بين شعوبية القدماء وشعوبية المعاصرين

بقلم: الدكتور بكري شـيخ أمين



يلفت نظر الباحث العربي المدقق في هذا العصر كثرة الدراسات والنظريات المنصبة على العالم العربي ، والإسلامي بوجه خاص ، وعلى القارة الإفريقية بشكل عام ؛ صادرة في المقام الأول
من العالم الغربي ، ثم من إسرائيل ، كما تصدر أحياناً من
أقطار عربية معينة .

وأكثر ما تدور أبحاث هذه النظريات أو الدراسات حول ( العقلية العربية ) وخصائصها ، وسماتها ، وميزاتها ، والفروق بينها وبين العقلية الأوربية في مظاهرها ، ومحتواها ، واتجاهها . والغريب أن تكون هذه الدراسـات متقاربة إلى حد الاتحاد في مضمونـها ، على الرغم من الاختلاف الشكلي في أســاليبها ، وطرق معالجتها .

ولو قيض لك أن تقرن هذه الدراسات بعضها ببعض ، وتدرس هوية أصحابها ، وتتعرف غاياتهم ، لهالك الأمر ، وعرتك الدهشة ، وانتابك العجب ؛ فهم ينتسبون إلى نسب واحد ، هو العداوة لكل ما هو عربي ، ومسلم ، وشــرقي ؛ على الرغم من اتخاذهم جميعاً الأســلوب العلمي وسيلة ، والبحث الفكري الخالص خطة وطريقاً .

ولو أتيح لك ـ كذلك ـ أن تفتح مذياعك على الإذاعة
الإسرائيلية ، وتصغي إلى ما يبثه من برامج وأحاديث ، ولا سـيما في غير اللغة العربية ، لرأيت أنه يهدف إلى غرض بعيد ، هو سـلخ العرب من كل تراث حضــاري ، ومجد تليد ، وفكر أصيل ، وردّ ذلك كله إلى الأمم الأخرى غير العربيــة التي دخلت في الإسلام .

غاية هذه الدراسات والإذاعات واحدة ، إنها الإلحاح على فكرة أساسية هي : أن الحضارة التي يفاخر العرب بها نتاج فارسي ،
أو هندي ،أو تركي ، أو غير ذلك . وتضرب على ذلك الأمثلة الكثيرة ، فترد ابن سينا إلى الأصل الروسي ، والغزالي إلى الأصل الفارسي ، والبخاري إلى الأصل الأفغاني ، والفارابي إلى التركي ، وهلم جراً …

وأغرب من هذا كله ، أن عدداً من الدول العربية والإسلامية تعتقد ـ عن حسـن نية ـ ما يقوله هؤلاء الناس ، فتقيم مهرجانات واحتفالات بهؤلاء العلماء ، في مناسبات مختلفـة ، وتدعي لنفسها استحواذ هذا العالم أو ذاك ، وربطه بها ، وسلخه عما سواها من البلدان ، كأنه إذا كان ولد على أرضها ، أو عاش في بلدها ، كان لها دون الناس جميعاً ، وحرم على غيرها ادعاؤه ، والتباهي به .

هذا الزخم الفكري الهائل المنصب على العالم العربي والإسلامي شعوبية ، ولكن من نوع جديد .

وإذا كان العرب في تاريخهم قد عرفوا الشعوبية ولدت في العصر الأموي ، وقويت واستفحلت واشتد ضرامها في العصر العباسي ، فإنـها لأهـون ألف مرة من الشـعوبية الجديدة المعاصرة .

كانت شعوبية القدماء رد فعل على الحكام الذين امتهنوا العنصر الأعجمي ، واحتقروه ، وعاملوه معاملة لا يرضى عنها العدل ، ولا الإسلام ، ولا الخلق الحميد ، فلقد فرق الحـا كمون بين العربي والأعجمي ، والأبيض والأسود ، والقريب والبعيد ، وخالفــوا القرآن الكريم الذي ينص على أن ( أكرمكم عند الله أتقاكم ) وخالفوا السنة النبوية التي تنص على أن المسلمين سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، وكلمة النبي صلى الله عليه وسلم : سلمان منا آل البيت . وما سلمان إلا فارسي ، دخل الإسلام ، وغدا في تعاليم الدين الحنيف واحداً من المسلمين ، يحارب إن حاربوا ،
ويسالم إن سالموا .

