صنميات قرن الخداع الشامل : ما هي صلة ايران واسرائيل وامريكا

بعد بروتوكولات حكماء صهيون : هل توجد بروتوكولات حكماء الفرس؟ (4)

شبكة البصرة
صلاح المختار

التطرف الديني : من يشجعه؟ ومن يخدم؟

عندما نصل هذا الحد من النقاش فاننا ندخل في صميم الموضوع الخطير الذي غير وجه العالم منذ وقوع غزو السوفييت لافغانستان والتدخل الامريكي لاستغلال ذلك لانهاك وربما انهاء الاتحاد السوفيتي. وقبل ان نلج الموضوع لابد من ايضاح دقيق، لكي لا يستغل ما سيقال بعض المتسكعين في طرقات الثقافة لنهب فرص المشاكسة وركوب الموجة وحب الظهور على مسرح الحدث بزاد فقير وبائس من التثقف. ان الذي سأناقشه هو كيفية استغلال الدين وليس الدين بحد ذاته، كما انني ساتناول التطرف الديني وليس الدين، فمن حق كل مسلم ان يعرف كيف يستخدم الدين بشكل عام، والاسلام بشكل خاص من قبل العدو، وهو الصهيوينة العالمية والغرب الاستعماري، ومن يرقصه العدو على مسرح الحدث الكبير في اغراض تخدم غزواته الاستعمارية وايديولوجياته الصليبية وليس الاسلام كالصفوية الجديدة في ايران وخارجها.

في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات طرح زبغنيو بريجنسكي، قبل ان يصبح مستشارا للامن القومي الامريكي في عهد كارتر، فكرة خطيرة بلورها في كتابه التنبؤي المهم الموسوم ب(بين عصرين : العصر التكنوتروني)، وهي ان الايديولوجيا البرجوازية قد هزمت على يد الايديولوجيا الماركسية، وذلك لان الايديولوجية البورجوازية فقدت جاذبيتها بينما الماركسية ازدادت تألقا وشعبية، واصبحت تتغلغل في الاوساط الشبابية الغربية وتنتج يسارا متطرفا ويسارا جديدا داخل امريكا واوربا الغربية، أضافة لوجود (خطر) المعسكر الاشتراكي والصين. فما العمل لالحاق الهزيمة بالماركسية والشيوعية؟

الجواب كان هو ان تشجع أميركا الاصولية الدينية في العالم لانها ذات جاذبية قوية، تستولي على الكثير من الناس وتفقدهم القدرة على النقاش العقلاني للمسائل الدينية نتيجة الطابع القدسي والتابوي (من كلمة (Tabooلها، ووجود قدر لا محدود من الردع الديني لمن يشكك في منطلقات الدين، خصوصا في الشرق الاسلامي، اضافة للحماس الذي يصبح احيانا متطرفا في بعض الوسط المتدين والذي يغلق امكانية الحوار الموضوعي. وحينما وصل كارتر للادارة عين بريجنسكي مستشارا للامن القومي، فاتيحت له فرصة تطبيق نظرية دعم وتشجيع الاصوليات الدينية في العالم كاداة لمحاصرة الشيوعية وحركات التحرر الوطني ذات الميول اليسارية والقومية التقدمية، فماذا حدث؟

