الغربة فى الوطن والوطن فى الغربة

بقلم: د.عبد المجيد زراقط
***

يثير عنوان رواية "زمان الوصل" فى ذهن القارئ ثنائية الحضور/ الغياب، ففى حضور "زمان الوصل" يستدعى الذهن غيابا تمثله موشحة "جادك الغيث.." و"زمان الوصل" فى الأندلس الذى تغنى هذه الموشحة حكايته يمثل تجربة فى التاريخ الإنسانى، ففيها تم الاتصال بالآخر لآونة من عمر التاريخ الإنسانى بدت كأنها حلم مر فى البال، أو أيام وصل اختلست ولم تعد، ولذا فكل من عاشها، كما لسان الدين بن الخطيب، أو عرفها، يرجو أن يسقيها الغيث لتتجدد.. وبخاصة فى هذا الزمن الذى تحكمه "أباتشى" الديمقراطية و"تيماهوكها"!
وإذ يستحضر الغياب، ويمثل، يسأل القارئ: هل من زمان وصل متجدد؟ هل نقرأ فى هذه الرواية قصته؟ أين تجدد؟ وكيف؟ ومتى؟ وفى هذا المناخ من الرغبة فى المعرفة تقلب الصفحات الأولى من هذه الرواية، وتبدأ القراءة..
تصدر الرواية بدعاء للفرعونى "سنوحى" تبرز فيه ثنائية طرفها الأول مكان الهرب –الغربة، وطرفها الثانى المكان الذى يسكن فيه القلب.. وإن يكن المكان الأول قد وفر الحماية، فقد بقى مكان الغربة، وإن يكن المكان الثانى قد دفع إلى الخروج منه هربا، فإن يبقى لاحيما ويعيده ثانية إليه ليدفن جثته فى الأرض التى ولد فيها وبقرب من أحب.
وإذ تبدو ثنائية هذين المكانين يطرح السؤال: فى أيهما كان زمان الوصل؟ فى مكان تم الخروج إليه هربا، فوفر الحماية، لكنه بقى غربة؟ أم فى مكان فقدت فيه الحماية، فتم الخروج منه هربا، لكنه بقى الوطن الذى يسكنه القلب، والذى ترجى العودة إليه ليكون أرض الموت كما كان أرض الولادة؟
يثير هذا السؤال إشكالية الغربة/الوطن التى يعيشها الإنسان العربى فى هذا الزمن، فهو يخرج هربا من مكان لا يتيح له فرص التحقق إلى مكان تتوافر فيه هذه الفرص، وفى هذا المكان يحيا تجربة اللقاء بالآخر والاتصال به والعيش وإياه.. ويحاول إقامة جسور بين مكانيه: شرق وغرب، شمال وجنوب، وتواجهه أسئلة كثيرة: إلى أيهما ينتمى؟ وفى أيهما يريد أن يبقى؟ وهل كانت نتيجة تجربته الوصل أو القطع؟
فى دعاء سنوحى إجابة تتحدث عن غربة حتمية فى المكان الآخر، وإن وفر الحماية، واختيار نص فرعونى دال على تاريخية الإجابة وليس على جغرافيتها فحسب.
وإن تكن هذه هى إجابة التصدير/القول التاريخى-الجغرافى، فماذا تقول الرواية التى نقرأ؟
تقول الرواية إن هاشم عاد من غربته فى اليونان بعد أن أمضى هناك ثمانية عشر عاما، فأمضى عشرة أيام فى مدينته الإسكندرية التى خرج منها هاربا من قسوة أبيه ومن عدم توافر مكان له يحقق فيه وجوده الفاعل.
فى هذه الأيام العشرة تدور أحداث الرواية، لكن مسار هذه الأحداث لا يمضى خطيا، بل يتخذ منحى متكسرا متقطعا يبطئه الاسترجاع من الماضيين القريب والبعيد، والاستباق، والتعرف إلى المكان من جديد بلغة مركزة دالة تخلق المعنى، فنعرف من هذا المعنى الذى توحيه، وعلى سبيل المثال، ما فقده هاشم، وسعى إلى تحقيقه.