لقد خالف الحكام آنذاك هذه التعاليم الرائعة ، وعاملوا غير العرب من المسلمين معاملة تختلف عن معاملة المسلمين من العرب ، وجعلوا الناس طبقات ، وصنفوهم إلى أصناف ، وقسموهم بين عرب وموال ، وظلموا الموالي ظلماً كبيراً ، واضطهدوهم ، واحتقروهم ، وفرضوا عليهم الجزية والزكاة في آن معاً . وكلمة الحجاج بن يوسف الثقفي مشهورة : لو رفع إليَّ عَقد بين مولى وعربية لفسخته .

شعوبية هؤلاء كان مصدرها إثاراتٍ عربية من جهة ، وإثاراتٍ تتصل بالدين الفارسي من جهة ثانية ، وإثاراتٍ تتصل بالسياسة والحكم من جهة ثالثة ، وغير ذلك من العوامل .

ومع هذا فقد لقيت تلك الحركة مقاومة شديدة من المجتمع الإسلامي كله ، وكان المسلمون من غير العرب أكبرَ المقاومين لها ، وأكبرَ خصومها ، ولا أدل على ذلك من موقف ابن قتيبة الدينوري على هذه المقاومة ، وكتاباتِه الكثيرة والعنيفة ، والمحكمةِ في الرد عليها .

سمع الصاحب ابن عباد ـ وهو فارسي ـ مرة أحد الشعراء ينشده قصيدة ، فيها إشادة بالعنصر الفارسي ، وحطٌّ من قدر العرب ،
فلم يعجبه ذلك ، والتفت إلى بديع الزمان الهمذاني ـ وهو فارسي كذلك ـ وقال له : رد عليه . ولم يحتمل أن يجري على لسان شاعر
مثل هذا الهراء ، وأخذته الحمية على العرب والعروبة ،
لأنهم مادة الإسلام ووعاؤه .

إن الإسلام في جوهره لا يعترف بالعروق ، ولا بالحدود ،
ولا بالأقاليم ، ولا بالأجناس ؛ والمسلمون ، أنى كانوا ،
ومهما اختلفت ألوانهم ، وأصولهم ، ولغاتهم ، إخوة ،
لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى .

ويـوم كان الدين منيعاً ، حصيناً ، ويوم كان العرب أقوياء ،
صـار المسلمون جميعاً عرباً ، فكراً ، ولغة ، وكتابة ، وحضارة ،
وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الحضارة العربية الموسومة بسمة الإسلام .

كانت الأرض كلها عربية ، وجاء هؤلاء المسلمون من شتى أقاليمهم ، فزرعوا أفكارهم في الأرض العربية ؛ ولذلك فإن المحصــول الذي نتج ، والزرع الذي نـما ، وترعرع ، واستوى ،كان عربي
الهوية ، عربي الثمار .

لم يكن الفرس جميعاً ، ولا الهنود ، ولا الأمم الأخرى من غير العرب شعوبيين ، وإنما كانت هذه الفئة صغيرة ، قليلة العدد ،
لم يدخل الإسلام في قلبها ، ولم يجر في عروقها ، كما كان
عند الكثرة الكاثرة ، ولهذا فقد سلطت حقدها ، وبذاءتها
على العرب ، ؛ لأنها كانت تشعر بالنقص ، وتحس بالخذلان ؛
ولأنها كانت لا تعرف معنى السمو النفسي ، والكما ل الإنساني
اللذين بثهما الإسلام في قلوب معتنقيه .

ويؤيد هذا القول ما أورده ابن قـتيبة في أحد كتبه ، حيث قا ل :
إن الشريف في قوم صنو الشريف في قوم آخرين ، ولا يبحث عن
المثالب إلا من افتقدها في نفسه ، ولولا تحرجي من أن أبا عبيدة
فسر كتاب الله لنشرت مثالبه الشخصية .

كانت هذه الشعوبية الأولى محدودة بحدود ، وأصحابها معدودين ، ومنكروها من المسلمين غير العرب أكثر عدداً من متقبليها ، وآثارها لا تتخطى الجدال النظري البسيط .

أما شعوبية اليوم فعجيب أمرها ، وبعيد غرضها ،
وإنها لا تهدف إلى ما هدفت إليه شعوبية القدماء ، وإنما
ترمي إلى غاية بعيدة جداً ، وهي سحق كل مجد وفضل
وحضارة ، لا للعرب وحدهم ، وإنما للمسـلمين كذلك ،
بل للآسيويين قاطبة ، والذين يرفعون لواءها :
علماء ، وباحثون ، وفلاسفة ، ومخططون كبار ؛ وهي تنبع
من منابع شتى في آن واحد ، تراها اندفعت من فرنسـا تارة ،
ومن انكلترا تارة أخرى ، ومن إيطاليا أو من هنغاريا ، أو من ألمانيا ،
وقد تصدر أحياناً من بلد عربي