" الأخوة كــــــارمازوف "


ظهرت " الأخوة كارمازوف" آخر روايات دوستويفسكي عام 1880 في جو الأزمة الثورية التي كانت تكتنف حياة روسيا في تلك الفترة التي واكبت عمر غروب شمس الإقطاع في روسيا وزوال نظام القنانة وشهدت نهضة كبرى للحركة التحريرية الشعبية. وتكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" أهمية خاصة بين روايات دستويفسكي الأخرى لكونها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي الأخلاقي والفلسفي الديني.

وينقسم عرضنا لهذه الرواية إلى ثلاثة أجزاء: نتناول في الجزء الأول عرضنا لأهم أفكار الرواية وأحداثها، أما الجزء الثاني فسنتناول فيه أهم الشخصيات في الرواية، وفي الجزء الأخير نعرض لأهم الخصائص الفنية "للأخوة كارمازوف".

1- أهم الأحداث والأفكار:

تركزت الأحداث الرئيسية لرواية "الأخوة كارمازوف" حول جريمة قتل الإقطاعي العجوز فيودر كارمازوف التي تثير جريمة قتله حيرة شخصيات الرواية وكذا القارئ. بيد أن دستويفسكي يضلل الجميع حين يجعل أصابع الاتهام تشير نحو الابن الأكبر للإقطاعي وهو ديمتري، فجميع الدلائل والقرائن كانت ضده وتؤكد أنه وحده القاتل: فديمتري يتنازع مع أبيه بخصوص ميراثه عن أمه، والأب والكهل وابنه يتنافسان على حب المرأة اللعوب جروشنكا، ويصل بهما الاصطدام إلى حد العراك واعتداء ديمتري على ابيه بالضرب وتهديده إياه بالقتل أمام الكثيرين، وخلاف ذلك من القرائن التي تجعل الشرطة تجزم بذنب ديمتري وتعتقله بتهمة قتل والده ويساق إلى المحكمة.

بيد أن القاتل الحقيقي للأب كارمازوف والذي يظل مجهولا للشرطة حتى نهاية الرواية يظهر فجأة أنه الخادم والابن غير الشرعي للأب فيودر كارمازوف والمدعو في الرواية سمرد ياكوف، والذي ينتحر شنقا. لكن سمردياكوف قبل أن ينتحر نجده يعترف للابن الأوسط لآل كارمازوف وهو إيفان بجريمته، ولكنه يصرح له في اعترافه بجملة تقلب الأوضاع على أعقابها، حين يقول له: "إن القاتل الرئيسي هو أنت، أنت وحدك! أما أنا فلست إلا مساعد قاتل، معاونا ثانويا، رغم أنني قتلته. أما أنت فإنك القاتل الشرعي..."

ويضيف سمردياكوف عند هذا القول مفسرا بأنه حين قتل الأب فيودر كارمازوف، فإنه قد فعل ذلك بوحي من أفكار إيفان القائلة بأن " كل شيء مباح، فمادام الإله الذي لا نهاية له غير موجود فالفضيلة إذن لا جدوى منها ولا داعي لها".

وهذه الكلمات تذكر القارئ بكلمات شبيهة تردد ذكرها أكثر من مرة في الرواية، الشيء الذي يشجع القارئ على استعادة استيعاب ما قرأه بغية التوصل إلى ما وراء هذه الكلمات التي تبرز كمفتاح لبعض أفكار الرواية. لقد ترددت فكرة إيفان هذه في أكثر من موضع في الرواية، ولعلها ذكرت أول مرة في الجزء من الرواية الذي يحمل العنوان "اجتماع في غير محله"، حين تطرق الحديث في الدير بحضرة الابن الأصغر لآل كارمازوف وهو اليوشا إلى مقال منشور لإيفان يلخص فيه أفكاره التي ترفض وجود الله ووجود الخلود ويؤكد بأنه "لا فضائل بغير إيمان بخلود الروح، كل شيء مباح إذا لم نؤمن بخلود الروح"
إن هذه "الفكرة" التي تذكرنا "بفكرة" رسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" تلعب هنا أيضا في رواية "الأخوة كارمازوف" وكما يبرزها الكاتب دور المحرك الرئيسي لجريمة سمرد ياكوف تلميذ وتابع إيفان. فالجريمة هنا بمثابة تجربة علمية في يدي إيفان لنظرية " كل شيء مباح"..

