"أبجد هوز "

"هاء" وفاء



كم هي قاسية هذه الحياة، و كم هي أقسى لحظات الوحدة، نعم، أن يعيش الإنسان وحيداً معناه أن يلفظ من طرف الآخر، أن يهمش، أن يُقبر. لكن لِم تُحس هي بالوحدة؟ و هي المحاطة بخمسة أبناء تركهم لها المرحوم بعد انتقاله إلى العالم الآخر. و ترك لها إلى جانب ذلك منزلاً، يعفيهم من دفع الإيجار، و رصيداً محترماً يُُغنيها عن البحث عن مورد عيش. و ها هم الأبناء بدأوا يشقون طريقهم ساعين إلى تحقيق الهدف الذي رسمه لهم الأب في حياته. سعياً جاداً، إخلاصاً لوصية المرحوم.

و هي، ما الذي ينقصها من نعيم الدنيا، بعد أن أمنت مستقبل ابنتها بزفها إلى زوجها الميسور، رغم الفارق، الكبير، بل المهول بينهما في السن، أملها أن تمتد يد الموت إليه قريباً،فتتحول الثروة التي يملكها، و هو المقطوع من شجرة، لا قريب له و لا أهل، إلى ابنتها، و بالتالي لها،و ابنها الأكبر قد ينهي دراسته هذه السنة و يساعدها على حمل التركة المتبقية، حتى يصل بإخوته إلى شاطئ النجاة.

تحمد الله و تشكره، و تتذكر أن اليوم يوم الخميس، اعتادت في مثل هذا اليوم، بعد صلاة العصر، زيارة قبر المرحوم، اغتسلت و ارتدت قشيب ثيابها، تلك التي كان يحب المرحوم أن يراها مرتدية إياها، لأنها تزيدها جمالاً و تظهر مفاتنها و أنوثتها.. عطرت جسدها بعطرها المفضل، و وقفت أمام المرآة تُعدل قوامها، همهمت بكلام غير مفهوم، نادت ابنها الأوسط، ناولته عشرة دراهم، و أوصته أن لا يتأخر عند العودة من "سينما" الحي. أخذت الطفل الصغير، لتودعه عند جارتها، حتى حين عودتها من زيارة قبر المرحوم.

اقتربت من قبر المرحوم، قبلته، و قرأت السلام، أزاحت الحشائش العالقة بالقبر، و أزاحت بقية غصن الريحان، وضعت مكانه، وضعت مكانه آخر جديداً، رشت القبر بالماء الذي حمله طفل من الأطفال الذين يتخذون بيع الماء في المقابر مهنة مربحة.طلبت من الرجلين اللذين أقبلا مسرعين عندما رآها جالسه إلى القبر، أن يقرآ ما تيسر من القرآن، لأنه يخفف عن الميت. ناولتهما ما تيسر، قرآ، و انصرفا….اقتربت أكثر من القبر و بدأت تناجي نزيله، تبثه لوعة الفراق، ونار الشوق التي سببها الفراق. سهت لحظات عن هذا العالم القاسي.. رنت إلى معصمها، رأت عقارب ساعتها تعلن أن الساعة الخامسة إلا عشر دقائق، نهضت، رسمت قبلة على قبر زوجها، و بدأت تسرع في خطاها، حتى لا تتأخر عن ميعاد اللقاء بعشيقها…..



أبو كمال التطواني

تطوان/ المغرب