شهدت السبعينيات ذروة الاهتمام الامريكي (المخابراتي والاكاديمي) بالدين وغمرت المكتبات الامريكية عشرات الكتب خصوصا عن الاسلام كتبها اما خبراء امريكيين او طلبة الدكتوراه المسلمين الدارسين في الولايات المتحدة الامريكية بناء على توجيه الاساتذة المشرفين. كما ان مراكز البحوث وما يسمى (Think tanks )، أي أهل الخبرة والمختصين، قد عقدوا سلسلة متعاقبة من الندوات والحلقات الدراسية حول الدين. وكان الجو السائد وقتها في الغرب هو الفكر العلماني بشكل عام والإلحادي بشكل خاص في اوساط النخب المثقفة، لذلك كان ملفتا للنظر هذا الاهتمام الامريكي بالدين ودراسته بتعمق وصل حد دراسة طوائف صغيرة جدا ولا يعرفها اغلب ابناء البلد الذي توجد فيه، مثل اليزيدية في العراق ! من هنا لم يكن غريبا ان تشهد فترة النصف الثاني من ذلك العقد وما بعدها لجوء امريكا الى دعم الكنيسة والعمل على زيادة نفوذها واستخدام البابا السابق البولوني الاصل لاجل البدء بحملات ضد الشيوعية في بولونيا مسقط راسه من خلال دعم نقابات العمال (نقابة التضامن)، التي كانت قد بدأت تعمل ضد النظام الشيوعي في بلدها. كما لم يكن غريبا ايصال شخص نصف امي الى الرئاسة تستولي عليه افكار ميتافيزيقية حول الارميجادون (الحرب الاخيرة والفاصلة بين الخير والشر طبقا للكتاب المقدس لليهود والمسيحيين)، وهو رونالد ريجن الممثل السابق المدمن على التلقين في الكلام لانه غبي وساذج !

ونتيجة لذلك وجدنا ان بولونيا اخذت، في الثمانينيات، تتزعزع امنيا وسياسيا، بسبب تصاعد المشاعر الدينية المسيحية ليس في ذلك البلد فحسب بل انتقلت العدوى الى الكثير من اقطار اوربا الشرقية. وهكذا شهد العالم بدأ تفكك الشيوعية الاوربية الشرقية وتراجعها امام موجة التدين، والتطرف الديني المسيحي ! هل هذا كل شيء؟ طبعا لا، فالأخطر هو ان التطرف الديني لم يتفجر في العالم المسيحي فقط بل شجع على التغلب على التيارات العلمانية في اسرائيل، فسقط حزب العمل الاسرائيلي ووصل حزب الليكود بزعامة مناحيم بيجن الى السلطة لاول مرة منذ انشاء اسرائيل في نفس تلك الفترة ! وفي الهند شجعت النزعة المتطرفة هناك فاخذت تتقدم في الانتخابات الى ان وصل الحزب القومي الهندوسي (BJP) الى السلطة في النصف الثاني من الثمانينيات، وتراجع حزب المؤتمر العلماني الذي حكم الهند منذ الاستقلال.

وفي العالم الاسلامي اخذ الغرب يعزز علاقاته القديمة بتيارات دينية اسلاموية، واختار ساحة افغانستان لاحداث انقلاب في العالم الاسلامي لصالح احزاب اسلاموية، أخذت تمارس العمل المسلح ضد الاتحاد السوفيتي تحت (راية الجهاد)، فبرز تعبير(المجاهدين الافغان). وفي اوربا الغربية تراجع الاشتراكيون وصعد اليمين المتطرف، والتيارات الاصولية المسيحية، فشهدت اوربا الغربية تراجعا نسبيا في (عصر النور والتنوير) نتيجة الخوف من معارضة التيارات الدينية القوية وذات النداء اللاهوتي غير القابل للنقاش او الاعتراض بقوة، مع ان اوربا كانت تفتخر بعلمانيتها بعد ان عزلت الكنيسة عن الدولة. اما في امريكا نفسها فان اليمين المسيحي صعد واخذ يهاجم بقوة الليبرالية الامريكية، وامتد الهجوم الى الجامعات والمدارس الثانوية التي كانت تدرس (نظرية دارون) في الخلق، والتي تقول بان المخلوقات بما فيها الانسان قد تطورت عن مخلوق ذو خلية واحدة وان الانسان انحدر من مخلوق يشبه القرد، وليس القرد كما شاع خطئا، فوجد فيها التيار المسيحي المتطرف نقضا لما ورد في الكتاب المقدس، الذي يقول بان الله قد خلق ادم وحواء ومنهما انحدر كل البشر وليس من شبيه القرد!

