النُّحاسُ هو الدخان، أو الدخان الذي لا لهب له.



النُّحاسُ: ما سَقَطَ من شَرَارِ الصُّفْرِ أو الحَديد إذا ضُرِبَ بالمِطْرَقَةِ، قال النابغة الذُبْيَانيّ:



كأنَّ شُوَاظَهُنَّ بِجانِبَيْهِ نُحَاسُ
الصُّفْرِ تَضْربُهُ القُيُوْنُ[36]



وفي مسائل نافع بن الأزرق[37]: "قال لابن عباس: أخبرني عن قولِه تعالى: ï´؟ ونحاس ï´¾ [الرحمن:35]؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب فيه. قالَ: وهل تعرف العربُ ذلكَ؟ قال: نعم، أما سمعتَ قول الشاعرِ:



يضيءُ كضوء سراج السلي
طِ لم يجعل الله فيه نحاسا".


فهل ما هو معروفٌ علميّاً من أمر الشهب ينعكس في هذه المعاني؟

نعم، إن ما هو معروفٌ علميّاً من أمر الشهب ينعكس في هذه المعاني؛ إذ إن قسماً من أيونات الأيونوسفير هو فعلاً من عنصر النحاس، وأيونات الأيونوسفير نفسها هي جزء من بلازما الأيونوسفير، والبلازما في لغة الفيزياء هي غازٌ من جسيمات ذات شحناتٍ كهربائيّة، أي هو دخان مكهرب. ودقائق أو جسيمات البلازما plasma هي الأيونات ions، والأيونات هي بمثابة شرار المعادن.



وأمَّا بالنسبةِ للنِّحاس (بكسر النون) فقد ذهب بعضهم إلى أنها لغة أخرى في النُّحاسِ، أي لها المعاني أنفُسُها. وذهب بعضُهم إلى أن النِّحاس هو دخانُ النُّحاسِ. ولكنّ هناك مجالاً لاعتبار أن النِّحاسَ هي جمعٌ لكلمة النَّحْسِ. فما هي معاني كلمةِ النَّحس التي جمعُها هو النِّحاسُ، وبحيث تحتملها الآية الكريمة؟



النَّحسُ هو الشيء المظلم.



النَّحسُ هو الغبار.



فهل نجد انعكاساً لهذيْنِ المعنييْنِ في ما يجري من نشاطات مرتبطة بالشهب؟

نعم، نجد ذلك؛ إذ إن الأيونوسفير معرّضٌ باستمرار لأشعة مظلمة من نوع أشعة جاما gamma rays، والأشعة السينية X-rays، والأشعة فوق البنفسجيّة ultraviolet rays، وهذه الأشعة بأنواعها الثلاثة مؤذيةٌ وضارّةٌ. وفوق تعرُّضِ الأيونوسفير الدائم لهذه الأشعة من مصادر مختلفة، وبخاصة من الشمس، فإنه أيضاَ مؤهلٌ لتوليدها. وفوق هذا، فإن الأشعة الحراريّةَ هي أمواج تحت حمراء لا تراها العيون الإنسانيّة المجرّدة. وأمّا النَّحس بمعنى الغبارِ فإن له واقعاً حقيقيّاً في النشاط الشهابيِّ؛ إذ إن نسبةً من الشهب ناتجةٌ عن مستشهبات دقيقة قادمة من غبارِ أذيال المذنبات، أو غبار ما بين الكواكب interplanetary dust. ونهاية المستشهب الهاوي هي التحول إلى رماد وغبارٍ.



وباختصارٍ، ولو على شيءٍ من تكرارٍ، فإنَّ أيَّ جسم صاعد من الأرض يحاول النفاذ من خلال الأيونوسفير, وبخاصة من E-layer التي فيها فوارق جهد كهربائيّ وتيّارات شديدة، فإنه يكون عرضة للوقوع في مجال تيّارات القصر المزامنة والحادثة بسبب تساقط الرجوم الدقيقة، أو لأسباب من التوتّرات الكهربائيّة المحليّة، أو أنه بملامسته لتلك الطبقة contact يؤدّي إلى حدوث قصْرٍ لدوائر كهربائيّة: ï´؟ وأنّا لمسنا السماءَ فوجدناها مُلئتْ حَرَساً شديداً وشُهُباً ï´¾ مما ينتج عنه تفريغات كهربائيّة تصيبه، أي يُرسَلُ عليه الشهاب إرسالا، أي يجد له شهاباً رصَداً: "فأتبعه شهاب ثاقب". ولا ريْبَ أن التيّار الكهربائيّ الناتج عن الماس contact هو إلكترونات تحمل طاقة حراريّةً ، تحمل ناراً، بل وإنه يحمل أيضاً أيونات، وما الأيونات إلاّ شرر مكهرب، فهما معاً "شواظ من نار ونحاس". وكلاهما ثاقب بمعنىً حراريّ، ومعنىً نفاذيّ اختراقيٍّ.