يقول هاشم فى بداية الرواية:"الشارع أتذكره، أميل إليه من صفر باشا، أمضى فى الأرض الترابية، على اليمين دكانان، أحدهما مغلق، والثانى ترزى، عرض بذلة وحيدة فى الفاترينة الزجاجية.." فهذا السرد التصويرى المؤدى بجمل قصيرة يدل على فقر هذا المكان، وعلى عدم وجود فرص عمل، علاوة على دلالات أخرى تتبدى إن أكملنا القراءة، منها علامات تشكل خصوصية الفضاء الروائى، فالأرض ترابية فيها دكانان أحدهما مغلق والثانى ترزى علق بذلة واحدة فى "فاترينته"، ويضيف هاشم فى وصف البيت مستخدما السرد التصويرى الناطق بالمعنى:"..الجدران أكلها ملح البحر، والجدران المشققة تنز بالرطوبة، وقضبان النوافذ الحديدية علاها الصدأ.." نلمس فى هذه الجمل الفقر والبؤس والإهمال، ونلمس فى جمل أخرى التقاطا لتفاصيل ناطقة بالدلالة عندما نقرأ:"..على المكتب الصغير أوراق جريدة قديمة، حال لونها، وتقصفت حوافها: الحاكم العسكرى يفرض حظر التجول.. جنود الأمن المركزى دمروا المنشآت فى شارع الهرم.." والدلالة هنا واضحة، ففى الوطن قمع وقهر وسلطان ظالم مدمر.
وهكذا يتبين لنا من قراءة السرد التصويرى، ومن دون قول مباشر "الفقد" الذى أدركه وعاشه هاشم، ووهو الفقر وعدم وجود فرص عمل والتسيب والإهمال والقمع، والذى خرج ليعوضه فى مكان آخر من هذا العالم، لكن اللافت أن هاشم نفسه يعود إلى هذا المكان ليبقى فيه، وإن كان قد ازداد ترديا.
يعود هاشم إلى بيت الأسرة القديمة، وإلى شقة غاب عنها آخر ساكنيها منذ أربع سنوات أو خمس، بعد أن مات الأبوان والأخ المعوق، وذهب الأخوة الآخرون كل فى دربه. تطالعه رائحة التراب، يشمها ويسأل: هل هى رائحة الزمن؟
فى مناخ تسهم هذه الرائحة فى تشكيله، يمضى القص، ويلاحظ فيه، أولاً، تداخل الأزمنة: الحاضر، الماضى القريب، الماضى البعيد، المستقبل، فتمضى الأحداث فى الحاضر، وتسترجع أحداث من الماضيين، ويستشرف المستقبل، فيشعر القارئ كأن ديمومة زمنية تمضى أمام عينيه. وثانياً، أن هاشم يتعرف، وهو يحيا هذه الديمومة، إلى المكان الذى غادره ثم عاد إليه، بعينين جديدتين، كأنه يرى الأمكنة والأشياء للمرة الأولى، ويدرك أن الغربة فصلته عن زمن مختلف. وثالثاً، تغير زتوية الرؤية ووجهة النظر الرئيسية فى الرواية: هاشم بضمير المتكلم، ثم لا يلبث أن يخلى موقعه إلى الراوى بضمير الغائب، وهذا التبدل واضح الدلالة، وفى ما يأتى نقدم أنموذجا يوضح ذلك.
تروى الشخصية المشاركة الوحدات: العودة، البيت: تذكره، ما هو عليه الآن، ما كان عليه، الشقة.. وتقدمها من منظورها، بوصفها العنصر الروائى الأكثر قدرة على أداء هذا الدور: أداء السرد التصويرى الدال على إدراك الفقد المفضى إلى اتخاذ قرار الخروج من نحو أول، والتعرف إلى ما أحدثه الزمن من تغير إبان غيابه، واتخاذ قرار البقاء على الرغم من أن الواقع غدا أكثر ترديا من نحو ثان، وتشكل هذه الثنائية يطرح سؤالا عن أسباب العودة والبقاء، وهذا ما يوكل أداؤه إلى راو أكثر معرفة، وهو الراوى العليم، بوصفه العنصر الروائى الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور، لأنه يعرف كل شئ، ويؤديه بموضوعية، من نحو أول وقادر على استخدام التقنيات ووسائط المعرفة من نحو ثان، لذا فهو يدير حوارا بين هاشم وأخيه محمود، فنتبين منه وجهة نظر كل منهما وعنف الأب، ثم يقص ويصف ويسترجع، وبقدم معلومات فى نهاية اليوم الأول، فى صيغة استفهامية تثير رغبة القارئ فى متابعة القراءة وشدته إلى معرفة ما حدث لهاشم الذى غادر راكبا البحر إلى دنيا جديدة يحبها، يسأل الراوى فى نهاية اليوم الأول: وهل انتهت حياة البحر بالعمل فى دكان ميخاليدس والزواج من كريستينا؟ فيسأل القارئ وهو يقلب الصفحة بعجل: من هو ميخاليدس؟ من هى كريستينا؟ أين وكيف ومتى عرفهما؟
وهكذا يمضى القص فى تناوب بين تتبع لاكتشاف الحاضر واسترجاع الماضى واستشراف المستقبل، وفى تناوب بين راويين، زاويتى رؤيا، يؤدى كل منهما دوره.