ومن الضروري ان نشير هنا الى ان المحافظين الجدد الذين سيطروا على ادارة بوش الابن في دورته الرئاسية الاولى وخططوا لغزو العراق قد وصلوا للسلطة في تلك الفترة اثناء ادارة رونالد ريجن الذي خلف كارتر في بداية الثمانينيات، ومنذ ذلك الوقت كان نفوذهم يزداد. ومما لاشك فيه الان وبعد تجارب حية ومأساوية لاكثر من ربع قرن ان النخب الانكلوسكسونية المسيطرة على امريكا هي التي قررت انتخاب رؤوساء نصف اميين او اغبياء او ضعفاء ومنع وصول أي ذكي ومستقل في رايه الى الرئاسة بعد اغتيال جون كنيدي، من اجل تسهيل هيمنة الفكر الخرافي الذي يخدر الناس ويحميهم من الافكار التقدمية واليسارية في بلد تسوده الانانية والنزعة الفردية المتطرفة، والذي يجسده الان خير تجسيد جورج بوش الذي يدعي ان الله يكلمه بين فترة واخرى وانه امره بغزو العراق !!! وهذا الحكم ليس منا بل نتاج دراسة امريكية علمية أجراها أخصائيون في علم النفس من جامعة كاليفورنيا بينت (أن رئيس الولايات المتحدة الحالي، جورج بوش، هو الأغبى من بين رؤساء الولايات المتحدة منذ بداية القرن الماضي)! وقال الأخصائي في علم النفس دين كيت سيمونطون، الذي أجرى
الدراسة، (أن "ذكاء" بوش لا يعادل ذكاء رؤساء الولايات المتحدة الآخرين خلال 110 سنوات الأخيرة، ما عدا الرئيس وورن هردينغ، الذي أمضى وقتاً قصيراً في البيت الأبيض في العشرينيات من القرن الماضي، واعتبر رئيساً فاشلاً ).

وقال سيمونطون (أن متوسط ذكاء بوش لا يزيد عن متوسط ذكاء طالب في مدرسة ثانوية في الولايات المتحدة)!(شبكة الرافدين الاخبارية 14 -9 – 2006). ان السؤال البالغ المنطقية في ضوء هذه الدراسة هو التالي : لم يتعمد انتخاب رؤساء اغبياء مثل بوش لرئاسة اقوى واغنى دولة في العالم؟



ان استغلال الدين من قبل امريكا موضوع خطير جدا ونرى ثمراته الان في العراق لان الاسلام السياسي استغل من قبل امريكا لتدمير القطر من خلال تناطح تيارات طائفية استخدمها الاحتلال الامريكي لانجاز مهمة تدمير العراق وتقسيمه، فوجد في التنظيمات الطائفية خير سند واداة،وفي مقدمتها تنظيمات صفوية كالمجلس الاعلى، الذي انشأته ايران ودربته وسلحته وقادته وتقوده عناصر ايرانية الاصل، وتنظيمات سنية طائفية مثل الحزب الاسلامي العراقي. والسؤال الذي يجب ان نتعامل معه بمنتهى الجدية والدقة هو التالي : لم شجعت امريكا التطرف الديني في كل الاديان؟ ان الجواب يتطلب دراسة مفهوم صراع الحضارات والذي يعتمد اساسا على فكرة وجود تناقضات وصراعات بين الثقافات والاديان في العالم وعلاقة ذلك بالدور الايراني والتلاقي الايراني مع امريكا واسرائيل ضد الامة العربية بكافة اقطارها.

وربما يبدو هذا الامر غريبا على دولة مثل امريكا تشن حربا على التطرف الديني كما تقول، لكنها في الواقع العياني الملموس تشجع التيارات الدينية السياسية المتطرفة. ان صراع الحضارات هو الديناميكية الاصطناعية البديلة عن الديناميكية الشائخة للرأسمالية العالمية، والتي لم تعد قادرة على مواجهة تحديات المناهضين للهيمنة الغربية وتعاظم جاذبية ندائهم التحرري، وهزيمة الايديولوجية البورجوازية امام قوى التحرر وايديولوجياتها المتعددة من قومية الى اشتراكية. من هنا فان التطرف الديني في مختلف الاديان والذي يؤدي الى التصارع بينها يؤمن اعتياش الرأسمالية الشائخة عليه وعلى ما يلحقه التطرف الديني من أضعاف او عزل تام او نسبي بقوى التحرر، مما يؤدي الى سيطرة الراسمالية على موارد العالم الثالث، بعد تفكيكه بالصراعات الثانوية المفتعلة خصوصا صراع الحضارات.

