المرأة التي باضت

( أقصوصة صحفية من الأدب الممدري )


طفقت’ أسعى راكبا انفعالي، منقادا إلى فضولي، متربِّعا فوق بساطي أسير فيه متربِّصا بالعلم والمعرفة، حذراً من السطحية والغباوة.

بينما أنا متلبِّس بالجدّية أجاهد في العثور على المرأة التي باضت؛ وجدتني على سطح علميّ شفاف لبحر المعرفة، غطست فيه أسبح بأطراف مدركة غير مرئية حتى مسافة ألفين وستة في عمق البحر، عندها ألفيتني عند بنت طاهرة قد أنجبت من بيضة غير ملقَّحة، حضن رحمها بيضتها ونمت فيه واكتمل خلقها فكان معجزة.

قلت : عجبا كيف يخرج جنين من بيضة غير ملقَّحة ؟

تركتها لابنها وجبت القيعان دون حصيلة. سبحت إلى الشواطئ لأجدها حاضنات البيوض، بها بيوض غير ملقحة لا تنبت جنينا؛ تستحيل طعاما ميتا لكائنات حية، وأخرى لم تتجاوزها نطف ذكور السمك فتنسل وهي مخصبة.

اعتليت البحر إلى اليابسة أبحث عن شبه للطفل المعجزة، حفرت في التربة أبحث عن ساكنيها فإذا بي أقف على كائنات تحمل في جسمها الذكورة والأنوثة، بها مصانع للبيوض، وأخرى للماء المخصِّب، تتبَّعْت طريقة تزاوجها فوقفت متعجِّبا، ليس لأن بيوضها تعطي نسلا من دون تلقيح، لا، فهذا ليس لها رغم وجود جنسين اثنين فيها، بل في تبادل الصفات الوراثية وطريقة ذلك، فماء هذا وهذه ’يمنح لذاك ولتلك وكلاهما ذكر وأنثى، عجبا وأيّ عجب، ’تخصَّب البيوض من الخارج وهي تملك ما تخصِّب به بيوضها؛ ولكنها لا تفعل ، فهل أسألها بمعيتكم : لماذا ؟

تلقِّح بيوض غيرها ويلقِّح بيوضها غيرها حتى لا تنقرض. فالسامريون اليوم بفلسطين كادوا ينقرضون لولا رجل دين ظهر فيهم يبيح لهم التزاوج من غيرهم. يأتي نسل جديد حاملا صفات من غيره وذلك ديدن الكائنات الحية عند اقتعادها على الجادة الصحيحة في منأى عن الاستنساخ .

ارتفعت’ في الفضاء بسرعة الشمس، ثم ’حملت على العودة حملاً إلى الأرض وبأسرع منهما، وأنا أهوي أتأمَّل رقما يباعد بين سرعتهما في حدود ثلاث كيلومترات في الثانية الواحدة؛ ومن الأرض إلى القمر بحروفه وهو نكرة، لم أتوقّف عن مهواي المخالف لمهوى البطوطي إلا على إثر طنين لافت، وقفتني عند حفل زواج فضائيّ ساحر، حشرات كريمات تتراقص منتشية وتطنّ وتطنّ وهْي مبتهجة، تتبَّعتها على الأرض أنتخب من بينها عروسا مميّزة، عروسا ذات منصب وجمال، ملكة شابة تقف على عتبة الإنجاب وتخشى من أيّ صبغيّ معتلّ؛ خرجتْ من خدرها وسط إعجاب طافح، تتقدم في مهرجان آسر، منظر بهيج ومعجبات تكاد ’تجنّ، انطلقت إلى الفضاء متعامدة وانطلق على إثرها كل الذكور، بقي الإناث ينتظرن عودتها وهن متراصات لا شغل لهن إلا الانتشاء بحلم مطلع سلطانتهن، طارت واعتلت وظلت تعلو، وكلما اقترب منها ذكر ازدادت ارتفاعا في الجو، يتساقط الضعاف، تتكسر أجنحتهم وتخور قواهم فيهوون مستسلمين لحتفهم، ويبقى المقدام متمثلا شعر شوقي يغني في سعادة، يستميت لنيل حظوة عند العروس، هلكوا جميعا وثبت الجسور وبقي وحده، وحين علم بانفراده ’سرّ، ولكن الملكة علت تريد منه أن يرتفع أكثر، عندها استسلم لليأس مبقيا على قوى نحيفة لرحلة العودة، أو للإخصاب، فتنبهت له، ثم هوت إليه تحتضنه، حملته فوق ظهرها لأخذ قسط من الراحة، ثم تزوجته؛ والكون من حولهما يغني لأم كلثوم :

