن وفدت عليهم البعثات الاستكشافية ، واختلطت بهم ، وبدمائهم .
وبعد ، فإن الواجب يقضي أن ننصف بعض المستشرقين
أمثال ماسينيون ، ونولدكه ، ودي غويه ، وفلوجل ، وولفنسون
الذين ردوا على رينان ومن لافّه ، وعارضوهم بأبحاث علمية ،
وبراهين ساطعة ، وبينوا إسرافهم في هذا التمييز بين
العقليات ، ورموهم بالتعصب ، ومخالفة الحقيقة ، والبعد
عن العدل والإنصاف ، وضربوا الأمثلة الكثيرة على تفوق الساميين ـ والعرب على رأسهم ـ في ميادين مختلفة ، سواء في الانتصارات
الحربية أو في الأمور الحضارية