ان من أيقظ التطرف الديني وغذاه في العالم ليس اصحاب الديانات الرئيسية بل اجهزة الاستخبارات الغربية وخصوصا الامريكية والبريطانية، وغلبته على الصراعات الحقيقة، خصوصا على الصراعات الطبقية داخل الامم وبين العالم الاول والعالم الثاني والثالث. وهذا ليس استنتاجا منا بل هو ستراتيجية امريكية متبعة ومنفذة تتجلى في واقع عياني نعيشه منذ سنوات. فلقد كتب البروفسور الامريكي صموئيل هتننغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات، دراسة اسمها (تأكل مفهوم الامن القومي) نشرها في اواخر التسعينيات تقوم على الخلاصة التالية : ان انهيار الشيوعية وتلاشي خطرها قد ايقظ الية التفكك في المجتمع الامريكي بسبب وجود جاليات متعددة لم تنصهر بعد في بوتقة امة، وهذه الالية تهدد بتقسيم امريكا لذلك يجب ان تخلق امريكا مخاطر خارجية لاعادة التماسك الى المجتمع الامريكي والحفاظ عليه، والاسلام هو الخطر الجديد الذي سيحل محل الشيوعية ! ماذا يترتب على هذه النظرية؟

ان استفزاز المنتمين الى الديانة الاسلامية ومهاجمتهم عسكريا وسياسيا واضطهادهم على نحو متطرف من جهة، ودعم تنظيمات متطرفة دينيا في الوطن العربي، من جهة ثانية، هو الذي ايقظ مارد التطرف الاسلامي، وبالتخويف به استعان الغرب لايقاظ المارد الاصولي المسيحي واليهودي والهندوسي. وهكذا ارتفع معيار الانتماء الديني ليصبح المؤثر الاول في خيارات الملايين من اتباع الديانات الرئيسية المذكورة، وهو ما مكن الراسماليات الغربية ان تزيد في تحجيم واضعاف قوى اليسار في امريكا الشمالية واوربا من جهة، وان تعزز نفوذ وتأثيرات التيارات الدينية المتطرفة وجعلها تطغى على القوى التقدمية من جهة ثانية. وبذلك مهد الطريق لقلب الصراعات في العالم الثالث، بتغيير محورها الرئيس والتقليدي، وهو النضال ضد الاستعمار الغربي والصهيونية، وزرع صراع الحضارات والنخب الدينية والطائفية والعرقية بدلا عنه!

ان الاصولية الاسلامية المتطرفة والقوية، خصوصا اذا اتخذت موقفا هجوميا على الغرب بالسلاح او الدعوة الدينية، سيوفر لامريكا المتداعية بنيويا فرصة توحيد الصف من خلال التلويح بالخطر الاسلامي، وهذا هو ما عناه صموئيل هنتنغتون في دراسته المهمة. ان اصطناع عدو بعد تلاشي الشيوعية هو مطلب وحاجة راسمالية امريكية كما اكد هنتنغتون، والاصولية الاسلامية المتطرفة هي التي اختيرت لتكون العدو البديل للشيوعية. والسؤال الجوهري هنا هو : الا يعني ذلك تشجيع تعاظم الاصولية الاسلامية المتطرفة لاجل ان تصبح عدوا حقيقيا للغرب وبقية العالم وليس عدوا كرتونيا لايخيف احدا؟ وكيف يمكن تغليب الاصولية الاسلامية المتطرفة وجعلها القوة الرئيسية ودحر القوى الوطنية، والتي هي القوى التي لها ستراتيجيات عملية وتطبيقية يمكن تنفيذها باقل ما يمكن المشاكل ، اضافة لكونها لا تشكل استفزازا لشعوب الدول الراسمالية بل هي تناضل ضد الراسمالية وحكوماتها، وليس ضد الشعوب الاخرى ومعتقداتها الدينية وغير الدينية؟ ان مجتمع امريكا لايشكل مجتمع امة بل هو مجتمع شركة كبرى، بقيمه البراغماتية المتطرفة والطغيان الحاسم للنزعة الفردية وصياغة المجتمع وقوانينه على اساس المصلحة الفردية، لذلك فانه مجتمع يحتاج للخطر الخارجي بصورة حتمية لإبقائه متماسكا وموحدا، واذا اختفى العدو الرئيسي (الشيوعية) فيجب خلق عدو بديل للمحافظة على رابطة الشد والربط ومنع تقسيمه وتشتته، وهو الاسلام وهو مااشار اليه هنتنغتون صراحة ومباشرة.



