وهي تعج بالضباب وتختفي شيئاًَ فشيئاًَ وساعة دخول الدنيا في الضحى تنكشف الأستار قليلاً لتظهر قلعة حلب واضحة للعيان وقد استيقظت فيالصباح الباكر لكنّ المدينة ما تزال غافلة والضباب يملؤها ويلتف حول المباني الضخمة لتراها أشبه بمدينة الأشباح
أمعنت النظر في القلعة فتراءى لي القائد العسكريصلاح الدين يطل من أسوارها وتراءت لي جماهير حلب العظيمة يومها والتي أتت لاستقباله وهو يقول اليوم أيقنت أن الله سينصرني على الفرنجة. ما تُراه يقول اليوم صلاحالدين؟
نابليون غاضب هذه الأيام وهو يحرك يده بانفعال من اليمين إلى اليسار و كأنه ملك متجبر أذلته عقبة عسيرة الاحتلال . وكانت العقبة هي القلعة التي ثبتت على الرقعة والملك الغاضب أمامها، لعبة طويلة ليس فيها ( كش ملك ) لأنه ملك فارغ منالداخل عظيم من الخارج كما هو حال جميع الملوك.
أخذ الضباب بالتكاثف أكثرفأكثر.. ساد المدينة بأرجائها الواسعة. كل شخص قد أضاع منزله , لم تكن تستطيع أنترى أكثر من متر واحد أمامك.. وضوء السيارات بالكاد يرى في الشارع، تصطدم بأشخاص كثيرين في المنزل وإن كان منزلك بنوافذ كبيرة سيكون أشبه بفلم من أفلامالرعب. أشخاص غرباء يقتربون من منزلك ينظرون إلى الداخل ثم يهمون بالانصراف.. الباب يفتح في اليوم أكثر من ألف مرة يدخل أحدهم ووجهه مليء بالدماء وثيابه مغبرة ممزقة يلهث قليلاً يتأمل المنزل ثم ينصرف. جرس الهاتف لا يتوقف، التلفاز لا يزاليذيع أخبار الوفيات... كثير من الطيور قد اصطدمت بنوافذ المنزل تحطمت بعضها وامتلأبعضها الآخر بالدماء والريش ...
العديد من الحيوانات تدخل المنزل، لا تعرف كيف دخلت، قد تفاجأ في الصباح بوجود كلب ضخم أسود قابع بجانبك، أو قطة تعبث بشعرزوجتك، أو فأر اندس بين طيات لحافك، والجرذان أصبح منظرها مألوفاً، وإن رأيتهاتتسكع في المنزل لا يثير فيك أكثر من أن تتمنى لو أنك تستطيع قتلها.
الحشراتتملأ المكان أصبح أمراً اعتياداً إن رأيت صرصاراً مقلوباً وأرجله إلى السماء في وسطصحن طعامك فترميه جانباً وتتابع الطعام, كنت أحسب أن الضفادع والقمل ستغزونا أيضاًوستنفجر صنابير المياه بالدماء.
أحسست بالجوع صحت :أمي أنا جائع .. إذ كانتتقفل الثلاجة خوفاً من الحشرات والفئران .. لعلها نائمة .. توجهت إلى المطبخ رأيتمفتاح الثلاجة وما إن فتحتها حتى قفز على وجهي جرذ أسود وخرجت آلاف الحشرات منه .. صرخت عالياً . وركضت . صدمت الباب . وقعت.. أمي .. أبي .. أين أنتم .. رنت نداءاتي في المنزل فتشت المنزل كله لم أر أحداً .. شعرت بخوف عظيم والأبواب تقفل في وجهي . الضباب يملأ المكان يا إلهي ماذا أفعل ؟ خرجت من المنزل أنادي أمي .. أبي .. أينذهبتم ؟ سمعت أناساً كثيرين يصيحون وصوت ضحكات ترن في الضباب .. تعبت بعده . جلستعلى الرصيف . وإذ بصوت أحدهم .. ناديت أبي .. أمي صاح الرجل : من أنت .. أين نحن ؟فأجبته : لا أعرف أنا مثلك قد أضعت الطريق .. احذر من التقدم فالطريق الذي تتوجهإليه مملوء بالرجال الذين يسدون الطريق ثم ظهر أمامي وانهار على الأرض لا حراك بهوالدماء تنزف من كل جسده صرخت عالياً .. وركضت . لا أعرف إلى أين .. أثناء ذلك كنتأسمع كثيراً من الأصوات تستنجد , فتيات تصيح بصـوت ذليل .أصوات تأتي , بيتي سرق , نقـودي , سيـارتي أولادي , شرفي , كان الوضع مخيفاً , وبوجود الضباب الذي هو الجوالمثالي لبعضهم .. كثرت حوادث السيارات . والقتل , والسرقة , والاغتصاب . . . المشافي مليئة بالجرحى . وحامت طيور الموت حول المدينة التي أمست أشبه بمدينة الرعب .
