بحثا عن مواضعات السيرة الذاتية
تقديم:
لم تحظ السيرة الذاتية بالاهتمام نفسه الذي أولاه الباحثون والنقاد العرب في مجال التخييل للرواية، فبعد انشغال جيل من النقاد (على نحو شوقي ضيف، وإبراهيم عبد الدائم، ومحمد عبد الغني حسن، وعبد العزيز شرف) بالتدليل على وجود الشكل السير - ذاتي في التراث العربي، والتمثيل والتعريف بعينات منه، ورصد نشأته وتطوره عبر التاريخ، أكَبَّ الجيل الموالي على معالجة مكوناته ومستوياته النصية ومواضعاته الجنسية (générique) بطرائق ومفاهيم ومنطلقات ورؤيات جديدة. وينتسب عبد القادر الشاوي إلى هذا الجيل، وما يسترعي الانتباه أنه لا ينظر فقط للسيرة الذاتية ، بل يحين بعض قواعد لعبها في ممارسته التخييلية (كان وأخواتها(1986)، ثم دليل العنفوان(1989)، باب تازة (1994) الساحة الشرفية (1999).
وبعد أن خصص دراسة منوغرافية للزاوية (الذات والسيرة 1996)، أصدر مؤخرا مؤلفا يستوعب ثمانية نصوص سير - ذاتية متفاوتة في زمنيتها، وإن كانت متباينة في مرجعياتها، فإن المعايير الأدبية والجنسية المعتمد عليها أعادت الاعتبار إلى " أدبيتها"، وكشفت عما تتضمنه من قو اسم مشتركة، ويتكون الكتاب (الكتابة والوجود) (1)- بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة-من قسمين رئيسيين : وسم عبد القادر الشاوي القسم الأول بعنوان: السيرة الذاتية، الفقيه أو شخصية الاسم العلم، وتعرض فيه إلى أربعة نصوص أنتجت بين 1860 و1942 لكل من أبي الربيع سليمان الحوات ( ثمرة أنسي في التعريف بنفسي)،والتهامي الوزاني(الزاوية)، ومحمد المختار السوسي(الإلغيات)، ومحمد الجزولي (ذكريات من ربيع الحياة) ؛ ثم عنون القسم الثاني بالسيرة الذاتية، المثقف العصري وشخصية الأنا ، وعالج فيه نصوصا لكتاب محدثين، صدرت ما بين 1957 و1993 : في الطفولة لعبد المجيد بنجلون ، وسبعة أبواب لعبد الكريم غلاب ، وزمن الأخطاء لمحمد شكري ، ورجوع إلى الطفولة لليلي أبو زيد.
سنتعامل مع المؤلف في تزامنيته للتعريف بمحتوياته ، ثم نبدي بعض الملاحظات عليه .
1-حدُّ السيرة الذاتية :
يرتد ميخائيل باختين بالشكل السير-ذاتي إلى العصور القديمة، وهو لم يكن مدرجا كعمل أدبي مكتوب ، وإنما كان فعلا شفهيا مدنيا وسياسيا لتمجيد إنسان واقعي، وإعطائه الاعتبار العمومي المستحق. ولم ينظر إليه بوصفه وثيقة شخصية حميمية مرتبطة بتاريخ الفرد وسوابقه، وإنما كان يعد وثيقة للوعي العائلي والسلالي وبوتقة لنقل التقاليد العائلية والأبوية من جيل إلى آخر؛ وبذلك ظل محافظا على طابعه السير ذاتي العمومي والتاريخي والوطني. ويفهم من هذا الكلام ، أن السيرة الذاتية باعتبرها جنسا مرتبطا بالوعي الفردي ووجوده ، لم يكتب لها الوجود في العصور القديمة. وهذا ما يعترض عليه البعض ، بدعوى حفول التراث الإنساني بطبقة من النصوص يمكن- بحكم مستوياتها الداخلية وهويتها النصية- أن تدرج وتجنس في إطار السيرة الذاتية.
