قارئ الجماجم
جلس قرب النهر ، المكان خال إلا من بعض العصافير المشاغبة، لم تتابع إيقاع موسيقى العصافير الأخرى ، ربما أنها مازالت فتية ، ونقيق بعض الضفادع المتمردة، شيخ هرم في آخر أيام حياته ، وضع كلتا رجليه في الماء ، العصا التي يتوكأ عليها في يده اليمنى ، يضرب بها بعض الأحجار كأنه طفل صغير ، يدخلها في الماء حتى تنعم هي كذلك ، ولو لبعض الوقت بماء النهر البارد، مرر على لحيته شيئا من الماء كأنه يتوضأ، تذكر مجموعة من الأحداث، مرت في هذا النهر: معارك ، مناوشات،قتلى، جرحى ، غرقى ، منتحرون ، قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، نهض بسرعة ، ثم هم بالرجوع إلى بيته ، لم نقل أن الشيخ يسكن وحده في بيت قرب المقبرة ، قضى جل حياته في الجندية. زار مجموعة من البلدان ، تزوج ، لكنه لم ينجب أولادا ، ماتت زوجته ، قرر الاستقرار هنا في أرض أجداده ، بنى بيتا قرب المقبرة ، في أرض تركها أبوه، لماذا استقر بالضبط قرب المقبرة ،لا أدري ،هل دنا أجله ، لكن الشيء الغريب هو أن هذا الشيخ غالبا ما يتشاجرمع بعض الأطفال في النهر ، كانوا يسخرون منه ، كانوا
يستفزونه،كان يسب ويلعن لكن كلمة الجماجم تنفلت من فمه دائما .
لم تدم عزلة الشيخ طويلا ، فمع مرور السنين يحتاج الإنسان إلى من يعتني به،كانت العزلة شيئا عاديا بالنسبة إليه، كان الناس يشفقون لحاله هكذا ، لكن القدر سيلاقيه بشيخ آخر ، أجنبي مقيم بالمغرب، يلبس أثوابا بالية، ارتاح له صاحبنا ، عندما رآه لأول وهلة، حسبه أحد الضباط الألمان ، كان قد أسره الجنود المغاربة المشاركون في الحرب العالمية الثانية ،لقد مر زمن طويل على هذه الحرب، يشبه إلى حد ما، كان الأجنبي يشتغل في هذا المكان صباح مساء. مستعملا آلات هندسية، صار الشيخ يسعى دائما وراء الأجنبي ، يبادره بالأسئلة ، رغم أنه لا يبديه اهتماما،فهو ليس كالمغاربة ،كتوم،لا يتكلم كثيرا، تطورت علاقة الشيخين الصديقين ، حتى أصبح صاحبنا شبه عون للشيخ الألماني ،يحمل آلاته ، يساعده في جلب الماء من الوادي ، يحكيان سابق الأيام وتجارب السنون لبعضهما البعض ، لكن مجالا ضيقا من عدم الثقة بقي وارد بينهما ، فهما ليسا في سن المراهقة ، لم يستطع أحدهما معرفة السبب الحقيقي لاستقرار الآخر في هذا الوادي قرب المقبرة،وبحكم طبيعة المغاربة المعروفين بكرمهم ، فقد كان شيخنا يطلب من الالماني زيارة منزله المتواضع ، لكن الألماني كان يتملص من استجابة طلبه مستعملا بعض الأعذار ، كالعياء ، والكتابة في الليل ، كانا يتفاهمان بالفرنسية ، لم يبح شيخنا بسره ، لم يخبر صاحبه أنه قارئ جماجم .فهو يستطيع أن يسرد حياة شخص من خلال تأمله لجمجمته،يمرر يديه عليها ثم يدقق فيها النظر كأنه يقرأ الكف،ويميزبين جمجمة المرأة والرجل،وإن كانت تعود لقرون خلت. تمنى الذهاب إلى البوسنة حيث توجد المقابر الجماعية لكنه لم يستطع، فهذه الرحلة تكلفه كثيرا ،كما أنه يعرف عدة أماكن في العالم حيث يوجد هذا النوع من المقابر،عرف ذلك من خلال تتبعه لأخبار الحروب،ومن خلال خبرته كجندي متقاعد،ومع توالي الأيام أصبح الالماني أكثر اهتماما بشيخنا ، لقد استولى على ذهنه ، اجتاحه بمعرفته الواسعة لمناطق متعددة في العالم ، بدءا بأوروبا انتهاء بآسيا وأدغال أفريقيا،وأفكاره النادرة، في بعض الإحيان ، عندما يطيل شيخنا الحديث يبقى صاحبه محملقا للعجائب التي يحكيها له.