تنطق لغة القص التى يؤديها هاشم بخياره من دون أن يقول ذلك مباشرة، نقرأ على سبيل المثال قوله:"أعانى لحظات اختلاط الإحساس بالحياة فى بيريه والعودة إلى البيت" فالمكان الذى خرج إليه وعاد منه هو "بيريه" فحسب، أما المكان الذى خرج منه وعاد إليه فهو "البيت"، وهذه الثنائية: بيريه/البيت تدل على أن الطرف الأول مكان عام، أما الطرف الثانى فهو مكانه هو الذى يأوى إليه، ويحميه، إلى ما هنالك، مما يرمز إليه البيت.
والسؤال الذى يطرح هنا هو: لم اتخذ هاشم هذا الخيار؟ ماذا جرى فى الدنيا الجديدة التى رغب فى الخروج إليها والعيش فيها؟
رحل هاشم، وغدت الباخرة بيته إلى أن حط الرحال فى الميناء اليونانى بيريه، فعمل فى مقهى ميخاليدس، وهو يونانى ولد فى حى العطارين فى الإسكندرية فى ايام سعد باشا، وتركها فى أيام عبد الناصر، ثم تزوج حفيدته كريستينا التى يحبها وتحبه.
وتمضى الأيام "زمان وصل" لكن عوامل القطع تظل حاضرة فيه، فثنائية أنا/أنت أو هو تبقى قائمة بوصفها ثنائية اختلاف، تقول كريستينا عن حى العطارين فى الإسكندرية: أتصور من وصف جدى أنه أجمل أحياء الدنيا، لكن الجد تركه وعاد إلى بيريه، وتسأل زوجها: وأنت هل تحب بحرى؟ وهو الحى الذى عاش فيه فى الإسكندرية، فيجيب: طبعا، فتقول: وأنا أحب بيريه..
فى هذه النماذج نلمس ثنائية: أنا/ أنت، أحب/ تحب.. لكن الخصوصية تبقى داخل النفس، أما فى خارجها فيطمس حبه لكريستينا ذكريات كثيرة، ويهبه الزواج منها الحق فى أن يقيم بلا خوف، ويقرب له إمكانية الحصول على الجنسية اليونانية، ويغيب إحساسه بالغربة، فيقول لزوجته فى اليوم الثالث لانتقاله إلى بيت ميخاليدس: "مصر وطن عنيت فيه الغربة، واليونان غربة وجدت فيها الوطن" تقول: "هذا شعر" يقول:"ما أقوله هو الحقيقة.. بيريه الآن وطنى وسكنى.. وهى بك حبى أيضا" ويعمل ويطمئن ويخالط الناس، ويجلس على المقاهى، ويقنعه توالى الأعوام بأن بيريه هى الحاضر والمستقبل.
لكن عندما ذهبت كريستينا للصلاة فى الكنيسة غلبه الضيق، ولما طلبت منه أن يرافقها توتر، وترك البيت إلى قلب المدينة، ولم يدر كيف يتصرف عندما اكتفى أبواها منه بنظرة محايدة، وأعفياه من الجلوس إليهما، ما يعنى قطعا معه إن لم يكن رفضا..