اختفى الضباب بعد ذلك . كانت المدينة كمقبرة جماعية . . كل شيء متكسر .. الدماء في كل مكان الخراب يعم أرجاءها , مناظر مثيرة للرعب , لكن الناس عادوالأعمالهم وكأن شيئاً لم يكن .
بعد ثلاثة أيام حدث أمر آخر إذ ارتفع الغبار وملأ المدينة وكأنه سحابة عظيمة .. فتحت النافذة مجدداً حائراً , من أين أتى كل هذاالغبار ؟ أمعنت النظر في المدينة لعلي أرى سبباً لذلك ... هل يا ترى هي إحدى النساءأرادت أن تنظف بيتها فتركت النوافذ مفتوحة ؟ أم تُراه أحدهم قد ألقى قصيدة في إحدىالأمسيات وهو يسميها شعراً ففعلت ما فعلت ؟ لكني أشك بأحدهم . إذ رأيته يستمع إلى المذياع القديم إلى أخبار القصف على أبناء العراق فارتعدت أوصاله وشهق شهقة مماأخرج كل تلك الأتربة فملأت المدينة .
خرجت إلى شوارع المدينة , كانت ثيابيمملوءة بالغبار كذلك شعري , حواجبي و أنفي , عيناي أحسست بحبيباته بين أسناني , داومت على البصق دون فائدة . كل شيء تراب . حتى داخل المنزل , كيف يدخل لا أعرف , انتابني صـداع فظيع . فقدت أبي , أمي أختي , أصدقائي , معلمي , حبيبتي , كلهم اختفوا.. تذكرت مشهداً في أحد المسلسلات , كان كبير القرية يمسك برأس أحد الفلاحين ويضعه في التراب أمام الجمع الغفير , وها أنا الآن أنظف أنفي من أكوام التراب التي فيهوأشعر بشيء حاد يحرقني و لعل كل هذه المدينة تشعر بنفس الشعور .
شاهدت فتاتينتمشيان في الشارع وهما تأكلان البوظة , لمحت شاباً سحب الكيس الذي تحمله إحداهما وركض سريعاً , صرخت الفتاة وطمرت رأسها في صدر رفيقتها التي حضنتها بيديها , نظرتإلى الشاب وللحظة فكرت أن ألحق به , لكن بينما أنا أتابع التفكير كان قد اجتازعشرات الأمتار , رميت بنظري إلى الفتاة الباكية ورفيقتها تهدّئ من روعها وتابعت المسير .. أحسست بشعور غريب , بخفة ملأت جوفي , من هذا الذي يمشي , من أنا , ومنأين أتى هذا الشعور , هو نفس الشعور الذي أحسست به في رمضان الفائت حين رفض سائقالحافلة صعود رجل عجوز إلى حافلته لأنه يحمل أغراضاً كثيرة واكتفيت ومن كان فيالحافلة بتحريك رؤوسنا , وهو نفس الشعور حين رأيت ثلاثة من الرجال يركلون كيساًكبيراً اتضح فيما بعد أنه شاب مسكين واكتفيت أنا وأصدقائي بزم شفاهنا . وهو نفس الشعور حين علا صوت فتاة في شارع بارون بينما أحدهم يقترب منها ورائحة الخمر تفوح منه ولا أحد يساند هذه الفتاة وسمعت صوت أحدهم يقول بعد أن أمسك شرطي المروربالسكير: اتركوه، ما خربت الدنيا! وآخر: كل الحق عليها، "ليش تطلع بهذا المنظر؟ "وهو نفس الشعور حين صدمت سيارة مجنونة طفلاً وهربت السيارة تتجنبه ولميحاول أحدهم حمله إلى المشفى خشية الوقوع في مشكلة لها أول وليس لها آخر، مكتفينبالقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! الحق عليه" ليش بيعبر الشارع المزدحم؟ "إلى أن هدأت أنفاس الطفل واستكانت.
خفيفاً كنت أسير. أحسست بأني أبتعد عن الأرض، يالهذه الخفة، أين الجاذبية، نيوتن يقول إن الجاذبية هي التي تشدنا إلى الأرض، أولا تجذبني إلى الأرض الآن؟ يا للخفة، وبدأت قدماي تبتعدان عن الأرض، كانت القلعة أمامي بجدارها الزماني العتيق وأنا أحلق فوقها، وما إن أصبحت فوق السور حتى وجـدت أبي، وأمي وأخي وأصدقـائي، ومعلمي داخلها، وشاهدت نفسـي بينهـم، كانـوا يلـوحون لي، كنت قاب قوسين أو أدنى منهم , وما إن لوحت لهم حتى سقطت أرضاً وقفت ونفضت كلالأتربة وركضت أجوب الشوارع بخطوات قوية وأنا أصيح: كذب نيوتن .. كذب نيوتن.. نظرت إلى سـاعة يدي، كانت ما تزال تشير إلى الواحدة ليلاً .
+++