أيهما اخطر : التهديد الايديولوجي؟ ام التهديد الستراتيجي؟

ربما يتسائل البعض : كيف تشجع امريكا التطرف الديني مع انه يشكل خطرا عليها؟ نعم ان التطرف الديني يشكل احيانا خطرا، لكنه خطر ايديولوجي في المقام الاول وليس ستراتيجيا،لاسباب تتعلق بطبيعة الدين اللاهوتية القابلة لشتى التفسيرات المتناقضة، وهو ما يوفر الفرص الناجحة الكبرى لاحتواءه بنفس عقلاني طويل ومبرمج. المشكلة بالنسبة لنا نحن العرب هو اننا لا نفهم غالبا الكيفية التي تفكر فيها امريكا وتعمل، فهي تخطط لزمن طويل جدا، احيانا يصل الى نصف قرن، لذلك تضع افكارا غير موجودة في الواقع وانما تعمل على ايجادها تدريجيا ثم تغلبها على الافكار السائدة، لتوفير مناخ ملائم لغزواتها وستراتيجياتها الكونية.

كما انها حينما تخطط لا تفكر مثل تاجر ساذج يظن ان دخوله السوق سوف يؤدي الى ثرائه مستبعدا الخسارة المحسوبة والممكنة التحمل، فالغرب يعرف جيدا، بصفته تاجرا قبل كل شيء بان في كل صفقة خسارة محسوبة، والحساب المقصود هو انها يجب ان تضمن الربح الاعلى الممكن وتقبل خسائر ثانوية مقارنة بالربح، مادامت التجارة تتم بين طرفين او اكثر وكل منهم يعمل بكل ذكاءه وقدراته لتحقيق ربح على حساب الاخر. والغرب الذي نشر العلوم الحديثة يعرف جيدا ان الدواء الموصوف للامراض القاتلة ينطوي على اعراض جانبية احيانا خطيرة، ومع ذلك يجبر المريض على تناوله لان فائدته اكثر من ضرره. ومن هذا الفهم نستطيع ان نتصور ان امريكا تحسب انها يجب ان تخسر في كل عمل كبير لكن الخسارة يجب ان تكون ثانوية مقارنة بالربح المطلوب.

وفي ضوء ما تقدم لابد من طرح سؤال مركب وجوهري وهو : هل دعم امريكا للتطرف الديني اقل خسارة من فوز اليسار وحركات التحرر الوطني؟ ان عالم السياسة مثل عالم التجارة لا يرحم وهو اشد قسوة ووحشية من التجارة لانه مزيج من صراعات مصالح وطبقات وامم وارادات واصطدام ثقافي وتفاوت او تناقض سايكولوجي يستغل لاشعال الحروب. لذلك فان الحكمة والادراك في السياسة لا تتجلى الا في المعرفة المسبقة بان كل صراع جوهري ينطوي على خسارة، حتى بالنسبة للمنتصر، لكنها خسارة عملية لا يمكن تجنبها الا في الخيال والاحلام الوردية. والحروب مثال واضح جدا على هذه الحقيقة لانها تنتهي بخسارة فادحة للطرفين لكن احدهما يحقق اهدافه، او بعضها، فيما يخسر الطرف الثاني لكنه يحمل المنتصر خسائر كبيرة.

