وثيقة تاريخية حول البيئة في الإسلام
*******
التربية البيئية في الإسلام
(الجزء الأول)


كلمـــــة سماحة الشيخ أحمد كفتارو، ورقة العمل الإسلامية التي ناقشها المنتدى العالمي للبيئة والتطور من أجل البقاء الإنساني المنعقد في مـوســكـو - الاتحــاد السـوفيـتي خلال الفترة من 15 - 19 كانون الثاني 1990م
******


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، رب المخلوقات أجمعين، والصلاة والسلام
على جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وبعد:
تشكل بيئة الأرض وحدة متماسكة، أحد عناصرها هو الإنسان، والإنسانُ سيد أحياء بيئة الأرض، خلقه الله في أحسن تقويم، وأودع فيه قدرات عقلية وجسدية، وقابلية التكيف المستمر في سبيل تحقيق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة،وبذلك استحق أن يكون خليفة الله في الأرض، فأوكل إليه مهمة تعمير بيئة الأرض، وإدارة عملية التغيير، وبالمقابل جعله مسؤولاً من خلال تلك القدرات.
إلا أن إرادة الله شاءت أن تتضمن النفس الإنسانية جوانب الخير والشر، فعلى الرغم من قوة العقل وإرادة الخير، فالإنسان كائن ضعيف تغلبه شهوات النفس ورغباتها؛ فتعميه عن الحقيقة، وقد تؤدي به إلى الخروج عن النهج الذي أراده الله، والذي يحقق فيه الانسجام مع قوانين البيئة التي خلقها الله، فيسيء بجهله وشهواته إلى بيئته، وبالتالي إلى نفسه، قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} سورة المؤمنون [ الآية: 71 ]، من أجل هذا كان لابد من قانون إلهي يرسم للإنسان السبيل الذي يبقيه دائماً بانسجام مع الطبيعة وقوانينها الإلهية.

1- لقد بدأ الإسلام بتعريف الإنسان بحقيقته، حتى لا يطغى ولا يسيء إلى نفسه ولا إلى من يحيط به، فطالبه الله بتحقيق مبدأ العبودية فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} سورة الذاريات: [ الآية: 56 ]، فالعبودية تعني الطاعة، والطاعة تعني الالتزام بأمر الله والبعد عما نهى عنه: يقول الله تعالى في القرآن: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها}سورة الشمس: [الآيتان: 9 - 10 ].
كما طالب الإسلام بالصلة الراسخة بالله في السر والعلانية، ووظَّف أسلوب الترغيب والترهيب لضبط السلوك من أجل الوصول إلى الإيمان؛ لأن الإيمان يعني سلوكاً إنسانياً سوياً إيجابياً، ففي حين شجع الإسلام كل ما هو مفيد للبيئة الإنسانية والطبيعية، وضع عقوبات على المسيء للبيئة بكل جوانبها، وبهذا ضبطٌ دائمٌ لسلوك الإنسان نحو الخير والعطاء والتضحية، والبعد عن الإثم والشر، وبالتالي يشكل هذا ركناً من أركان حماية البيئة في الإسلام.
2- والعلم هو المدخل الصحيح للتربية بشكل عام، والتربية البيئية بشكل خاص، لذلك نرى الإسلام قد طالب الإنسان بطلب العلم، من أجل كشف قوانين بيئته الصحيحة، والبيئة الكونية، وجعل ثمرة ذلك، التقرب إلى الله سبحانه، قال تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ}سورة فاطر: [ الآية: 28 ]، وجعل طلب العلم فريضة لابد منها، وأمر الإسلامُ بالعلم دون اعتبار لحدود المكان أو الجنس، وجعل الإسلام العلم يشمل كل فئات الأعمار، ويبدأ منذ الولادة وحتى الوفاة. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجه، كتاب [المقدمة] عن أنس بن مالك، رقم (224).

وقد وجه الإسلام الإنسان نحو العلم النافع، الذي تعود ثماره عليه وعلى بيئته بالخير، ولابد لفاعلية العلم من إعمال العقل وتدبر المعارف، فطالب الإسلام الإنسان أن يُعمل عقله مفكراً متدبراً متأملاً في نفسه وفي ما يحيط به، لذلك كثرت الآيات في القرآن التي انتهت بقوله: {أفلا تعقلون} ذُكر قوله تعالى: {أفلا تعقلون} في مواضع كثيرة، منها في سورة البقرة: [الآية: 44] و[الآية: 76]، وسورة آل عمران: [الآية: 65]، {أفلا يتدبرون} سورة النساء: [الآية: 82]، وسورة محمد: [الآية: 24].

ومن ذلك التوجيه، قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}(سورة الإسراء: [ الآية: 36 ]، كل ذلك من أجل كشف القوانين التي تتحكم بالبيئة الطبيعية وقوانين النفس البشرية، كي لا تقف الأوهام والخرافات عائقاً أمام معرفة الإنسان لحقائق الكون وقوانينه، فيفهم بيئته بكل جوانبها، ويتكيف منسجماً مع نظامها، مما يؤدي إلى حمايتها من الأذى.