وإلى جانب اختلاف النقاد في تحديد الحقبة التاريخية التي نشأت فيها السيرة الذاتية، فهم يتباينون فيما بينهم حول إبراز الشروط التي تحكمت في كينونتها. يؤطر باختين بروز الوعي السير ذاتي (أو السيري) داخل الساحة العمومية( الأكوار) التي جعلت صورة الإنسان مكشوفة إلى درجة لم يكن هناك فرق جذري بين الموقف من الحياة (السيرة) والحياة الشخصية( السيرة الذاتية). ويعزو جورج ماي ظهور السيرة الذاتية إلى نضج الشروط الثقافية والتاريخية ( الفردانية الأوروبية ، والثقافة المسيحية) التي حدثت في القرن الثامن عشر. ويشترط جورج كوسدوروف توفر شروط الوعي بالذات، وتحقق ثورة فكرية تحفز الإنسان أن يستعظم شخصيته. ويتناول فليب لوجون الجنس السير ذاتي بوصفه مؤسسة اجتماعية مقرونة بصعود الطبقة البورجوزاية، ومشرعة على تَنظُّــرات القراء وتوقعاتهم، ومراهنة على تعاقدهم ( الميثاق السير ذاتي)، وقد كرس جهده لتبيان ديمومته واستقلاله ، ثم عقلنة نمطه المعياري.
وبعد جرد جملة من التصورات حول السيرة الذاتية، يخلص عبد القادر الشاوي إلى صعوبة الاتفاق على منظور متقارب . ومرد ذلك إلى تباين الخلفيات المعرفية ، وتضارب الآراء حول الموضاعات التي يمكن أن تسم الجنس السير ذاتي ، وتميزه عن باقي الأجناس الأدبية.
من بين ما ترتب على المثاقفة اهتمام النقاد العرب بالسيرة الذاتية. ورغم قلة المراجع عنها ، فقد اختلفت مقارباتها وخلفياتها في ثلاث نقاط: أولاها إشكالية السيرة الذاتية من حيث القدم والوجود ، ولا خلاف أن الجنس ضارب بجذوره في الثقافة العربية الإسلامية؛ وثالثتها الاعتماد على تاريخ الأدب للتدليل على النقطة السالفة؛ وثالثتها الإقرار النهائي بوجود السيرة الذاتية في الأدب العربي دون إعطائها حدا معياريا. ويدلي عبدالقادر بدلوه معتبرا أن السيرة الذاتية بالمغرب ظهرت بالمغرب في نهاية القرن الثامن عشر، واقترنت نهاية القرن الثامن عشر بالفهرسة باعتبارها ضربا من التأليف يذكر فيها المؤلف شيوخه وما قرأ عليهم من كتب وأسانيد. لكن تواتر النصوص التي يمكن أن تدرج في الخانة السير ذاتية، تزامن مع بروز الظاهرة الأدبية وتوطد ظاهرة المثاقفة إبان مرحلة التناقض الوطني ( المغرب/ المعمر). وفي هذا الصدد استنتج خمسة أشكال متمايزة لمفهوم الكتابة السير ذاتية ، وهي: السيرة الروائية الشطارية، والسيرة الروائية، والسيرة الذهنية، والسيرة الذاتية، ونصوص غفل غير مجنسة. « وربما كان القاسم المشترك بين السير الممثلة لذلك، هو تعبيرها عن التجربة الشخصية للمؤلف (تاريخ الأنا) باصطناع ضمير الأنا المتكلم في غالب الأحيان ( مع وجود نصوص لم تتقيد بهذا المحدد)، واستثمارها للماضي الحياتي في تعبيره عن التطور النفسي والذهني والاجتماعي الذي يتخذه مسار الحياة الفردية بين الطفولة والكهولة، أو ما بعد هذه، وتشغيل الذاكرة كحافظة للوقائع المروية » ص29.
2-التمفصلات الكبرى للمؤلف:
يجمع القسم الأول نصوصا - على ما بينها من اختلاف- تنزع هويتها إلى رصد الكينونة الفردية في تطورها الفكري.