وعليه فتصوير جريمة القتل هنا، ومثلما في رواية "الجريمة والعقاب" لا يعد هدفا للكاتب في حد ذاته، بل لا يتعدى كونه غلافا تتستر خلفه الأفكار الرئيسية للرواية، والتي سنحاول أن نلخص أهمها:

أولا: جاء اختيار الكاتب لشخصية سمرد ياكوف بالذات كي يكون هو القاتل، جاء مرتبطا برغبة الكاتب في توضيح مفهومي: الإيمان ودوره في حياة الإنسان، والجريمة والظروف.. فمن جهة كانت الملابسات المتعلقة بجريمة قتل الأب تؤكد أن القاتل سيكون الابن الأكبر ديمتري الذي توجه فعلا- وكما روى في التحقيق- وفي نيته قتل أبيه، لكن فجأة حدثت "معجزة" أمسكت ديمتري عن الجريمة، أو كما قال هو نفسه: إن الله قد "حرسه" ويظهر بعد ذلك أن القاتل الحقيقي أي سمرد ياكوف هو شخص بعيد عن الشبهات، وكان هذا الشخص حر الإرادة في تنفيذه للجريمة، ولكن لم تحدث معه "معجزة" شبيهة بتلك التي حدثت مع ديمتري، لأن القاتل ملحد والله "لا يحرس" أمثاله، فالبعث الطيب للروح الإنسانية، كما أبرزه دستويفسكي ممكن فقط في وجود الإيمان وبهذه الفكرة نفسها عارض الكاتب شرطية الجريمة بالظروف المحيطة والبيئة، وأكد بوجود إرادة الإنسان الحرة وتدخل "المعجزات"، والقوى الغيبية عند حدوث الجريمة.

ثانيا: هاجم دستويفسكي بشدة وذلك من خلال العرض التفصيلي للمحاكمات الخاصة بالجريمة والتي انتهت بالحكم ظلما على الابن الأكبر البريء ديمتري بالأشغال الشاقة لمدة عشرين عاما، هاجم الكاتب المحاكم القائمة التي تستند على الأدلة الشكلية، ولا تبحث عن الظروف الخاصة بالمتهم، ولا تأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية والنفسية الظاهرة والخفية التي تتعلق بالجريمة، ورفع الكاتب شعار المحكمة الدينية الكنائسية كبديل للمحاكم السائدة.

ثالثا: أبرز الكاتب دراما مقتل الأب كانعكاس لدراما اجتماعية وفكرية أعمق يعيشها المجتمع الروسي في عصر زوال النظام الإقطاعي النبيل، فدستويفسكي في آخر رواياته لم يكن يهتم بتصوير الموضوعات الخاصة قدر اهتمامه بالظواهر العامة للحياة الاجتماعية المعاصرة وبمصير بلاده.
فمن جهة أبرز الكاتب من خلال حياة آل كارمازوف صورة للحرب المكشوفة الدائرة بين أفراد العائلة النبيلة التي يسودها الكره والأنانية، ويتفاقم فيها العداء إلى حد قتل الأب الذي يرمز مصرعه في الرواية إلى سقوط الركائز القديمة داخل العائلة النبيلة. ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يشير الكاتب في أكثر من مكان في الرواية على نمطية آل كارمازوف، وإلى أن آل كارمازوف هم ظاهرة كاملة في الحياة الاجتماعية. فالكاتب على سبيل المثال يشير على ذلك على لسان وكيل النيابة أثناء التحقيق في الجريمة حين يقول: " ما الذي تمثله في الواقع أسرة كارمازوف هذه التي اكتسبت في روسيا كلها-بين عشية وضحاها-شهرة حزينة كهذه؟ قد تظنون أنني أبالغ كثيرا، ولكني أحسب أن صورة هذه الأسرة تعكس بعض العناصر الإنسانية العامة التي يتسم بها مجتمعنا المثقف المعاصر، صحيح أنها تعكسها مصغرة تصغيرا ميكروسكوبيا "كما تعكس الشمس قطرة ماء"، ولكننا نجد فيها قبسات ذات دلالة".