"فمَنْ يستمعِ الآنَ يجدْ له شهاباً رصداً"

كلمة "رصَد" هي على وزنِ "فَعَل"، وبذلك تحتمل أن تجيءَ مقصوداً بها:

1- المصدر من الفعل رصَدَ.



2- اسم المفعول من الفعل رصَدَ، وذلك كما يُقالُ النفَضُ بدلاً من المنفوض، والخبَطُ بدلاً من المخبوط، والجلَبُ بدلاً من المجلوب، والسلَبُ بدلاً من المسلوب.



3- الجمع للراصد. وذلك كما يُقالُ: حرَسٌ، في جمع حارسٍ.



4- الجمع للرصيد بمعنى: المرصود؛ إذ إن وزن فعيل قد يأتي بمعنى مفعول، مثل جريح ومجروح، وحبيب ومحبوب, ورقيم ومرقوم.



ولمّا كان المذكور شهاباً واحداً وليسَ شُهباً، فإن "رصَداً" في الآية لا تكون مقصودة للجمع، وبذلك يتمُّ إقصاء الاحتماليْن الأخيريْن، ويبقى أنَّ المقصود بها:



1- إمّا المصدر من الفعل رصدَ. وفي هذه الحالة يكون إعرابها أنها منصوبة على المصدريّة أي أنها نائب مفعول مطلق، والتقدير هو : (يجد له شهاباً قد رُصِد رصَداً).



2- وإمّا اسم المفعول من الفعل رصدَ. وفي هذه الحالة فإن "رصداً" صفة للشهاب، ويكون نصبُها على أنها نعت لمنصوب هو "شهاباً".



إن استعراض معاني الفعل رصد ومشتقاته في أمهات المعاجم، وبخاصة في "لسان العرب"، وفي ظل الاستئناس بثقات المفسرين كالقرطبي والفخر الرازي، يوقفنا على أن "رصداً" في الآية الكريمة تعانق عدداً منها ، ألا وهي: المراقبة، والانتظار، والكمون، والإعداد المسبق، والاستعداد للانقضاض أو الجاهزيّة للانطلاق، والحفظُ أو الحراسة[38].



وعل كلِّ حالٍ، فهناك ثلاثة احتمالات لتفسير المقصود من الشهاب الرصد في ظلِّ اللمسات الجيوفيزيائيّة:



(1) أن يكون الجنيّ أو الإنسيّ أو ما يحملهما، مما علمناه أو مما جهلناه، مثيراً للتفريغات الكهربائيّة؛ وبخاصة أن في الأيونوسفير فوارق جهد كهربائي كامنة potential.



(2) أو أن يكون الجنيّ أو الإنسيُّ أو ما يحملهما، مما علمناه أو مما جهلناه، قد وقع في موقعٍ من الأيونوسفير تجري فيه التفريغات الكهربائيّة.



(3) أو أن يكون الجنيّ أو الإنسيّ أو ما يحملهما، مما علمناه أو جهلناه، مسبّباً لهُويِّ مستشهبٍ من مداره في الأيونوسفير، سواء تسبّب بالهُويِّ له بالتجاذب الكتليِّ، أو بالتجاذب الكهربائيِّ، أو بكليْهما.



ومن السائد في المعرفة العلميّة التقليديّة، وفي مألوف الناس، أن جميع الشهب أجسام هاوية منقضّة بشكل خاطف، أي أنه بناء على هذه المعرفة ما من شهاب إلاّ وهو مرتبط بمستشهب ساقط في الجوِّ العلويِّ. فهل هناك شهب من مصدر جيوفيزيائيّ أي غير مرتبطة بأجسامٍ هاويةٍ، أي هل يولّد الأيونوسفير نفسُه شعلاً ناريّةً؟



نعم، فإن الأيونوسفير بما فيه من تيّارات كهربائيّة، وفوارق جهد كامنة، مؤهل للتفريغات الكهربائيّة التي ينشأ عنها شُعلٌ ناريّة. وما الشهاب في أصل مدلوله إلا شعلة ناريّة ساطعة. ويُسمّونَ مثل هذه التفريغات الكهربائيّة المنتجة للشهب من غير إثارةٍ من أي جسم صاعدٍ في الأيونوسفير أو هابط فيه – يسمّونها: الشهب الجيوفيزيائيّةَ geophysical meteors أو الغير مستشهبيّةٍ non-meteoroidal meteors[39].