أ- إن نص ثمرة أنسي للتعريف بنفسي لأبي الربيع سليمان الحوات(1747-1816) يعبر عن نضج يقيني وكشف عن الحقيقة، ويصدر عن مقصديته ألا وهي حفز الفقهاء والمتأدبين للكتابة عن تجاربهم الشخصية والفكرية. ويتكون النص من اتنين وثلاثين عنصرا، ويتسلسل في وحدة موضوعاتية ترصد حياة الكاتب/السارد من بداية التعلم والتكوين إلى مرحلة النضج. ويتشخص الميثاق السير ذاتي في المؤلف بواسطة تطابق السارد والمؤلف والشخصية ، وهيمنة ضمير المتكلم ، وحضور الاسم الحقيقي للمؤلف متخذا في النص شكلين مترابطين : كدال على الفقيه الذي أخذ من العلم الديني أتمه ، ثم كدال على المتأدب القارض للشعر والمتبحر في البلاغة.
ب-يعرف التهامي الوزاني في الزاوية بسيرورته الشخصية (الذات)، وبتاريخ الأشراف الحراقيين بتطوان (التاريخ) سواء اعتمادا على الرواية الشخصية أو المشاهدة العيانية. ويتضمن النص ثلاثة محاور تمثل مجتمعة مراحل متعاقبة : الشغف بالتصوف، الرغبة في طلب شيخ التربية، ولوج عالم التصوف. وتلعب البيئة دورا أساسيا في توجيه منزلة التهامي الوزاني في مجال الفقه. ومن بين الشخوص التي لعبت دورا كبيرا في تكوينه وإنضاجه، نذكر في المقام الأول الجدة ( غرس التربية الصوفية الأخلاقية)،ثم الحكاك (التوجيه في طلب العلم) ، ثم القادري( المساعدة في تخطي الأزمة النفسية)، ثم الريسوني( الإرشاد إلى الزاوية الحراقية)، ثم غيلان (الوساطة بالشيخ). وتعتمد الزاوية على ضمير المتكلم، وتحيل إلى شخصية المؤلف، وتقوم على زمنين : زمن التذكر الذي يجمع شتات الحياة الفردية ، وزمن الكتابة الذي يوازن بين التحول والنظام.
ج-كتب المختار السوسي الإلغيات لما كان منفيا في إليغ، وهو يتضمن عينات سير ذاتية دالة ( المولد، واختيار الاسم، والتكوين، والتجربة الصوفية، والانخراط في العمل الوطني، وتأسيس جمعية ثقافية (الحماسة)، والتدريس). وإن كان المختار السوسي يتمتع بقوة الحافظة والاستذكار، فقد كان يعترف بأنه منخرم الذاكرة ، وسريع النسيان. "والواقع أن استراتجية الذاكرة في التذكر تصبح، على هذا الأساس، طريقة في الكتابة السير ذاتية، وأسلوبا في تقديم المعطيات الدالة التي يؤثث بها المؤلف نصه، مع اختيار المسوغات المناسبة(التقديم والتأخير، الانتقاء..) التي تمكنه من ذلك على الوجه الإخباري المناسب. هناك محو مفترض، ولكنه ليس خيانة أدبية، بل لحظة مبطنة بالشعور الآني الذي يستدعي الذكريات، فيختار منها (أو قد تتوالى عليه باختيارها الطوعي) ما يخدم المقصدية التي توخاها في الإبلاغ"ص95.
د-عمد محمد الجزولي في ذكريات من ربيع الحياة إلى استذكار ما جادت به قريحته من قصائد وقطع شعرية لإنقاذها من الإهمال والضياع. ويجمع الكتاب بين دفتيه مستويات تعبيرية مختلفة ، ويزاوج بين تجربتين مختلفتين على مستوى الكتابة: إثبات النص ، ثم تحقيقه. وبين عبد القادر الشاوي الموضوعات التي استأثرت بشعره، واستخرج منها الصور المهيمنة (صورة الأتراك ، ثم صورة كمال أتاتورك، ثم صورة فرنسا)، والعينات السير ذاتية( الذهاب إلى العرائش، والعودة إلى الرباط، والتعرف على أبي شعيب الدكالي وطرائقه التعليمية ( الوعظ، والإرشاد، والخطابة)).