ان الراسمالية تهتم اساسا بالمخاطر الستراتيجية اولا وقبل كل شيئ وهي مخاطر تنشأ اصلا عن رفض الطبقات المستغلة (بفتح الغين) للظلم الراسمالي داخل الامم، وعن رفض الامم المستعمرة (بفتح الميم) للنهب والظلم الاستعماريين الواقع عليها على المستوى الدولي. ولهذا بامكان النظم الراسمالية ان تتعامل بمرونة كبيرة مع المخاطر الايديولوجية للتيارات المتطرفة دينيا ثم تعالج خطرها، بعد ان تستفيد من مخاطرها الايديولوجية لتصفية اليسار والحركات الوطنية، او لحشد التاييد. ان معالجة مخاطر التطرف الديني، وهي مخاطر ايديولوجية في المقام الاول، يتم بتشتيت هذه التيارات على اساس مذهبي. وهذا التشتيت يخدمها ايضا بطريقتين : الطريقة الاولى انه يسمح باشعال صراعات حادة، تصبح عدائية بين طوائف الدين الواحد المناهض لها، وبذلك تتخلص من مخاطر ايديولوجيا التطرف الديني بادواتها الحادة، اي تقضي عليها حينما تريد ذلك. والمثال هو دعم امريكا لما اطلق عليه تسمية (المجاهدون الافغان) وهي الان تحاربهم (غزو افغانستان) بعد ان حققت اكبر انجاز عن طريقهم وهو دحر الاتحاد السوفيتي في افغانستان مما تسبب في انهياره لاحقا، فكسبت امريكا حروب القرن العشرين مقابل تقديم خدمات عسكرية واستخبارية ومادية للمجاهدين الافغان. واذا قارنا خطر طالبان بخطر الاتحاد السوفيتي نصل الى استنتاج واضح وهو ان خطر طالبان اقل بكثير جدا من خطر الاتحاد السوفيتي فالاول دملة مزعجة والثاني سرطان قاتل. وهذا هو الفرق بين خطر ايديولوجي (مثلا ملا عمر وحكمتيار وغيرهما من قادة المجاهدين الذين اقتتلوا فيما بينهم بعد دحر السوفيت) وخطر ستراتيجي (مثلا الاتحاد السوفيتي الذي كان يعرف انه يقاتل لاسباب ستراتيجية فاستمر الصراع اكثر من سبعة عقود من الزمن).

والطريقة الثانية هي ان التطرف الديني يعادي الحركات القومية واليسارية وغالبا ما يكفرها، فيصبح بامكان الغرب ان يصفي او على الاقل يضعف هذه الحركات، والمثال هو العراق حيث استخدم التطرف الديني، بشقيه الشيعي الصفوي والسني المنحرف طائفيا ووطنيا، ضد القوى الوطنية والمقاومة العراقية المسلحة. لذلك نرى الاستعمار الامريكي يحقق مكسبا عظيما على الصعيد الستراتيجي لان الخطر الستراتيجي الاول الذي يهدد الراسمالية هو الطابع العملي والبسيط لمطاليب اليسار والحركات القومية التحررية، والذي يجعلها، قدر تعلق الامر بقضية الظلم الاجتماعي، اشد تماسكا بكثير من التنظيمات المتطرفة دينيا الغارقة في القضايا اللاهوتية العمومية والقابلة لتعدد التفسيرات والبعيدة جدا عن معالجة قضية الظلم الاجتماعي وهي اهم قضية بالنبسة للجياع. ان مايميز التنظيمات الوطنية والقومية واليسارية هو انها لاتتعامل مع اللاهوت بل مع الناسوت، أي مع المجتمعات البشرية بمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي مشاكل يمكن تحديدها وتحديد المطلوب من وراء النضال لاجل حلها.