ولو جازَ لنا أن نقرأَ شُهباً بدلاً من "شهاباً"، وأخذنا "رَصَداً" جمعاً لرَصودٍ، والرَّصود هي الناقة التي ترقب شرب أخواتها لتشرب من بعدها، فإن الشهاب يكون رصوداً، فكيف ذلك؟ .. والجواب هو كأن الشهاب يرقب فعل القذف في الجنيّ، فإذا لم ينطرد الجنيُّ بالقذف مدحوراً، وتمادى محاولاً النفاذ للاستراق، فعندها ينقضّ عليه الشهاب: "فأتبعه شهاب ثاقب"، أو يُرسلُ عليه شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ. وكذلك فالرصَد هو المطر يأتي بعد المطر. وبما أنَّ نزول المطر مرتبط بالبروق، بالتفريغات الكهربائيّة، فيكون وصف الشهاب أو الشهب بالرصَدِ هو تشبيهاً لها بالمطر، أي إن إرسالَها مرتبط بالتفريغات الكهربائيّة، وأنه يصاحبها سلسلة متتابعة من هذه التفريغات.



والرصيد وهو الحيوان المفترس الكامن المترقّب المستعدّ للوثب على الفريسة، سواء كان ثعباناً أو أسداً أو غير ذلك، فإنه لا يثب ولا يقفز عليها إلا بعد أن تقع منه في مجالٍ من بعدٍ معيّنٍ، وإلاّ بعد أن يضمن لنفسه سرعة حركة معيّنة من خلال استجماع قوّة عضلاته واستقطاب طاقته. وكذلك فالشهاب، سواء كان من أصلٍ كونيٍّ أو من نشاطٍ جيوفيزيائيٍّ، لا ينطلق إلّا بشروط وظروف معيّنة. فأمّا الشهاب من أصلٍ كونيٍّ، وهو الناتج عن انقضاض مستشهب، فلا بدَّ أن يدخل في نطاق الجاذبيّةِ الأرضيّة وبسرعة لا تقل عن 11.2كم/ث. وأمّا بالنسبة للشهاب الجيوفيزيائيّ، فلا بدَّ أن يكون هناك فرق جهد لا يقلّ عن مقدار معيّن تحدّده إيصاليّة موضع الانطلاق في الأيونوسفير، وما يجري فيها من توتّرات واضطّرابات. وفوارق الجهد تنتج في العادة من استجماع الشحنات واستقطابها.



"فأتبَعَهُ شهابٌ ثاقبٌ"

إن الثاقب هو اسم الفاعل من الفعل "ثقب". واعتماداً على ما جاء في أمّهات المعاجم[40]، فإن الفعل "ثقب" يأتي لعدد من المعاني نختار منها هنا ما يمكن أن يكون له علاقة بظاهرة الشهب، ونبيّن كيف ينسجم كلُّ معنىً منها مع الحقائق العلميّة المعروفة عن الشهب ذاتها.



ثقب الطائرُ: ارتفع في جو السماء. وعلى هذا فالثاقب يمكن أن تأتي وصفاً لما هو مرتفع في جوِّ السماء. والشهاب يحدث في الجوِّ العلويّ المعروف باسم: الأيونوسفير. وبهذا المعنى للثاقب يكون القرآن الكريم قد قرّر حقيقةَ أن الشهاب ظاهرة جويّة، لا أنه ضياء قادم من فضاء الكون. ومن الجدير بالذكر أن كلمة meteor التي يترجمونها بشهاب، هي من أصل يونانيّ معناه المرتفع في الجوّ[41].



ثقبَ الزندُ: قدح، أخرج شرراً. وعلى هذا، فالثاقب هو القادح، هو ما يُخرج شرراً. والزند يوري بالاحتكاك، ومن المعروف أن انطلاق الشرر يصاحب انقضاض الشهاب. وكذلك فإن الشهاب يتوهج ويتأيّن بالاحتكاك. وطبقاً لهذا، فإن القرآن العظيم يكون قد أشار إلى علاقة الشهب بالاحتكاك.



ثقب الرأيُ: نفذ، أي خرج في اتجاه المراد أو نحو الهدف. ومن هنا، فالنافذ قد تأتي وصفاً للشيء الذي يمضي نحو هدف؛ والشهاب المرسل في إتباع الشيطان قد لا يخطئه، فهو عندئذ شهاب نافذ.



ثقبتِ الرائحةُ: سطعت وهاجت، أي انتشرت وتشعّعت. وعلى هذا، فإن الثاقب يمكن أن تأتي وصفاً للشيء الذي ينتشر. ودخان الذيل هو على حساب انتشار ما يتبخر ويتأين من جسم المستشهب. وانتشار الرائحة من جسم، يتم عادة بالتسخين أو بالفرك والحكّ. وكذلك فإن ذيل الشهاب هو دلالة على أن المستشهب يسخن ويتعرّض للفرك والاحتكاك.