أصبح الألماني يفكر في زيارة بيت شيخنا ، لقد أنهيا العمل مبكرا هذا اليوم ، التقط الألماني مجموعة من الصور ، و رسم مجموعة من الخطوطات لم يفهم منها صاحبنا شيئا ، كان شيخنا يظن نفسه نحاتا، لقد وضع جماجم على عصي ،خصص غرفة لذلك، جعلها واقفة ، صبغها بألوان مختلفة ، لكن المظهر الخلفي للجماجم كان يعجبه كثيرا، من جهة القفا ، يتأملها، كرسام معجب بلوحاته،يظن نفسه مبدعا عالميا،أو فريدا من نوعه في هذا العالم، لقد قسم الجماجم الموضوعة على العصي إلى أصناف، فهذه للألمان وهذه للكونغو وهذه للمغاربة،اندهش الشيخ الألماني عندما دخل بيت قارئ الجماجم،لقد أجزم أنه لا محالة هالك ، قال في نفسه : ماذايفعل هذا الوغد ؟ إنه سيقتلني وسيضع جمجمتي على عصا كما فعل بسابقي، إنه ينتظر ضحاياه في هذا الوادي قرب هذه المقبرة ، يتقرب منهم ليذهب بهم فيقرر مصيرهم .حاول شيخنا طمأنته:لا تخف إنها مصنوعة من الجبس، إنها تذكرني بالأيام الخوالي، وسأحكي لك أخبار كل صنف منها، صار يقول : تعال معي هدئ روعك ، هذه جماجم الألمان ، جماجم الانضباط ،الصرامة، العمل المتواصل،العمل في صمت،الفلسفة، إنهم صنعوا التاريخ، وشاركوا فيه بحظ وافر ، حققوا الانتصارات ، وهزموا شر هزيمة، هذه جماجم بعض شبانهم المقتولين في الحرب الكونية ،لقد صمد أصحاب هذه الجماجم ،كنت معجبا بهم رغم أني قتلت العديد منهم،أما هذه التي في الوسط فهي جماجم بعض المغاربة اللذين كانوا مكبلين بالسلاسل، جماجم مقاومين أثناء الثورة ضد فرنسا،كانت رقابهم منحنية،وتظهر عروق أعناقهم ، كانت جماجمهم من الخلف ناتئة، ينتظرون التعذيب أو عقوبة الإعدام ، منهكين تركوا زوجاتهم وأبناءهم، رؤوسهم حليقة،لا أثر للشعرعليها ، هذا ما كان يفعله المغاربة في عهد الاستعمار، أظن أنهم كانوا مكلفين بقتل الخونة،أما هذه ...فهي لشعب قرب نهر الكونغو، وكم عانى هؤلاء ،حروب الإبادة والمجاعات المتوالية، وكم عانى أطفالهم ، وكم عانت نساؤهم، وماذا فعل بهم المستعمر، وكم فتك بمقاوميهم ،اصطبرعليه العجوز الألماني حتى أكمل ، فالجماجم لا هي من جبس ولا من خشب ، ولا هي لمغاربة ولا لألمان، فقط هي منتشلة من المقبرة ،فشيخنا كان مهووسا بالجماجم،كان ينبش القبور ويأخذ ما شاء من الجماجم ويفعل بها ما يشاء،لم يدرك شيخنا أن الألماني باحث أركيولوجي ،لقد فهم اللعبة ،ذهب في التو،ليبلغ الأمر إلى الشرطة ، ليكمل قارئ الجماجم آخر أيامه في السجن يقرأ جماجم السجناء، لكن السجناء أحياء ليسوا موتى .