وإن كان لم يعد يعانى تأثيرات الغربة: اللغة، سحب الإقامة، مداهمات الشرطة، النظرات الرافضة أو المستريبة، علاوة على التشابه الجغرافى الذى يكاد يكون تاما بين ميناءى بيريه والإسكندرية، فإن حواراته مع اليونانيين كانت تنتهى ب"القطع" وليس ب"الوصل"، ومنها حوار مع رجل يونانى جعله يكتشف أن اختلاطه بالمجتمع الذى وفد إليه هو اختلاط الزيت بالماء، ويتبين أن هجرته التى طالت لم تزحزحه عن موضعه فى الهامش، قال الرجل: مصيبة لو أن القرعة ألزمتنا باللعب مع تركيا، قال هو:أرى أن نبتعد بالرياضة عن القضايا السياسية. قال الرجل: هذه مسألة نعرفها نحن أبناء اليونان. أجاب: أنا الآن يونانى. قال الرجل: نحن يونانيون، وأنت تستوطن اليونان.
واقتحمه شعور بأن كل ما حوله يعاديه، وأن عليه أن يبادله العداء نفسه، وبدأ يؤرقه السؤال: هل يظل أجنبيا إلى الممات؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذى أرق ميخاليدس من قبل فى الإسكندرية. قال العجوز: كانت الإسكندرية مدينتى لولا أن الظروف تغيرت. والظروف تغيرت فى أيام عبد الناصر، أى فى أيام نهوض الشعور/المشروع القومى الذى واجه الآخر/المستعمر الغربى، فادار صراعا حادا على مختلف المستويات، هدفه القضاء عليه، ما جعل ميخاليدس، وهو غربى، يشعر بتغير أدى إلى اتخاذه قرار العودة إلى بيريه.
وإذ يقرر هاشم العودة إلى الإسكندرية يقول لكريستينا عندما تسأله عن السبب: "الطير يتجه نحو الجنوب وراء علامات لا يراها غيره" فقالت: "لا أتصور أنى أبتعد عن بيريه.. سأنتظرك حتى تعود. قال: قد لا أعود. وفى بساطة حاسمة قالت: وأنا لن أغادر بيريه".
وهكذا حسم الخيار، وعاد هاشم ليفتح باب شقة تجاور مقام سيدى منصور، أغلق منذ خمس سنوات، ذهب الأهل، وبقى هو يحاول أن يرتب الكلمات المتشابكة، المتقاطعة.. وتتصاعد من المقام زغرودة طويلة يحدس أنها لامرأة أوفت نذرها، فهل هذه العلامة هى إحدى العلامات التى لا يعرفها سوى الطير العائد إلى الجنوب؟ وهل حدسه هذا يجعله يشعر بأنه ينتمى إلى المكان وليس أجنبيا؟
وإذ تنتهى من قراءة الرواية يخطر لك غير سؤال، فهل من الحتمى أن يكون اختلاط أنا وأنت أو هو اختلاط الزيت بالماء؟ وهل أن شعور الأنا الممض بأنه أجنبى فى بلاد الأنت يدفعه إلى الخروج منه والعودة إلى حيث يشعر بالانتماء؟
فى الرواية ما يشير إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة هى نعم، لكن فى الرواية ما يقول: إن الأنا حين يعانى الغربة فى الوطن، أى عندما يشعر بالفقد، يخرج ليعوضه، ويسعى ليبحث عن الوطن فى الغربة، وقد يجده، وعندما يجده يشعر بفقد آخر، فيعود ليعوضه، وهكذا فى حلقة تدور، وليس فيها من زمان وصل دائم، ما يطرح سؤالا حضاريا كبيرا: لم لا يكون فى هذا العالم مكان يدوم فيه زمان الوصل؟ أى لم لا يكون فى هذه الدنيا وطن لا يشعر فيه الإنسان أيا يكن بالغربة؟ وان استحضرنا الغياب الذى بدأنا الكلام به نسأل: هل جاد التاريخ، ذات عصر، بهذا المكان فى أندلس، حيث أزهر زمان غنى الشاعر حكايته التى مرت كما حلم فى كرى أو خلسة المختلس، فطلب للغيث أن يجود ويسقى.. فلعل هذا الزمان يعود يوما؟ ولكن أليس هذا حلم آخر فى زمن "زيوس" العالم الجديد؟