ثقبتِ النار ثُقوباً وثقابةً: اتّقدت. وبناء على هذا، فالثاقب هو المتّقد. إن المستشهب في الأصل، قبل الهويِّ والانقضاض، لا يكون متّقداً ولا منيراً، ولكن يتّقد ويتوهّج وينير أثناء الانقضاض، أي إن هويَّ الشهاب مصحوب باتّقاده، وبتوليد ضياء وحرارة.



ثقبْتُ النارَ: ذكّيتها وسعّرتها؛ فالثاقب هو ما يذكّي ويسعّر النارَ ومصادرَ الحرارة.



يوجد في الأيونوسفير تفريغات حادثة باستمرار تُصدر الضوء والحرارة. والمستشهب فعلاً يذكّيها ويسعّرها بما يزودها به من الأيونات التي تزيد الإيصاليّة التي تؤثر في تقوية هذه التفريغات، وأيضاً يذكّيها ويسعّرُها بما يحدثه من تفريغات قويّةٍ جديدة.



ثقبَ: اخترق، أحدث ثقباً، جعل في الشيء منفذاً، خرق خرقاً نافذاً. والشهاب مرتبط بالتفريغات الكهربائيّة، وهذه التفريغات تؤدّي إلى تفليقات في الأيونوسفير، أي ينتج عنها خُروق عابرة. وكذلك فإن للشهاب نفسه أو لما ينبثق منه من الشظايا والأيونات قدرةً على النفاذ والاختراق، وهذه الحال قد أجبرت العلماء على تدريع المراكب الفضائيّة، وتحصين روّاد الفضاء، وحماية الأجهزة في الأقمار الصناعيّة بألواح معدنيّة سميكة منعاً لاختراق ونفاذ الأشعّة إلى داخلها.



ثقب الكوكبُ: أضاء؛ فالثاقب هو المضيء. والشهاب فعلاً يضيء، إذ إن ما يتبخر ويتأيّن من تركيب ومكوّنات المستشهب بسبب توهجه بالاحتكاك والضغط الكبسيِّ، يخضع للتفريغات الكهربائيّة، ويُصدر أمواجاً ضوئيّةً وحراريّةً. ولهذا فتركيب الشهاب ذو أهميّةٍ في اللون الذي يظهر به.



ثاقب: ذو ثَقوب أو ذو ثِقاب (مثل تامر ومثل لابن)، والثقوب أو الثِّقاب هو الحُراقُ، أي هو دقاق العيدان التي بها تُستَوْقد النار، ولا ريْبَ أنه بالمستشهبات وبالفلق التي تتشظّى منها نزولاً بكتلتها إلى مستوى الأيونات وحتّى الإلكترونات، يمكن أن يُستوقدَ الأيونوسفير فيضيءَ بالشهبِ، ولو على تفرّقٍ وتقطعٍ وتباعدٍ.



الشهب بين سورة الجن وسورة الرحمن:

قد جاء في سورة الجنِّ: ï´؟ وأنّا لَمسْنا السماءَ فوجدناها مُلئتْ حَرَساً شديداً وشُهُباً (8) وأنّا كنّا نقعدُ منها مقاعدَ للسمعِ فمَنْ يستمعِ الآنَ يجدْ له شهاباً رَصَداً (9) ï´¾.



هذا القول لا يعني أن الشهب تنطلق فقط في إتباع الجن؛ لم يقولوا: (فوجدنا فيها)؛ لأنها موجودة من قبل، ولكنهم وجدوها ممتلئة، بل يعني أنها تنطلق أيضاً بشكل طبيعيٍّ دون أن يكون هناك لامس من الجن أو الإنس. إن ما وجدوه في ذلك الحدث هو الامتلاء بالحرس الشديد والشهب، وهذا يعني أنهم من قبل كانوا يجدونها، ولكن دون أن يكون هناك امتلاء منها. الامتلاء لم يُبقِ لهم نوافذ، ولم يبق لهم مقاعد للسمع، فحيثما توجهوا حينئذ وجدوا لهم شهباً مُرصَدة. والظرف "الآن" مرتبط بزمان حديثهم، ولا يعني الاستمرارَ على حال من الامتلاء بها، أي هو لا يعني استمرار الامتلاء منها؛ إذ إن الشهب حفظ للسماء من قبْلِ لمسهم ذاك ومن بعده، ومنذ خلق الله السماوات والأرضَ في ستة أيامٍ: ï´؟ فقضاهنَّ سبعَ سماواتٍ في يوميْنِ وأوْحى في كلِّ سماءٍ أمرَها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيحَ وحفظاً ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ ï´¾ [فصلت: 12].