فالفقر يحل بالعدالة الاجتماعية والاستبداد يحل بالديمقراطية، والفساد يحل بالقانون والاستعمار يطرد بالنضال بكافة اشكاله...الخ، وهذه المشاكل عملية لا تنطوي على الغاز تحير الانسان وتربكه، لانها مشاكل واقع اجتماعي سهلة الفهم وسهلة تحديد الحل، والصعب فيها هو العمل من اجل تنفيذ الحل العملي. اما بعض التيارات الدينية المتطرفة فانها تدخلك الى عالم تضيع فيه الرؤية، أي مشاهدة واقع بمشاكله وحلوله، وتحل محلها الرؤيا، أي الانغماس في التخيل والاحلام والتمنيات والافكار الميتافيزيقية، فنرى امامنا عدد لا يحصى من التخيلات التي نظنها واقعا، او يمكن ان تصبح واقعا، وذلك هو طريق فقدان الوعي وهو ما يريده المستعمر واسرائيل وايران.

امامنا مثالان لا يمكن تجاهلهما توضحان ما قلناه، الاول في اوربا المسيحية، وهو ان كبار رجال الدين المسيحي في الكنيسة كانوا يجتمعون اثناء حروب وازمات اوربا، قبل فصل الكنيسة عن الدولة، لمناقشة موضوع لا صلة له بكوارث الحروب والازمات الاقتصادية التي كانوا يواجهونها وتقتل الاف الناس، بل كانوا يتجادلون وتنشق صفوفهم نتيجة عدم اتفاقهم حولة مسألة جنس الملائكة هل هم ذكور ام اناث؟ كانت الكتب تؤلف والمحاضرات تلقى والمدارس الفقهية تزدهر في مناخ تحديد جنس الملائكة، اما ضحايا الحروب والازمات فلم يؤلف هولاء أي شيء لحلها ! بالنسبة لنا فاننا ما ان دخلنا مرحلة التطرف الديني حتى واجهنا (مسالة المسائل) وكارثة الكوارث وهي : هل انت شيعي ام سني؟ مع اننا في نفس الوقت نواجه الابادة في العراق المحتل وفي فلسطين المصهينة، ويقتل يوميا الاف العرب ! وتجري محاولات جدية وخطيرة لتذويب هويتنا العربية واحلال هويات ماتت منذ الاف او مئات السنين، كالفرعونية والبابلية والبربرية والفينيقية، وإلباسها زي الهوية القطرية البديلة عن الهوية القومية للامة العربية من موريتانيا حتى اليمن!

كيف نجح الاستعمار الامريكي والصهيونية وايران في ابعاد شرائح منا ليست بالقليلة عن الموقف الحتمي عمليا ومنطقيا، وهو انقاذ الامة من الاستعمار والصهيونية متحدين ومتعالين فوق قضايانا الصغيرة باللجوء للمقاومة المسلحة وجعل هذه الشرائح تنشغل بهويتنا الطائفية او خلفياتنا العرقية الميتة وجعلها قضية آنية وساخنة ولابد ان تحسم بدل حسم موضوع الاحتلال؟ ان الطائفيين من كل الاطراف كأولئك القساوسة الذين كانوا منغمسين في مناقشة قضية جنس الملائكة لدى الكنيسة. قد نفهم سر اهتمام مقتدى الصدر بجنس الملائكة، لانه ما زال صبيا لم تكتمل شواربه بعد ومن حقه ان يتطرف في البحث عن زوجة من الملائكة الاناث، ما دام قد تعود على التحدث مع المهدي المنتظر واخذ منه الامر بتعاطي المخدرات كما قال في فتوى عظيمة له، ولكننا لا نفهم سر تطرف السيستاني في العثور على جواب على موضوع جنس الملائكة وهو العجوز الذي لا يسير الا على ثلاث!

ان السبب الرئيس لهذا الوضع الشاذ هو ان قضايا الدين قضايا ايديولوجية يتحكم فيها المقدس والسر المغلق، مثل عودة المسيح المنتظر او ظهور المهدي المنتظر، وهما الناسخ والمنسوخ عنه، من حيث المنطوق والمضمون. أن بامكان كل من يستطيع ان يتفلسف بذكاء او تدعمه مرجعية ما ان يطرح نظرية او ان يدعي انه قابل المسيح الرب كما فعل بوش، او شرب الشاي مع المهدي المنتظر كما ادعى مؤخرا معتوه احمق في العراق ! بل ان هوس التدين الكاذب وضلاله وتضليله وصلت حد ان بوش ادعى انه خاطب الله وتلقى منه الاوامر باسقاط الرئيس صدام حسين ! والان يوجد في المغرب العربي من يدعي انه المهدي المنتظر وهو سني مع ان (المراجع) تقول انه يجب ان يكون الامام الثاني عشر الغائب في سامراء منذ مئات السنين.

