1 - إنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً

قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين وَفَدَ عليه عَمْرو بن الأهتموالزِّبْرِقَانُ بن بدر وقَيْسُ بن عاصم، فسأل عليه الصلاة والسلام عمرَو بن الأهتمعن الزِّبْرِقان، فقال عمرو‏:‏ مُطَاع في أَدْنَيْه ‏(‏هكذا في جميع أصول هذاالكتاب، والأدنون‏:‏ جمع الأدنى بمعنى الأقرب، ووقع في بعض الأمهات ‏"‏مطاع فيأذينه‏"‏ والأذين - بوزن الأمير - النداء، يعني أنه إذا نادى قومه لحرب أو نحوهاأطاعوه‏)‏ شدِيدُ العارِضة، مانعٌ لما وَرَاء ظهره، فقال الزبرقان‏:‏ يا رسول اللّهإنه لَيَعْلَم مني أكثَرَ من هذا، ولكنه حَسَدني، فقال عمرو‏:‏ أما واللّه إنهلَزَمِرُ المروءة، ضَيّق العَطَن، أحمق الوالد، لئيم الخال، واللّه يا رسول اللّهما كَذَبْتُ في الأولى، ولقد صدقْتُ في الأخرى، ولكني رجل رَضِيت فقلت أحسنَ ماعلمت، وسَخِطْتُ فقلت أقبحَ ما وجدت، فقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏إنَّ مِنَالْبَيَانِ لَسِحْراً‏"‏ يعني أن بعض البيان يعمل عمل السحر، ومعنى السحر‏:‏ إظهارالباطل في صورة الحق، والبيانُ‏:‏ اجتماعُ الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب معاللسَنِ‏.‏ وإنما شُبِّه بالسحر لحدَّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له‏.‏

يضرب في استحسان المنطق وإيراد الحجَّة البالغة‏.‏


2- إنَّ المُنْبَتَّ لاَ أرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أبْقَى‏.‏

المنبتُّ‏:‏ المنقطع عن أصحابه في السفَر، والظَّهْرُ‏:‏ الدابة‏.‏

قاله عليه الصلاة والسلام لرجل اجتَهَد في العبادة حتى هَجَمتعيناه‏:‏ أي غارَتَا، فلما رآه قال له ‏"‏إنَّ هذَا الدينَ مَتِينٌ فأوْغِلْ فيهبِرِفْقٍ، إنَّ المُنْبَتَّ‏"‏ أي الذي يجدُّ في سيره حتى ينبتَّ أخيراً، سماه بماتؤول إليه عاقبتُه كقوله تعالى‏{‏إنَّكَ مَيِّت وإنهم ميتون‏}‏‏.‏

يضرب لمن يُبالغ في طلب الشيء، ويُفْرِط حتى ربما يُفَوِّته علىنفسه‏.‏ ‏[‏ص 8‏]‏

3- إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْيُلِمُّ‏.‏

قاله عليه الصلاة والسلام في صفة الدنيا والحثِّ على قلة الأخذمنها‏.‏

والْحَبَطُ‏:‏ انتفاخُ البطن، وهو أن تأكل الإبلُ الذُّرَقَ فتنتفخبطونها إذا أكثرت منه، ونصب ‏"‏حَبَطاً‏"‏ على التمييز، وقوله ‏"‏أو يلم‏"‏ معناهيقتل أو يَقْرُبُ من القتل، والإلمام‏:‏ النزولُ، والإلمام‏:‏ القرب، ومنه الحديثفي صفة أهل الجنة ‏"‏لولا أنه شيء قضاه اللّه لألم أن يذهب بصرهُ لما يرى فيها‏"‏أي لقَرُبَ أن يذهب بصره‏.‏

قال الأزهري‏:‏ هذا الخبر - يعني إن مما ينبت - إذا بُتر لم يكديُفْهَم، وأوّلُ الحديث ‏"‏إني أخَافُ عليكم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرةالدنيا وزينتها‏"‏ فقال رجل‏:‏ أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه‏؟‏ فقالعليه الصلاة والسلام ‏"‏إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ مايقتل حَبَطا أو يلم، إلا آكلة الْخَضِرِ فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْخَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلطَتْ وَبَالَتْ ثم رَتَعَتْ‏"‏‏(‏في جميع أصول هذا الكتاب ‏"‏ثم رتعته‏"‏ والفعل لازم‏)‏ هذا تمام الحديث‏.‏

قال‏:‏ وفي هذا الحديث مثلان‏:‏ أحدهما للمُفْرِطِ في جمع الدنياوفي منعها من حقها، والآخر للمقتصد في أخْذِها والانتفاع بها، فأمّا قولُه ‏"‏وإنمما ينبت الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلمُّ‏"‏ فهو مثل المُفْرِط الذي يأخذها بغيرحق، وذلك أن الربيعَ يُنْبِتُ أحْرَار العُشْب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخَبطونُها إذا جاوزَتْ حدَّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا منغير حِلِّها ويمنع ذا الحق حقَّه يهلك في الآخرة بدخوله النار‏.‏ وأما مَثَلُالمتقصد فقوله صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏إلا آكلة الْخَضِر‏"‏ بما وصفها به، وذلك أنالْخَضِرَ ليست من أحرار البقول التي يُنْبتها الربيع، ولكنها من الْجَنْبَة التيترعاها المواشي بعد هَيْج البقول، فضرب صلى اللّه عليه وسلم آكلةَ الخضِر منالمواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجَمْعها، ولا يَحْمله الحرصُ على أخذهابغير حقها، فهو ينجو من وَبَالها كما نَجَتْ آكلةُ الخضِر، ألا تراه قال عليهالصلاة والسلام ‏"‏ فإنها إذا أصابَتْ من الْخَضِرِ استقبلت عينَ الشمس فَثَلَطَتْوبالت‏"‏ أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلةَ الشمس تستمرىء بذلك ما أكَلَتْوتجترُّ وتَثْلِط، فإذا ثَلَطته فقد زال عنها الْحَبَط، ‏[‏ص 9‏]‏ وإنما تَحْبَطُالماشيةُ لأنها لا تثلِطُ ولا تبول‏.‏ يضرب في النهي عن الإفراط‏.‏