3- وبما أن الإسلام يقوم على الواقع المادي والروحي للإنسان في آن واحد، فقد طالبه بتحقيق التوازن بين مكونات نفسه جسماً وعقلاً وروحاً، وأن يعيش لها جميعاً دون تجاوز أو طغيان، وذلك من أجل حماية الإنسان من التطرف والخروج عن القوانين التي تحكم بيئته النفسية، فعندما أراد بعض الصحابة رضي الله عنه الإكثار من الطاعة دون توازن، رفض الإسلام ما دعوا إليه، وحدد مبدأ التوازن بين مكونات النفس الإنسانية، وبيّن لهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (أنه يصوم ويفطر، ويقوم الليل وينام، ويتزوج النساء فمن رغب عن سنته فليس منه) رواه البخاري عن أنس في كتاب [النكاح] ، باب (الترغيب في النكاح)، حديث رقم [ 4776]، ورواه مسلم عن أنس في كتاب [النكاح]، باب (استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه)، حديث رقم [1401]، ونص الحديث: ( أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

4- وفي مجال الحفاظ على توازن البيئة الاجتماعية، فقد حمَّل الإسلام الإنسان المسؤولية أيّاً كان موقعه ومكانته الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري في صحيحه، كتاب [الجمعة]، باب (الجمعة في القرى والمدن) حديث رقم (853) ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وأحمد، عن ابن عمر.
نَظَّمَ الإسلامُ العلاقة بين الفرد والجماعة، فالفرد لا يمكن أن يكون بمعزل عن الآخرين، إنما هو جزء من كل، إنه مسئول عن نفسه ومجتمعه الإنساني، ثم إن من مقتضى المسؤولية التنبيه، وإيقاف أي إساءة من قبل الغير للبيئة الإنسانية؛ لأن تدهور النظام البيئي يهدد البشرية جمعاء؛ سواء الذين ساهموا في أذيّة البيئة، أو الذين لم يساهموا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَنْ فَوْقَهُم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) رواه البخاري في كتاب [الشركة]، باب (هل يقرع في القسمة) حديث رقم (236)، ورواه الترمذي في كتاب [الفتن]، رقم (2174) عن النعمان بن بشير، وبهذا يتحقق مبدأ الرقابة التي تسعى إليها التربية البيئية العالمية.

كما حدّد الإسلام العلاقة الناظمة للأفراد (علاقةَ الإنسان مع والديه، وزوجته، ومع أولاده، وجيرانه وأفراد حيه، ومع بنـي جنسه)، وأقام مبدأ الاحترام والعطف والإحسان مع من يتعامل معهم، وَطوَّرَ العلاقة الإيجابية للفرد من مجتمعه إلى المجتمع الإنساني ككل، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}(سورة الحجرات: [ الآية: 10 ]، وقال أيضاً: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء: [ الآية: 107 ].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب [البر والصلة والآداب]، باب (نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً) ج4/1998-1999 عن النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد في مسنده ج6/378، حديث رقم (18046). وقال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} سورة الحجرات: [الآية: 13].
وقد احترم الإسلام الإنسان لإنسانيته دون النظر إلى عقيدته، وإن العقيدة مردّها إلى الله، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} سورة البقرة: [الآية: 256].
وحَفِظَ للإنسان مقومات إنسانيته وهي: دمه، وماله، وعرضه، وحرم الاعتداء عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) رواه مسلم في صحيحه، كتاب [البر والصلة والآداب]، من حديث مطلعه (المسلم أخو المسلم)، رقم (2564)، والترمذي في سننه كتاب [البر والصلة]. وهناك الكثير من المبادئ والأسس في الإسلام التي تحمي البيئة الإنسانية، وتمنع بالتالي أخطر تدهور للبيئة وأقساها، ألا وهو: تدهور الأخلاق، وانحطاط القيم، وانتشار الرذائل، ولهذا فقد أمر بالعدل والحرية والمساواة والصدق والأمانة، وحارب الظلم وكل أشكال الاستغلال والنفاق والغش والكذب والفساد، وهذا ما تعاني منه البيئة الإنسانية الحالية على مستوى الأفراد والشعوب، قال تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لايحب الفساد}( سورة البقرة: [ الآية: 205 ]. وبمعنى آخر، فقد أحيا الإسلام الضميرَ في وجدان كل مؤمن، وبذلك تتحقق الحياة الكريمة للإنسان.
وفي مجال حماية البيئة الاجتماعية والصحية أيضاً، نظافةُ الطريق وحمايةُ الناس من أي أذى معنوي أو جسدي، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) رواه مسلم في: كتاب [الإيمان]، باب (الإيمان شُعبُه وفضيلة الحياء)، حديث رقم (35)، أي عن طريق الحياة والناس.

كما منع الإسلام تلويث الماء الراكد أو الجاري حتى من قبل الأفراد، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبال في الماء الراكد رواه مسلم كتاب [الطهارة]، باب (النهي عن البول في الماء الراكد).
وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري (أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر [ كنز العمال ج9/353 ].
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، وفي الظل) رواه الطبراني عن معاذ [كنز العمال ج9/365 ].
ومن هذه الشواهد يتضح أن تلويث البيئة والطبيعة والإنسانية أمر خطير في نظر الإسلام، ولو كان على مستوى فردي محدود، كما أمر الإسلام بالحفاظ على الصحة العامة، وحَرَّمَ كُلّ ما يؤذي صحة الفرد؛ العقلية والجسمية والنفسية، فحرّم الخمر والمخدرات، وكُلّ الخبائث، ودعا إلى أكل الطيبات من الرزق، والاهتمام بالنظافة الجسدية، والعنصر الجمالي، قال تعالى: {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}( سورة الأعراف: [ الآية: 31 ].

*******

د. أبو شامة المغربي