وجاء القسم الثاني تتمة للقسم الأول ، وتميز عنه بكون المؤلفون - على وجه العموم- مطلعين على ما حصل من تراكم في مجال الأجناس الأدبية، وواعين بالتحولات التي طرأت على مفهوم الكتابة بما فيه مفهوم السيرة الذاتية.
أ-يختلف نص في الطفولة لعبد المجيد بنجلون عن كثير من النصوص بكونه يتغافل عن الإشارة إلى الكينونة الأولى، وهو يتكون من فضاءين أساسيين ( المغرب وانجلترا) يستقطبان تجارب وعادات متناقضة ويحيلان إلى وحدتين مركزيتين(الطفولة/ الشباب)، ويفضيان إلى النهاية المقررة (السفر إلى القاهرة). وإن كان السارد/ المؤلف يحرص على استعادة أطوار من حياته، وملامح من هويته الشخصية، فهو يغذيها بالشروط المحيط به وبالزمن التنبئي (كوسدورف).
ب- قرئ نص سبعة أبواب لعبد الكريم غلاب في البداية بوصفه رواية. وما زاد في هذا اللبس هو أن الطبعة الأولى صدرت مجردة من أية إشارة تجنيسية ، ثم أن ظهر الغلاف تضمن إحالة إلى "الذكريات". ويعيد عبدالقادر الشاوي تجنيس النص ضمن النصوص السير ذاتية مستندا إلى وجود وقائع موثقة ، و يدعمها ببرغماتية إسم العلم وتواتر ضمير المتكلم . ويتناول النص فترة عصيبة من حياة صاحبه ، تدور أساسا حول موضوعتين : الاعتقال باعتباره قيمة رمزية ، ثم مراحل التكوين في بعدها النضالي.
ج- يحلل عبد القادر الشاوي عنوان الرجوع إلى الطفولة لليلى أبي زيد مبينا علاقته بمضامين النص ومستوياته الداخلية ، ثم يفكك صور الطفولة، ويبين علاقة الساردة بالمحيط الخاص (الأم والأب والمعتقل ، وتكون الأنا في نطاق أسري مضطرب) والعالم الخارجي . و هكذا ينهض الميثاق التلفظي على إبراز علاقة الساردة بالمعطيات التاريخية ( النضال السياسي للأب، والسجن، والمرحلة التاريخية) وعلاقة المؤلفة بالملفوظ ( عقد مسافة ما بينها وبين الماضي ، وجعل شخصيتها جديرة بالاعتبار).
3-ما بعد القراءة :
بعد الفراغ من قراءة النص يمكن أن نبدي عليه الملاحظات التالية:
أ- لقد تعامل عبد القادر الشاوي مع كل مؤلف في تزامنيته لاستخلاص مستوياته الداخلية وتعليل علاقته بالشروط المقامية والتلفظية. وهذا ما جعل المتن عبارة، في الوقت نفسه، عن أعقّة محافظة على فرادتها وأصالتها، ومتداخلة فيما بينها بقواسم مشتركة. وإن كانت معضلة التجنيس تحتم على الباحث أن يتعامل مع مفردات المتن في شموليتها لا ستنباط القوانين والضوابط المتحكمة فيه، واستخلاص نموذجه البنائي؛ فإن عبد القادر الشاوي ظل وفيا لممارسته النقدية. وهذا ما حفزه على التعامل مع كل مؤلف على حدة لاستشفاف دلالته واستجلاء مميزاته. وهناك باحثون آخرون ( نذكر منهم سوزان روبان سليمان S.R.SULEIMAN وسعيد يقطين)(2)حاولوا المزاوجة بين الممارسة النقدية (إصدار التأويلات المناسبة) والممارسة الشعرية ( استنباط القوانين المجردة)، وهو ما حتم عليهم التعامل مع مفردات المتن بوصفها نصا واحدا محددا بمتغيراته وثوابته الخاصة به. إن الإستراتيجية النقدية التي تبناها عبد القادر الشاوي لم تترك له مجالا رحبا لبيان ما يجمع بين مكونات المتن ( قديمها وحديثها)، وتبرير إلحاق بعض النصوص ( على غرار الفهرسة) بالمجال السير ذاتي. فقد اكتفى بترديد قواسم مشتركة عامة ( المحكي الذاتي، ضمير المتكلم ،برغماتية إسم المؤلف، الميثاق التلفظي..) دون التوغل في المواضعات الجنسية والمستويات القاعدية التي تجعل منها نصا واحدا متميزا عن كيانات نصية وخطابية أخرى.