"وأنّا كنّا نقعدُ مِنْها مقاعدَ للسّمعِ" يعني أنها لم تكن مليئة.



والرجوم للحفظ، وهي من أمر السماء الدنيا منذ خلقها الله تعالى.



وقد جاء في سورة الرحمن: ï´؟ يا مَعشرَ الجنِّ والإنسِ إنِ استطعتم أن تنفُذوا من أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذوا لا تنفُذونَ إلّا بسُلطانٍ (33) فبأيِّ ربِّكما تُكذّبانِ (34) يُرسَلُ عليكما شُواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصرانِ (35) ï´¾.



إن الجسم الصاعد من الأرض والمحاول للنفاذ من الأيونوسفير يكتسب من حوله غيمةً من الأيونات، غيمة بلازميّة، فيشكل قطبيًّةً كهربائيّةً[42] فيتم بذلك إثارة تفريغ كهربائيٍّ باتجاه ذلك الجسم نفسه مولِّداً ضياءً برقيّاً ساطعاً، أي يسري تيّار دائرة القصر فيه ثاقباً وقاذفاً له بالإلكترونات حاملة النار (الطاقة الحراريّة) وبالبروتونات وبالأيونات الموجبة الساخنة التي كأنها دخانٌ حارٌّ، وقد تحدث فيه في آنٍ واحد مجموعة من التفريغات فينقذف بالإلكترونات والأيونات من جميع الاتجاهات، أي من كلِّ جانب.



وإذا كانت السماء مملوءة بالمستشهبات فإنه من الممكن أن يكون الجسم الصاعد يحمل قطبيّةً كهربائيّة بحيث يقع في مجاله الكهربائيّ مستشهبٌ له قطبيّة كهربائيّة مخالفة فيتم حينئذٍ سريان تيّار بينهما صانعاً تفريغاً مبرقاً، وبالأحرى صانعاً سلسلة خاطفة من التفريغات المبرقة، ولا بدّ أن للجسم الصاعد قدرةً جذبيّةً تفعل فعلها في جعل المستشهب يتحرك هاوياً. وقد تكون المستشهبات في مداراتها في الأيونوسفير من الكثرة بحيث لا يفلت منها، أي من الانقذاف ببعضها، أيُّ جسم يحاول النفاذ، أي لا بدَّ أن يصادفه ولو واحد منها، وكأن هناك شهاباً مُرصَداً له، وإن أفلت الجسم المحاول للنفاذ نظراً لسرعته مندحراً إلى حيث أتى، فإنه ستزداد قوة قطبيّته بفعل شدة الاحتكاك فتتعزّز غيمة الأيونات التي تحيط به وتقوى قطبيّتها وجاذبيّتها، وبالتالي، تتعزّز إيصاليّته بحيث تصبح قطبيّته بجاذبيّتها قادرةً على تحريك مستشهب له قطبيُّة مخالفة بحيث يهوي الأخير بقوةٍ مُتْبِعاً له مع حدوث التفريغات الثاقبة المبرقة على طول خطِّ الإتْباع. والإتباع لا يحتّم الإدراك أو الإمساك: "فأتْبعوهم مُشرقينَ. فلمّا تراءى الجمعانِ قالَ أصحابُ موسى إنّا لَمدرَكونَ. قال: ï´؟ كلّا إنَّ معيَ ربي سيهدينِ ï´¾ [الشعراء: 60-62]، وفي سورة طه: ï´؟ ولقد أوحيْنا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضربْ لهمْ طريقاً في البحرِ يَبَساً لا تخافُ دَرَكاً ولا تخشى * فأتْبَعهم فرعونُ بجنودِهِ فغشيَهمْ من اليمِّ ما غشيَهمْ ï´¾ [77-78].




أسباق علمية في حديث القرآن عن الشهب:

يرى هذا البحث أن في حديث القرآن عن الشهب عدداً من الأسباق العلمية تتمثّل في إخبارات عن حقائق لم تقف العلوم عندها ولم تكشفها إلاّ حديثاً. ومن تلك الأسباق:



1) حددت الآيات الكريمة أن هناك طبَقاً من السماء، هو السماء الدنيا، تحدث فيه الشهب على مدار الساعة، وأن فيه نفسه مصابيح، مصادر ضياء، على مدار الساعة أيضاً، أي إنه حيث تنطلق الشهب في السماء فإنه يوجد أيضاً في ذلك الفضاء نفسه، على تلك الارتفاعات أنفسها، يوجد مصادر ضياء، أي يوجد تركيبات وآليّات mechanisms تنتج أمواج الضوء. وقد حدد الجيوفيزيائيّون أن الشهب تنطلق في الأيونوسفير، وبخاصة في طبقة أو منطقة E-layer. فهل تَبيّنَ أنه يوجد في حيّز الأيونوسفير، وبخاصّة في طبقة أو منطقة E-layer أيضاً مصادر ضياء على مدار الساعة؟



