إحياء.ليلة القدر في الكعبة


بقلم
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية




هل رأيت العروس في ليلة زفافها ؟
هل وقفت على الجمال بأسمى معانيه ؟
هل تذوقت الماء العذب الفرات بعد طول صدى ؟
هل قابلت حبيباً غالياً بعد طول بعاد ؟
إذا كنت قد رأيت ذلك ، أو عشته ، فصدقني أنه قليل وصغير حين
يكتب لك الله زيارة الكعبة في رمضان ، وفي ليلة السابع والعشرين منه بوجه خاص .
لو كنت من السـعداء المحظوظين ، وقسم الله لك أن تعتمر عمرة رمضانية ـ وتلك تعدل حَجة مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ـ لنسيت روعة العروس ليلة زفافها ، والفرحة العارمة بعد حزن طويل .
أنـا ما تخيلت في الدنيا أحلى من الكعبة حين بدت أمام عيني بذاتها ، بجلالها ، بروعتها ، بحقيقتها ، يوم أقبلت إلى مكة المكرمة في ليلة السابع والعشرين من رمضان .
صدقني ، ياصاحبي ! أني كنت كالمذهول ، أريد أن أهجم عليها
معانقاً ، ولكن الروعة أخذتني ، فما عدت أسـتطيع دنواً ، ولا حراكاً .
كم حاولت أن أتقدم ، أن أقترب ، لكنني شعرت بقدميّ مسمرتين ، لا تستطيعان حملي ، ولا السير بـي إليها .
لم أدر ماذا حل بـي يومذاك ، لقد كنت منذ لحظات طائراً كالفراش بجناحين ، أقطع المسافات الشاسعة ، دون أن أشعر بالزمن يسبقني ، أو يسرقني .
كنت كالعاشق الذي طال بعاده عن حبيبه ، ثم لاح له طيفه ، فاندفع
إليه فاتحاً ذراعيه ، وصدره ، وقلبه ، وكل خلية فيه .
ولكن ! ما بال قدميّ لا تحملاني ، وما بالي كالكسيح لا أقوى على مسير ! وما بال عينيَّ تفيضان بالدمع السخين ! وما بال قلبي يخفق
حتى لتسمع ضرباته من بعيد !
الله أكبر . الله أكبر . لبيك اللهم لبيك . .نداءات تنداح من دائرة الكعبة ، لتلفني معها ، وتحملني عبر الآفاق .. إلى السماوات .
جموع هائلة ، لا أنا ، ولا سواي يستطيع أن يحصيها عداً .. ألوان .. ولغات .. وأشكال .. ورجال .. ونساء .. وعوالم لا تنتهي ، تطوف
وتطوف .. وتجأر بصوتها إلى السماء .. لبيك اللهم .. لبيك .
الرفاق يحملونني من إبطيّ ، ويسيرون بي نحو حبيبتي .. لا هم يكلمونني ، ولا أنا قادر على كلام .. دموعي تسيل ، بل تنـزف .. أخطائي .. ذنوبي توثقني .. ماضيَّ .. حاضري.. مستقبلي .. دنياي .. آخرتي .. كلهم ..كلهم .. حولي .. ينظرون إليَّ ، ويحدقون بي .
والحبيبة الجليلة جاثمة بروعتها تنظر إليَّ ، تدعوني ، تغريني بعناقها ، بالذوبان فيها ..
وبلهفة المشتاق ، وحنين الصديان إلى العذب الفرات ، وبذلة الخانع ، وبإيمان المؤمن زحفت إليها .
سامحني ، ياصاحبي ! إن لم أقل لك : كيف دنوت ، واكتف مني
بالقول :
إني حبوت وزحفت .
أجل ! حبـوت إلى الحجر الأسود لأستلمه ، ورأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعين خيالي يقبله مرة ، وصحابته يقبلونه بعده ، ومعه .. وملايين الناس مرت قبلي .. كلهم قبلوه .. كثير منهم اليوم تحت التراب .
نعم ! قبلته ، ثم خطوت خطوة نحو الملتزم ، وألصقت رأسي ، وصدري ، وجسدي كله بالحجر ، ورفعت يديَّ إلى أعلى ، كما يفعل المذنب الكبير ، وقد استعد لكل عقوبة وقصاص .
ما عدت أذكر ماذا قلت ، وماذا دعوت ، وبـماذا هتفت .. وكل ما بقي في خاطري أني أحسست ببرودة تسري في كل ذرة من كياني ، وبروح جديدة تتمشى في عروقي .. وسمعت هاتفاً يهتف : قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر
الذنوب جميعا . إنه هو الغفور الرحيم  . وكان عليَّ أن أطوف حولها سبعة أشواط ، طواف القدوم والتحية .
سامحني ، ياصاحبي ! مرة ثانية ، إذا أخبرتك أني شعرت بنفسي
كأنني لا أمشي على الأرض ، وإنما كنت أطير ، وأغني ، وأهتف :
يارب العالمين ! ياغياث المستغيثين ! يا الله ! ارحمني ، وارحم عبادك المذنبين . لا تكلنا يا الله إلى أنفسنا ، ولا تحاسبنا على ما قدمنا .. ولا تعاملنا بما نستحق .
لقد ابتعدنا عنك يارب ! واتخذنا ألف معبود ومعبود . عبدنا المال ،
وغرتنا الشهوات ، وأغوتنا اللذات ، واعتقدنا بسواك يضرنا وينفعنا ،
وينصرنا ويخذلنا .. تكالبنا على الدنيا ، فذللنا ، وتهالكنا على أعتاب
أعدائك فسحقنا .. وحق علينا العذاب .