إن الإستراتيجية المنطلق منها، دفعت الشاوي للتنقيب على نصوص متقاربة في هويتها النصية ، والإكْباب عليها بالنقد والتحليل لا ستنتاج ما تحفل به من سمات فنية ودلالية. ورغم خلو أغلبها من التعيين الجنسي الملائم الذي يمكن اعتماده كمؤشر على القراءة الممكنة، فإن عبد القادر الشاوي -ببصيرته النقدية ووعيه بمعضلة الأجناس الأدبية- أعاد تجنيسها مبينا ما يوحدها ويجمعها في إطار جنس أدبي محدد ، ثم اشتغل عليها بمفاهيم متجانسة في مرجعياتها النقدية والمعرفية.
ب-لقد أدرج عبد القادر الشاوي ضمن المجال السير ذاتي نصوصا متباينة في مرجعياتها ( الاعترافات، الفهرسة، الذكريات). وإن كانت تتقاطع مع السيرة الذاتية في بعض السمات، فهي تنفرد بمميزات خاصة. فالاعترافات في الثقافة العربية الإسلامية تستدعي التوبة إلى الله ، والذكريات تستجمع وقائع واقعية، والفهرسة توثق الأصول العلمية للمترجم له قبل الإجازة. وبما أن المتن المعتمد عليه يتوفر على متغيرات ، فإن الأمر كان يقتضي في إطار عملية إعادة التجنيس أن يعين الجنس الأعلى ، ثم تحدد الأصناف التابعة له. وما يسوغ لعبد القادر الشاوي ضم نصوص متباينة في مرجعياتها ( التاريخ، التصوف ، الأسانيد) هو اضطلاع الكاتب بحكاية حياته الشخصية. وهذا بالضبط هو ما وجد فيه فليب لوجون ضالته، فأرغمه على العدول عن التعريف الذي سبق أن منحه للسيرة الذاتية في كتابه الميثاق السير ذاتي (3) ، والاستئناس بتعريف فابرو Vapereau الذي أورده في المعجم العام للآداب 1976 " السيرة الذاتية هي أي عمل أدبي أو رواية أو شعر أو دراسة فلسفية يسعى من خلاله المؤلف، بقصد مضمر أو صريح، إلى حكاية حياته، وعرض أفكاره، وتشخيص إحساساته" (4). وإن كان هذا يبرر إعادة الاعتبار إلى نصوص كانت إلى حد قريب مبعدة من مملكة الأدب، فهو يحتم طريقة جديدة للتعامل معها لتحديد أدبيتها وجنسيتها.
ج-ظل عبد القادر الشاوي - في معظم تحاليله- مشدودا إلى الميثاق السيرذاتي على الرغم من تراجع فليب لوجون عنه للحيثيثين التاليتين: أولاهما تتعلق بدور التلقي في إعادة تجنيس المؤلفات ، وثانيتهما تهم حفول الكتابة السيرذاتية بالعوالم التخييلية.
