والموازنة هنا أكثر إقناعا من الموازنة بين الشعراء في القضية السابقة ، حيث يقدم الناقد نصين : أحدهما يمثل الوجه التقليدي للخطابة بكل مظاهر الضعف والتكلف ، والآخر يمثل الوجه المتطور والمتجدد للخطابة ، ورصد ابن حسين سمات التميز وأطلق على هذا الصنيع " الطريقة المدرسية "ومن أهم هذه السمات التي توشحت بها خطابة الإمام محمد بن عبد الوهاب [ وضوح القصد ، قصر الخطبة ، قصر الفِقَر ، السجع غير المتكلف ، وحدة الموضوع غالبا .. إلخ ]
ويضع " الناقد " احتراسا .. وقيدا لهذا التميز .. فهو ليس على الإطلاق أسلوبا وفكراً وصوراً وتأثيراً فيقول : وهي في نظري الخطابة المطابقة لمقتضى الحال إذا ما أخذنا في اعتبارنا نوع ثقافة المجتمع الذي قيلت فيه ، والبيئة الخاصة التي تحيط بالمجتمع ( ص 197 الأدب الحديث في نجد ) .
1- ومن القضايا التي أثارها د / محمد بن حسين .. والتي تعد معلما من معالم خطابه النقدي .. ويثيرها دائما في مجالسه الأدبية ، ومناقشاته للرسائل العلمية ، وأحاديثه الإذاعية .. وهي تتمثل في رصد ملامح الـضعف الأسلوبي ، والتكلف في الكتابة العلمية لبعض العلماء والكتاب ، وينبه الناقد إلى ظاهرة أسلوبية توحي برحابة صدره ، والبعد عن التشدد في تمسكه بقواعد الفصحى وذلك في ضوء القاعدة البلاغية " مراعاة مقتضى الحال " وقاعدة " لكل مقام مقال " .
فيقول : "وقد يعمد بعض العلماء ، إلى ركوب العامية ، في محاولة إيصال الغرض المقصود إلى ذهن المخاطب العامي " وهذه رؤية عصرية لدور اللغة في إقناع الجماهير ورفع مستواهم وعدم تنفيرهم من اللغة ، والحرص على تقديم الخطاب الأدبي والديني والتربوي سهلا يسيرا في أسلوب مشوق مرغِّب .
2- قضية الضعف اللغوي .. وهي من القضايا التي أثارها " ابن حسين " في سياق رصده لفن الكتابة في نجد ، وبحثه عن الأسباب التي أدت إلى هبوط مستوى كتاب نجد .. وعدم تطورهم الفني .
ويرى الناقد أن بعض المؤسسات التي من شأنها أن تكون وسائل قوة وتجديد وتطوير غدت وأصبحت من أسباب ضعف الكتابة وهبوط مستوى الكتاب في نجد ، وهي مصدر ذلك الداء : وهي تتمثل في [ المدرسة ، الصحافة ، المكتبات التجارية " حوانيت الكتب " ، والإذاعة والتليفزيون ... ] لأنه هذه المؤسسات لم تقم بدورها المنشود والمنوط بها ، وهناك عاملان آخران وهما : غلاء الكتاب العربي ، وعدم اشتداد المعارك والخصومات الأدبية التي كانت تنشأ بين كبار الأدباء من أمثال الرافعي والعقاد وطه حسين .
وهذه الرؤية ارتآها الناقد منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما ، وربما تغيرت الظروف الاجتماعية ، والفكرية والثقافية ، ولهذا التغير أثره في تنشيط الحركة الأدبية والثقافية مع التوسع في إنشاء الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة ، وكثرة الصحف والمجلات الثقافية ... ، كل هذه الظواهر يمكـن أن تمثل مخرجا من الأزمة الفكرية العنيفة التي أشار إليها " ابن حسين " في سياق تحليله لظاهرة الضعف الفني واللغوي ، والبحث عن العوامل التي تساعد على الخروج من دائرة التقليد والمحاكاة والضعف .
3- نقد النصوص والموازنة بينها ، وتحليلها في ضوء المنهجين التاريخ والفني .. تحليلا ينبئ عن ذائقة أدبية نقدية متطورة تنبع من التراث ، وتواكب المعاصرة ، وتنزع إلى التجديد في حذر ، وقد عُني ابن حسين بشعر الحـجي عناية خاصة .. وتناول بعض قصائده بالتحليل الموضوعي والفني ، ولكن العناية بالمضمون كانت أوفى من العناية بالتشكيل الفني بكل جوانبه ، ومع ذلك نراه يقوم في بداية هذا التحليل النصي تقويما فنيا مجملا للقصيدة ولكل نتاج الشاعر فيقول : والجميل أنك تقرؤها حتى آخرها فلا تحس بها كلمة قلقة ، أو قافية مضطربة ، فكل كلمة – قافية كانت أو غير قافية – قد استقرت في مكانها هادئة مطمئنة ، شأنها في ذلك شأن جميع شعره ، قصاره وطواله في ذلك سواء . [ ص 150 الأدب الحديث في نجد ] .