من يحدد طائفة المهدي المنتظر؟ شيخ الازهر؟ ام ايات الله في قم؟ ام السيستاني؟ وكيف اصبحت هذه المسالة اهم من الابادة اليومية للفلسطينيين والعراقيين؟ ومن حركها الان؟ ولماذا تجاوب البعض مع هذه الطروحات الميتافيزيقية التي يجب ان نناقشها، ان كانت مناقشتها ضرورة، ونحن متحررين من الرصاصة الصهيونية والصاروخ الامريكي والخنجر المسموم للصفويين الجدد بزعامة حسن الصباح الحاكم في طهران ! وانا شخصيا تلقيت رسائل من بشر يدعي انه الله (استغفر الله)! واخر يدعي انه نبي جديد ! من صنع هذا المناخ الموبوء؟ ومن يستفيد منه فعلا؟ بالتاكيد لسنا نحن العرب من يستفيد لان عمر وعبدالحسين يقتلان يوميا بدل قتل قوات الاحتلال ! والمستفيد هو الحلف الثلاثي الامريكي الاسرائيلي الايراني.

كيف نعالج هذه المشاكل بحرية وحيادية اكاديمية وهي مقدسة لا تمس؟ هنا ندخل منطقة خطرة جدا وهي منطقة الشفق (Twilight zone)، أي الفترة الفاصلة بين النهار والليل فلا هي نهار نرى فيه بسهولة ولا هي ليل معتم لا نرى فيه أي شيء، بل هي فترة انحدار الشمس وحلول ظلام نصفي فنرى بغير وضوح وبلا يقين مما نرى. عندها نصبح في عالم لا نفهمه ولا نستطيع التعامل معه بعقل ومنطق ولا نحن قادرين على تجاوزه الا بعد ان تحل بنا الكوارث نتيجة صعوبة الرؤية والفهم الصحيح، كقتل كل عراقي اسمه عمر او عبدالحسين، مع ان العراق لم يشهد ابدا حالة كهذه قبل الغزو الامريكي الايراني للعراق، وكان عمر يتزوج فاطمة اخت عبدالحسين وكان عبدالحسين يتزوج عائشة اخت عمر بلا عوائق او مشاكل او حساسيات!

وبسبب هذه الطبيعة الغامضة والغائمة، والقابلة لعشرات التفسيرات والفتاوى للتطرف الديني فان وحدة التيارات القومية والوطنية امتن وارسخ من وحدة التيارات التي تعتمد على ردع اللاهوت والمقدس، لانها تبقى البشر معلقين على شماعة الدين فلا تحل مشاكلهم الاجتماعية كالفقر والامية والظلم والاستعمار بل تبقى بلا حل حقيقي لاننا نواجه تفسيرات عديدة ومتناقضة باسم الدين، كالفتاوي التي اصدرها السيستاني بالتعاون مع الاحتلال الامريكي وبذل كل الجهود لانجاحه مع ان رجال دين شيعة وسنة افتوا بمحاربة الاحتلال كأية الله العظمى احمد الحسني البغدادي والشيخ الدكتور حارث الضاري ! او كما فعل بعض رجال الدين في تأييد الصلح مع اسرائيل مع ان غيرهم حرم صلحا كهذا ! ان امكانية طرح تفسيرات مختلفة استنادا لدين ما او طائفة ما، هي ما يميز التطرف الديني وهي البطن الرخوة التي يستخدمها الغرب والصهيونية لاختراق حصوننا وتدمير وطننا وتذويب هويتنا. وهذه الحقيقة تجعلنا مضطرين للاشارة الى بعض صنميات اللاهوت المدمرة للدين الحقيقي.

يتبع.....