وما استعصى على قوم منال ـــــــــــــــ إذا الإقدام كان لهم ركابا
رجعت إلى خليتها والزغاريد تعلو مقدمها، والأعناق مشرئبة ترقب مطلعها؛ وهي حامل، وهن فرحات مبتهجات، تتبعتها لأجدها بعد نضج حملها تضع بيوضا في حدود مائتين وخمسين ألفا، تضعها عاهلة مملكة، وملكة خلية وهي ملقحة وغير ملقحة، ظننت أن ما لم يلقح؛ وهو قليل سيستحيل طعاما لها، أو لغيرها، تأتي الشغالات بستة عشر زوجا من الكر وموسومات من البيوض الملقحة، ولا يأتي منها ذكر واحد ذو الستة عشر فردا، فقلت : عجبا، قبل مديدة كانت الذكور تتسابق لتلقيح الملكة فانتخب منها واحد، تلقح الملكة في الفضاء فينحسر نسلها في الإناث، ولكن أين الذكور ؟ ثم انفقس عن بيوض غير ملقحة؛ حشرات كلها ذكور، فقلت : ليس العجب في صفة الذكورة من البيض، ولكن العجب في تفقيسه من بيوض غير ملقحة، وتذكرت أخت هارون .

انشغلت قليلا عن المرأة التي باضت فاستأنفت سيري أبحث عنها . وليت وجهي شطر المشرق لعلمي بنية دجاجة سوداء على المبيض فيه، علمت بحملها جنينا لا يتنفس من مسام بيضتها، تصر على حياته رغم عدم دخول غاز الحياة إلى بيضته، جنينا يكبر في أحشائها بصبغي معتل لن يسعه مخرجها عند الوضع، وطئت قدماها مطايا كتلك التي كان يستعملها الملك عبد الحفيظ لاعتلاء عربة أو حصان في شمس المغرب، لقيت دايات غليظة، كل داية منها مدموغة وراثيا تحتفي بالحامل ..

اختارت للوضع مصر والسعودية والأردن، ولكن ما استقر عليه قرارها كان لبنان، تنوي جعله بوابة لجنين سمته : شرق أوسط جديد، هيئت له كل مظاهر الحفاوة وقدمت البشرى، صنعت له أجواء كما لو كان ملكا تنتظر طلعته جماهير غفيرة، وحين وصلت لبنان أبت رجلاها أن تخطوان إلا يمنة ويسرة، وفي إصرارهما على ذلك صنعتا فلجا كبيرا في الأسفل موصولا بالأعلى، تباعدتا حتى ما عادت تقوى الحامل على المسير؛ ففتحت رجلاها تظن أن أوان الوضع قد حان ، تنتظره على أحر من جوف المعدة ، ولكنها ظلت تبيض معتصرة حتى ’طوي الأجل وطال عليها الأمد، فظلت بيضتها عالقة في مبيضها لم تنزل ، وأضحت هي في مكانها تنوء بجنينها وهو ممسوخ لا حياة فيه، فقلت : هاهي ذي المرأة التي قالوا عنها أنها قد باضت، ولكنها لم تبض، فقلت أخيرا : الله سلّم إذ لم تبض .






محمد محمد البقاش

طنجة في :

16 أكتوبر 2006