***
واقترب موعد المغرب ، فإذا الناس يتراجعون ، وإذا الطواف يخف ، ثم يتوقفون جميعاً .
وتنظر في ساحة الكعبة فترى الزمزميات قد صفت في دوائر حولها ، عشرات الآلاف من هذه الآنية المملوءة بماء زمزم ، وإلى جانب كل
منها كمية من تمر ، جعلت في صرة من ورق .
وقعد الناس حلقات ، وأمامهم الماء والتمر ، ينظرون إلى الكعبة .. هذا يدعو ، وذاك يستغفر ، وآخر يقرأ القرآن .
وفجأة تسمع صوت المؤذنين من كل أرجائها ينادون بصوت واحد : الله أكبر .
الله أكبر تملأ مكة ، وتصل إلى جبالها ، ووديانها ، وتتجاوز إلى آفاق
الدنيا .
الكبير هو الله وحده . .. لا كبير سواه ، لا إله سواه .. الله أكبر ..
هذا النداء الذي لا يتوقف لحظة من ليل أو نهار في كل أرجاء الدنيا .
* * *
اللهم إني لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر ، إن شاء الله .
وتمتد الأيدي إلى التمرات ، فترفعها إلى الفم الصائم الطائع ، ثم تلحقها بجرعة من ماء زمزم .. وما هي إلا دقائق تكاد تبلغ العشر أو الخمس عشرة ، حتى يتقدم الزمازمة يلمون هذه الآنية ، ويجمعون الأوراق التي وضعت فيها النوى .. لتقام الصلاة .. صلاة المغرب .
حلقات وراء حلقات من المصلين . يصل عددها إلى المئات .. كل حلقة أكبر من أختها ، حتى تشمل الساحة الخارجية للكعبة .. وتنداح الدائرة حتى تشمل العالم كله .. وتنتهي صلاة المغرب . ليعود الطواف من جديد .
هنا يطوف الطائفون ، وهناك على بعد أمتار يسعى الساعون بين الصفا والمروة .. جيئة وذهاباً .
ينطلقون من الصفا في خط مستقيم عريض إلى المروة ، حتى إذا ما وصلوا إلى العمودين الأخضـرين هرولوا ، ودعوا : رب اغفر وارحم ، واعف وتكرم ، وتجاوز عما تعلم ، إنك تعلم ما لا نعلم ، إنك أنت الله الأعز الأكرم .
سبعة أشواط بين الصفا والمروة ، جيئة وذهاباً ، غدواً ورواحاً ، وينتهي السعي بالمروة ، ليعود الطواف من جديد ، حول الكعبة الحبيبة .
* * *
ويؤذن مؤذن العشاء .. وبعد العشاء يبدأ العرس الكبير والفرحة الكبرى .
إنها ـ في الأثر ـ ليلة القدر . وليلة القدر خير من ألف شهر ، تَـنَــزَّل الروح والملائكة فيها بإذن ربهم من كل أمر ، سلام هي حتى مطلع الفجر .
* * *
لو تطلعت إلى ما يكون في الكعبة آنذاك لرأيت أربعة أنواع من الناس ، فريقاً يطوف ويطوف ، فلا يكاد يستريح حتى يعاود الطواف . وفريقاً بدأ بصلاة ذات ركعات معدودات ، لا ينتهـي منها حتى يؤذن مؤذن الفجر ، وفريقاً أخذ بقراءة القرآن الكريم ، كأنه يريد أن يتلوه جميعاً ، وفريقاً رابعاً قعد جانباً وعيونه مشدودة إلى السماء مرة ، ينظر إلـى الكعبة تارة ، وإلى هذه الجموع الغفيرة تارة أخرى ، يقـرأ ، ويستغفر ، يدعو ، ويتضرع ، أو يبكي ..
* * *
وتمر الساعات سريعة ، لا تعرف كيف انقضت ، وتنسى أن في الدنيا شيئاً اسمه النعاس أو النوم .. ولكن هل ينام المحب إذا كان مع حبيب ؟ هل ينام المذنب إذا كان موعوداً بغفران ؟ هل ينام المحروم إذا كان موعوداً بعطاء ؟ هل ينام العبد إذا كـان بحضرة سيده ؟ هل ينام مشتاق إذا كان على باب من يهوى ؟
ليس للنوم مكان في خارطة هذه الساحة وأصحابها . إن النوم لغير هؤلاء المحبين .
* * *
ويتساءل الناس عن ليلة القدر ، هل ظهرت أو لم تظهر ؟ ويتساءل آخرون عن أماراتها . وتنتظر جماعة أن تنشق السماء عن نور غريب يبصرونه بأعينهم ، ليتأكدوا أن هذه هي ليلة القدر ..
وتسمع هذه الأسئلة من هنا وهناك ، وتعود إلى نفسك لتقول : ليلة القدر هي الليلة التي أكون فيها مع ربي ، هي الساعة التي يصفو فيها حبي لحبيبي ، ولحبيبي وحده ، دون الناس جميعاً .
وصادق الحب يعيش ليلة القدر في كل لحظة ، يحسها بقلبه ، ويراها بعينيه ، وتنعكس في سلوكه وعلى لسانه ، وملامح وجهه .. سواء أكان في الكعبة أم في أي بقعة في الدنيا .
واللبيب اللبيب هو الذي يراها تنبع من فؤاده ، ويسأل عنها في ضميره ، قبل أن يتلمسها من على الجدران ، أو في آفاق الفضاء .
* * *

وأسأل نفسي السؤال الصغير : ألم تشهدي ليلة القدر ، وماذا تقولين حين كتب لك الوصال ، وسمح لك بالنجوى ، وأتيح لك الوقوف على الأعتاب ؟؟
بل هل تتمنين ، يانفس ، أكثر من هذا إذا رضي عنك الحبيب ، وقربك ، واستجاب ؟




بكري شيخ أمين