د-ركز عبد القادر الشاوي في تحاليله بشكل كبير على الجانب الموضوعاتي، إذ تتبع أطوار السارد/المؤلف وطقوس مروره، وأبرز القضايا التي تستأثر باهتمامه، وبين ما تستضمره كتابته من صور ورموز. وبالمقابل خصص حيزا للمستويات الفنية التي تحفل بها النصوص السير ذاتية. ومن بين هذه المستويات نذكر على سبيل المثال : البنية الزمنية، والميثاق التلفظي، وبنية الضمير، وإسم العلم، والشخوص المرجعية ، والمنولوج، والصيغة. وهذا ما يبين أن عبد القادر الشاوي ظل وفيا للطريقة التي حلل بها فليب لوجون النص أو الفضاء السيرذاتي. وقد استطاع عبد القادر الشاوي - بحكم تجربته النقدية- أن يذوب المناهج المعتمدة ، ويطبع التحاليل بشخصيته ورؤيته النقديتين ، ويخلصها من المفاهيم المعتاصة ésotériques ضمانا للتجاوب مع دائرة أوسع من القراء المفترضين. ولم يظل وفيا للمحايثة البنيوية ، بل أشرع النص على ميثاق القراءة وآفاق التلفظ والتداول ومكتسبات التحليل المؤسساتي."من وجهة نظر التحليل المؤسساتي فإنه لا وجود للأدب في حد ذاته، بل هناك ممارسات خاصة، منفردة، تشتغل على اللغة والمتخيل، وأن وحدتهما لا تتحقق إلا على مستوى وظيفتهما واندراجهما في البنية المجتمعية"191.
خاتمة :
تعتبر عملية التجنيس من أعقد المعضلات التي يعاني منها الحقل الأدبي، وذلك بحكم صعوبة وضع حدود قارة بين الأجناس الأدبية ، أو الحسم في تبويب النصوص داخل خانات جنسية ثابتة. وفي جميع الأحوال يتعذر -حسب وجهة نظر كلوينسكي Glowinski- إيجاد نمذجة كونية ، وحتى في حالة وجودها فهي ستكون تعميمية وتخطيطية ، بحيث لن تقدم الشيء الكثير عن الأجناس وخصائصها وكيفية اشتغالها. وإن تضارب الآراء حول التجنيس ، أغنى نظريات الأدب بتصورات وتصنيفات ونمذجات متباينة في خلفياتها النظرية ومنطلقاتها الابستمولوجية (النظرية المعيارية ، والجوهرانية الأرسطية ، والجوهرانية التاريخانية...الخ).
وعليه ، يبدو بحث الناقد عبد القادر الشاوي مغامرة محمودة لتجنيس نصوص غفل من أي تعيين جنسي، وإعادة تجنيس بعضها على إثر التغيرات التي طرأت على مفهوم الأدب ، وفي ضوء زاوية النظر المنطلق منها لمعالجة وتفكيك البنيات الداخلية، وتعليل علائقها بالمؤسسات الاجتماعية والقراءات الممكنة. ويعتبر هذا البحث من الأبحاث القليلة التي قاربت عينات من النصوص السير ذاتية بالمغرب، والتي بإمكانها - بحكم صرامتها وجديتها- أن تثير الحوار والنقاش لتدارك الأسئلة المعلقة والمؤجلة، وتناول مسألة التجنيس في أبعادها المعقدة والمتشابكة، وإعادة الاعتبار إلى نصوص بواسطة المفاهيم والأدوات التي تناسب طبيعتها ووظيفتها.
***
هوامش:
1- صدر هذا الكتاب عن : أفريقيا الشرق، ط1، 2000 (191ص).
2-أنظر إلى تجنيس سعيد يقطين للسيرة الشعبية ضمن الكلام العربي( أو السرد بوصفه الاسم الجامع (الجنس) لمختلف أنواع الكلام):
ا-الكلام والخبر مقدمة للسرد العربي، ط1، المركز الثقافي العربي،1997.
ب- قال الراوي البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، ط1، المركز الثقافي العربي، 1997.
أنظر كذلك إلى العمل الذي أنجزته سوزان روبان سليمان عن عينات من روايات الأطروحة:
Le roman à thèse ou l’autorité fictive ,
PUF, 1983.
3- استند فليب لوجون في تعريفه الأولي للسيرة الذاتية ( 1975،ص14) على معجم لاروس (1866) الذي يعتبرها " حياة شخص اضطلع هو نفسه بكتابتها".
4-PH. Lejeune , Moi aussi, Seiul , 1986, p18.
المصدر