نعم، هذا هو الواقع بعينه، فهناك في الأيونوسفير وهج الجو airglow الحادث على مدار الساعة، وهناك الإهليلجان الأورريان auroral ovals المضيئان على مدار الساعة، إذ لكل إهليلج منهما قسم ليليّ وقسم نهاريّ، وأحيانا قد تمتد إضاءتهما المبصرة من سطح الأرض إلى فوق المناطق الاستوائيّة، وذلك في أوقات العواصف الجيومغناطيسية القويّة.



2) بيّن القرآن المجيد أنه قد يكون في الأيونوسفير مناطق غير نشطة في القذف "مقاعد للسمع"، وأن التساقطات عليها قليلة أو تكاد تنعدم، ولكنّها قد تصبح نشطةً.



3) بيّنت الآيات الكريمة وجود قذفٍ دائبٍ، وهو مما لم يكن معروفاً للناس.



4) بيّن القرآن المجيد أن القذف يمكن أن يكون من جميع الاتجاهات وليس في اتجاه السقوط نحو سطح الأرض فقط، أي بيّن أن القذف لا يكون في شكل النجوم الهاوية فقط.



5) بيّنت الآيات الكريمة أن هذا القذف مؤذٍ وممرض وفيه طاقة حراريّة وقدرة صاعقة. ومن المؤكد أن وصول الإنسان إلى طبقة الأيونوسفير، حيث يتمُّ انطلاقُ الشهب، لم يحدث إلّا في عصر الفضاء، في القرن العشرين، أي لم يكن عند البشر أي خبرة عمليّة لا عن القذف من جميع الاتجاهات، ولا عن نوع العذاب الذي يُحدثه، ولا عن أثره في الدحر. والعذاب الواصب، في معنىً من معانيه، هو العذاب الممرض بداء عضال دائم، وهذا ما ينطبق على السرطان والتسمم بالإشعاعات سواء الجسيميّة أو الموجيّة. ومن الثابت أن التعرّض لقذف من الإشعاع الجسيميّ والأمواج الغير مرئيّةٍ القصيرة الموجة، مثل الأشعة السينيّة والأشعة فوق البنفسجيّة، هو سبب فعّال في حدوث السرطان، والسرطان هو فعلاً عذاب واصب فقد يلازم الإنسان فاتكاً به حتّى الموت.



6) بيّن القرآن المجيد أن النشاط الكهربائيّ في الأيونوسفير هو نشاطٌ متغيّر، يقوى ويضعف: "مُلئتْ حَرَساً شديداً وشُهُباً".



7) بيّنت الآيات الكريمة أن في الأيونوسفير قدرة كامنة potential على الصعق، أي قدرة مُرصَدة على إرسال حارقات.



8) بيّن القرآن المجيد أن محاولة أي جسم للعبور في الأيونوسفير تجعله عرضة للرماية بالرجوم، وأن الجسم المحاول للعبور يمكن أن يكون هو نفسه المثيرَ لانطلاق القذائف نحوه، والمثيرَ لانطلاق الشهب باتجاهه. وهذا ما تأكّد لرواد الفضاء، وبخاصّة عند محاولاتهم العودة إلى سطح الأرض بعد الدوران فيه.



9) بيّنت الآيات الكريمة التركيب الدقيق للشهاب وأنه شواظ من نار ونحاس.



10) بيّنت الآيات الكريمة وجود منافذ للعبور في السماء، وهي مناطق ضعيفة في فوارق الجهد والتيارات والتأيّن.



11) بيّنَ القرآن المجيد وجود التطارق coupling في الطباق.



12) بيّنت الآيات الكريمة أن الشهاب مصدر طرق يلازم ويزامن الثقب :"وما أدراك ما الطارقُ. النجمُ الثاقبُ"؛ فللشهب المبينة fireballs أو flaring meteors آثار صوتيّة سمعيّة تزامن الآثار الضوئيّة البصريّة . وإن للشهب المتألقة طَرْقا، وهذا الطرقًُ هو موجات الصدم shock waves، وهناك رصدٌ لطرقات وطقطقات pops فسروها بأنها أصواتٌ ناشئة كهربائيّاً electrophonic sounds، وهو تفسير منسجم مع اعتبارها أو كونها تفريغاتٍ كهربائيّةً يصدر عنها أمواج راديويّة[43] .