4- رصد معالم أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في فنون الأدب الحديث في نجد ، وفي مناطق المملكة الأخرى ، وتقويم إيجابيات هذا الأثر وسلبياته في ضوء الشواهد الدالة على ذلك .
ويؤكد ابن حسين في خطابه الأدبي والنقدي أن أدب الجزيرة له طابع خاص ينبع من تأثير الدعوة الوهابية على الرغم من تأثره بالمذاهب الأدبية الجديدة .. ويصور ذلك قائلا " إن الدعوة سيطرت سيطرة كاملة على موضوعات الأدب منذ نشوئها إلى بعيد منتصف هذا القرن تقريبا ، حيث بدأ التجديد في الموضوعات الأدبية " .
والتأثر بالمدارس الجديدة – كما يقول المؤلف – كان في الموضوع والأسلوب دون الألفاظ وبعض الفكر الممقوتة ، وذلك جانب من جوانب أثر الدعوة في أدبنا في المملكة العربية السعودية ، وهذا الأثر الذي أحدثته الدعوة في الأدب – كما يقـول المـؤلف – أثار كوامـن المشاعر ، ونبه غوافل الخواطر ، وأنطق الشعراء بالشعر الشاعر ، والبيان الساحر ، وفتح لهم آفاقاً يسبح فيها الخيال ، ويتسع المقال ، وأبدى لهم من الروائع .. ما وصلوا به قديم الشعر بحديثه ، وطريفه بتليده ، إلى ما فتحوا به في الشعر من ميادين ، ساووا فيها السابقين ، وبذُّوا فيهـا النـاهضين .
( ص 237 الأدب الحديث في نجد ) .
ومن الشعراء الذين اندمجوا في الدعوة ، وأشادوا بتعاليمهـا الشاعر " أحمد بن مشـرف " وشعره في بعض التجارب كان نظما لتعاليم الدعوة ، وهو أشبه بالمنظومات التعليمية ، ومن هذه التجارب قصيدته " الشهب المرمية على المعطلة والجهمية " ومن الشعراء الذين شاركوا بشعرهم في مسيرة الدعوة " عبد العزيز بن طوق " و " علي بن حسن العـسيري " و " أحمد إبراهيـم الغزاوي " وهو شاعر حجازي و " عبد الله عمر بالخير .
ولم يكتف د / ابن حسين بإظهار أثر الدعوة في الشعر ، ولكنه قدم عدة مقالات يتوج مضامينها بأنفاس الدعوة الإصلاحية التي تتجه إلى إصلاح الواقع الإسلامي في جميع أنحاء العالم .
ولا أدري لماذا أقحم المؤلف عدة قصائد بين المقالات ، ولعله أراد أن يمزج الفنون الأدبية ، ويوحد فيما بينها في سياق إظهار أثر الدعوة في الأدب الحديث .
وأضـاف الناقد مظهراً جديد من مظاهر تأثير الدعوة في الأدب وهو : إثراء المكتبة الأدبية بما دفعته أقلام كل من المـؤيدين لها والنافحين عنها ، والمعاندين والمعارضين لهـا ؛ واندلعـت حـرب كلامية صال فيها وجال كل من الفريقين – ما بين ناثر وناظم – استخدما ما أوتياه من فصاحة لسان وقوة بيان لتجلية ما لكل منهما من حجة وبرهان .
وخير شاهد ختم به د / محمد بن حسين : قصيدة جيدة السبك ، سامقة المعنى ، فخمة اللفظ ، مشرقة الديباجة وهي قصيدة " شموس من التحقيق " للشاعر محمد بن عثيمين ومطلعها :
شموس من التحقيق في طالع السعد تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد
وبعد : فهذه قراءة أولى لمعالم الخطاب النقدي الذي قدمه د / محمد ابن حسين ، وهي ليست قراءة شاملة لكل ما قدمه الرجل ، ولكنها محاولـة لاستكشـاف الخطـوات الأولى للجهـد الذي قدمه هذا العالم الأديب ، والشـاعـر الناقـد الـذي تعامـل مع المنتج الأدبي تعامـلاً مباشـراً ذوقيـا تأثـريا ، ولم يعتمد على النقول الكثيرة ، وقدم رصدا وجهدا طيبا في تجلية بواكير النهضة الأدبية في منطقة نجد مهاد الفصحى ، ومنبع الإبداع العربي الأصيل .