ومن هذا الشمول تكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" قوة نقدية ضخمة وتبرز كاتهام صريح للواقع الذي أفرز ظاهرة "كارمازوف" وهو ما يشير إليه الكاتب أيضا على لسان الراهب راكيتين ( أهم الشهود في التحقيق )، فدستويفسكي يصف كيف أن راكيتين أثناء التحقيق، قد "صور الدراما التي أدت إلى الجريمة على أنها ثمرة عاداتنا وأخلاقنا المتخلفة، وثمرة نظام القنانة، وثمرة الفوضى التي تسيطر على بلادنا-روسيا- التي تعاني شقاء كبيرا وتفتقر إلى أنظمة لا غنى عنها".
ومن جهة أخرى فقد عكس الكاتب- من خلال تصوير مأساة قتل الأب- دراما الفكر التي كان يعيشها جزء كبير من الشباب الروسي في تلك الآونة، جزء سقطت المقاييس الأخلاقية في نظره ومن وعيه نتيجة تأثره بأفكار شريرة فوضوية تعتقد بأن "كل شيء مباح" وإلى جانب الأفكار التي أشرنا إليها، فإن دوستويفسكي ومن خلال الجدل الفلسفي العنيف، الذي بسطه من خلال شخصيات رواياته قد تطرق للعديد من القضايا الدينية والأخلاقية والفلسفية القومية والعامة، فشخصيات روايته تتجادل حول وجود الله، وطبيعة النفس البشرية وصراع الخير والشر بالإنسان، ومسئولي الإنسان الأخلاقية تجاه آلام المحيطين، والقوى التي تستطيع أن تقود الحياة الاجتماعية وخلافه من الموضوعات، ودستويفسكي حين يتطرق في روايته لهذه الموضوعات فإنه يقابل في الرواية بين فكرين متعارضين ومتجادلين سائدين في غضون تلك الفترة: فكر ديني مسيحي يبشر بالاشتراكية الطوباوية ويرفع شعارات المعاناة الروحي كسبيل للتغيير، وهو الذي يتبناه في الرواية الراهب العجوز زوسيما وأتباعه وعلى رأسهم أليوشا كارمازوف، وفكر آخر مناقض يرفض الدين ويحض على الثورة واستخدام العنف لتغيير الواقع الاجتماعي، ويتبناه في الرواية إيفان كارمازوف والخادم القاتل سمرد ياكوف.
ودستويفسكي حين يرسم سقوط وفشل فكر إيفان الذي انتهى بصاحبه في النهاية إلى الجنون، وأدى إلى انتحار سمرد ياكوف ومصرع الأب، فدستويفسكي بذلك إنما يعبر عن رفضه للفكر الاشتراكي الثوري الجديد الذي كان يتعارض مع وجهة نظر الكاتب الذي يعتقد بأن الطريق إلى التجديد، إنقاذ البشرية ممكن من خلال التصحيح لكل روح إنسانية على حده على شاكلة المسيح، وهو ما كان ينادي به الراهب زوسيما. لهذا السبب نجد دستويفسكي يجعل الفكر الديني المسيحي أساسا للنشاط العملي لأليوشا كارمازوف وكذلك أساس للبعث الروحي الأخلاقي لديمتري كارمازوف وحظيته جروشنكا، ومجموعة "الأولاد" الذي رمز الكاتب بهم على جيل المستقبل.


.
.
.
.
يتبــــع.. (أهـم الشخصيـات)