13) بيّن القرآن المجيد أن المستشهبات تكون قبل هويِّها مُرصَدة، أي هي بلغة العلم تدور في مدارات حول الأرض، أي تكون من قبلِ الانقضاض فالتة من تأثير الجاذبيّة الأرضيّة. وبعبارة أخرى مستعارة من علم الفضاء، بيّنت الآيات وكأن المستشهبات هي بمثابة أقمار صناعيّةٍ satellites تكون من قبل الانقضاض دائرةً في مدارات خارج نطاق الجاذبيّة الأرضيّة.



14) وبيّن القرآن الكريم أن الشهب من حيث مظاهرها الضوئيّة هي ظاهرة جيوفيزيائيّة، أي أن ضياءها مرتبط بقدرة السماء الدنيا على توليد الصواعق، وذلك بالتفريغات الكهربائيّةِ، أي هي مظاهر ضوئيّة حادثة في مجال الأرض المغناطيسيّ لا في الفضاء الكونيّ.



15) بيّن القرآن المجيد أن للشهب حتّى الغير مرئيّة قدرةً داحرةً.



16) بيّنت الآيات الكريمة أنَّ من الدخانِ الذي يرافق انقضاض الشهاب ما يُرسَلُ إرسالاً. وقد تبيّن للعلماء أنَّ المستشهب الهاويَ يكون مصحوباً بغيمةٍ بلازميّةٍ[44]، أي هو ينقضُّ حاملاً دخاناً. وكذلك فإن تيّارات التفريغ الكهربائيّ التي تصيب المستشهب بإلكتروناتها وأيوناتِها الموجبة هي في التصور النهائيّ دخانٌ مرسلٌ، وفي تعبيرِنا العلميِّ، فإن الدخان المرسلَ هو تيّارٌ من التيّارات.



17) بيّن القرآن الكريم سبقاً للعلوم أن طبق السماء الدنيا، وهو ما أثبتنا أنه الأيونوسفير، هو حيّزٌ مؤهّل لتوليد شهبٍ، شهبٍ من غير نوع النجوم الهاوية، إمّا توليداً تلقائيّاً، وإمّا بإثارةٍ لمسيّةٍ من جسمٍ صاعدٍ من الأرض يحاول العبور فيه أو المرور منه. وبالتعبير العلميِّ بيّن أنه علاوةً على الشهب من نوع النجوم الهاوية، فإن هناك "شهباً جيوفيزيائيّة"، أي هي شهبٌ ليست مرتبطة بأجسامٍ تدخله قادمةً من الفضاء الكونيِّ. وبعبارات أخرى، فإنَّ الأيونوسفير ببنائه ذاته وخصائصه ذاتها، مؤهّل لتوليد شعل ناريّة من قدرةٍ كامنةٍ فيه نفسِهِ، مُرصَدةٍ في كيانِهِ، قد تنطلق تلقائيّاً، أو قد تنطلق بإثارةٍ من جسمٍ صاعدٍ تماماً كما تحدث بإثارةٍ من جسمٍ هاوٍ قادمٍ من فضاء الكونِ.



18) بيّنت الآيات الكريمة أنّ الطريقة التي يتمّ بها توليد الضياء في الأيونوسفير ، أي توليد الأفجار القطبيّة auroras، هي نفسها ما يمكنه أن يولّد شهباً. وبعبارات أخرى، بيّن أن هناك شهباً أوروريّة auroral meteors : ï´؟ ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين ï´¾ فالضمير في "جعلناها" عائد على المصابيح.



19) بيّن القرآن الكريم أن للشهب مصدريْنِ، هما الكونيُّ والجيوفيزيائيّ. وقد حدد المصدرَ الجيوفيزيائيَّ بدقةٍ عجيبةٍ. فمن خلال تدبر الآيات المتحدثة عن الشهب، مع ربط هذا التدبر بما تحصّل من معلومات وحقائق جيوفيزيائيّةٍ عنها، فإنه يمكن أن نحكم أن القرآن الكريمَ قد تحدث عن النوع الثاني في بيان أو بلاغ جيوفيزيائيّ رابطاً لها بالتفريغات الكهربائيّةِ التي تجري في الأيونوسفير.



20) وأظهرت الآيات الكريمة في سبقٍ آخرَ أن مادة أو مكوناتِ الشهب التي من المصدر الجيوفيزيائيّ، مُرصَدة في محل ظهورها من السماء، وأن لها عواملَ تثير انطلاقَها.



21) وأظهرَ القرآن الكريم، سابقاً بذلك العلوم، أن الشهب التي من المصدر الجيوفيزيائيّ ليست كتلاً، وإنّما هي شحنة بلازميّة.



22) وكشفت الآيات الكريمة أن الشهب التي تنتج عن مستشهبات من مصدر كونيٍّ ليست بالضرورة أجساماً ضخمة، وهو ما كان يظنه الناس قياساً على كتل النيازك، بل إنها في غالبها المعهود ناشئة من أجسامٍ دقيقة : "شواظٌ من نار"، أي دُقاقٌ متوهّجٌ.