والله الموفق



...............................................

الهوامش والإضاءات – كما وردت بالبحث –

حسب ترتيب الصفحات :

1- انظر : الأدب الحديث في نجد : تأليف الشيخ / محمد بن سعد بن حسين – المدرس بالمعهد العلمي بالرياض – تقديم وتعليق د / عبد السلام سرحان : مطبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة ط 1 1971م ، وقد أفاد أ . د . محمد بن سعد ابن حسين بأنه فرغ من تأليف هذا الكتاب في عام 1373هـ - 1963م .
2- انظر : البحث الأدبي .. د / محمـد بن سعـد بن حسين [ السيرة الذاتية للمؤلف ] ط 1 1422هـ - 2001م دار عبد العزيز آل حسين للنشر والتوزيع .
3- انظر : النقد الأدبي : أصوله ومناهجه : سيد قطب .
4- انظر : مناهج البحث الأدبي بين القدامى والمحدثين / د / صابر عبد الدايم ، ود / محمد داود ط 4 1425هـ - 2004م .
5- انظر : شعراء نجد المعاصرون – عبد الله إدريس ص 201 ط 1 1380هـ - 1960م – النـادي الأدبي بالرياض ط 2 1423هـ - 2002م .
6- حول الرومانسية العربية وخصائصها .. وأتباعها تنظر الكتب الآتية :
أ – ديوان الخليل : تأليف خليل مطران .
ب- خليل مطران : د / محمد مندور ( جـ ) شوقي وحافظ : د / طه حسين .
د - دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه د / محمد عبد المنعم خفاجي .
هـ - الأدب العربي في العصر الحديث بين التقليد والتجديد د / صابر عبد الدايم ( و ) الأدب الحديث في نجد د / محمد بن سعد بن حسين .
7- انظـر : الأدب ومذاهبه د / محمد مندور ص ( 59 – 60 ) .
8- انظر : " الرومانتيكية " د / محمد عنيمي هلال ص ( 5 – 6 ) .
9- انظر : " مقدمة صلاح لبكي لديوان : وحي الحرمان
وانظر التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث : لكاتب البحث [ دراسة من ثمرات الحرمان في شعر الأمير عبد الله الفيصل ]
10- الحركة الأدبية في المملكة العربية السعوديـة ص 463 د / بكري شيخ أمين ط 1 1972م – 1392هـ .
11- انظر : شاهدين للظاهرتين : في رسالتين تمثلان نوعي الكتابة الديوانية ص ( 203 – 205 ) .
12- انظر : نص الرسالة في " الدرر السنية " ص 3 وانظر الأدب الحديث في نجد ص 211 .
13- انظر : الأدب الحديث في نجد ص 212 .
14- انظر الحركـة الأدبيـة في المملكـة العربية السعودية د / بكري شيخ أمين .
15- انظر : الحديث النبوي : " رؤية فنية جمالية " لكاتب البحث : دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر : الإسكندرية 1999م .
16- انظر : الأدب الحديث في نجد ص 200 – 201 د / محمد بن سعد بن حسين .
17- انظر : المناهج النقدية المتعددة في كتاب " مدخل إلى مناهج النقد الأدبي : لمجموعة من المؤلفين " ترجمة د / رضوان ظاظا – عالم المعرفة بالكويت عدد 221 .
وانظر : مجلة فصول " عدد خاص عن : اتجاهات النقد العربي الحديث " .
18- يرجع في هذه القضية إلى " المـرايـا المحـدبة : د / عبد العزيز حمودة – الفصل الرابع " . التفكيك والرقص على الأجناب .
19- انظر : تفسير القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " .
و انظر دراسات في أدب الدعوة الإسلامية د / محمود زيني / مكتبة الخانجي القاهرة .
وانظر لمزيد من التفصيل الكتب الآتية :
1- الزينة لأبي حاتم الرازي .
2- الصاحبي في فقه اللغة لأحمد بن فارس .
3- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي .
4- إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني .
20- انظر : مجلة " المجلة " بالقاهرة عدد نوفمبر 1961 م ، وكتاب " ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة / جلال العشري وكتاب محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة : لكاتب البحث ص 283 – 287 دار المعارف بالقاهرة 1984م .
21- انظر : تفصيل ذلك في " الأدب الحديث في نجد ص 145 – 165 " .
(انتهى البحث)