وباختصار، فإن الآيات القرآنيّة التي تحدثت عن الشهب، سواء كان ذلك صراحة أو ضمناً، قد جاءت بخلاصة عن الحقائق المرتبطة بها بصريّاً وفلكيّاً وجيوفيزيائيّاً.




تنبيهات ختاميّة

إن حديث القرآن عن الشهب قد ارتبط بالجنِّ والإنس، ونحن في هذا البحث لا نتعرّض لعلاقة الشهب بالجنّ بشكل شروحٍ علميّةٍ، أي إننا نتعامل مع هذا الأمر من منطلق إيمانيٍّ؛ إذ إن الجنَّ من السمعيّات، فإذا كان الجنُّ أنفسُهم من السمعيّات، فمن بابِ أوْلى أن تكون كلُّ شؤونهم هي الأخرى من السمعيّات، أي إن المسلم يصدِّق بوجود خلقٍ اسمه: الجنّ، اعتماداً على ما سمعه من القرآن الكريم وصحيح الحديث الشريف، وليس مطلوباً منه أن يدرسَ الجنَّ دراسةً علميّةً ويخضعَهم للتجارب، كما يدرس الحيتانَ، مثلاً. ولكن لا بأس أن نقوم عند دراسة الشهب باستحضار ما أخبرنا به القرآن عن الجنِّ، ومن ذلك:



1- أنهم خُلقوا من نار: ï´؟ وَظ±لْجَآنَّ خَلَقْنَظ°هُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ظ±لسَّمُومِ ï´¾ [الحجر: 27].



2- وأنهم يروننا ولا نراهم: ï´؟ إنه يراكم هوَ وقبيلُهُ مِنْ حيثُ لا تروْنَهم ï´¾ [الأعراف: 27].



3- وأنهم ثقل: ï´؟ سنفرُغُ لكم أيًّهَ الثَّقلانِ ï´¾ [الرحمن: 31]. والثَّقلانِ هما الجنُّ والإنسُ.



4- وأنهم يصعدون في السماء من أجل التسمّع إلى الملأ الأعلى.



5- وأن رجوم السماء تدحرهم وتصيبهم بعذاب واصب.



6- وأنَّ بعضاً من الشهب تنقضُّ وتتبعهم.



ويجب أن ننتبه إلى أن قول الجنِّ: ï´؟ وأنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشُهُباً ï´¾، إخباراً من بعضهم إلى بعض، لا يعني بالضرورة أنهم كانوا قد صعدوا إلى السماء أثناء عاصفة شهابيّةٍ؛ لأنهم لو كانوا قد رأواْ عاصفةً شهابيّةً لَما صعدوا، بل يبدو أنهم قد صعدوا إلى مقاعدِ السمع فلمسوا الأيونوسفير إذ كان مشحوناً بفوارق الجهد الكهربائيّة، وبجريانٍ لتيّارات كهربائيٍّة شديدة، وبكثافة عاليةٍ من الأيونات، فجوبهوا بانطلاق الشهب باتجاههم، أي إنّهم شكلوا ماساً contact كهربائيّاً فحدثت تيارات القصر والتفريغات الصاعقة. والفاء العاطفةُ في "فوجدناها" تحتمل التعاقب الفوريَّ، وتحتمل السببيّةَ أيضاً.



وعلى كلِّ حالٍ، فإن ما توافر في عصر الفضاء من معلومات فلكيّة وجيوفيزيائيّة عن الشهب ونشاطات الأيونوسفير، مما يرتبط بما يتعرّض له الإنسانُ ومراكبُه وأقمارُه الصناعيّة ومكاكيكُه shuttles في محاولاته للوصول إلى الأيونوسفير نفسه والدوران فيه والنفاذ منه، يمكن أن نقيس عليه ما يحصل للجنّ في مثل تلك المحاولات. ونحن نناقش على وفق مفاهيمنا الإيمانيّة؛ إذ نؤمن بالغيب، أي بتصديق كل ما جاء في القرآن الكريم، ولو غاب عنا وجودُه، أو خفيت علينا ماهيّتُه، أو جهلنا كيفيّتَه، ولكن قد نستأنس بالعلوم الماديّة من أجل التقريب إلى أذهاننا. الّلهمَّ ربَّنا إنك أعلمُ بما أنزلتَ من الكتابِ على نبيّك الكريمِ، عليه السلامُ، فزدْنا علماً، واشرحْ صدورَنا، واكتبْنا وذريّتَنا في عبادِك الصالحينَ.



وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

عن موقع الآلوكة