ادوارد سعيد اخر العمالقة جاء من فلسطين





قبل عام غيب الموت المبدع العالمي والرمز الثقافي الفلسطيني - الأمريكي البروفسور ادوارد سعيد .. كان الرجل يعرف انه مقبل على الموت بسبب مرض العضال، فأنتظر موته بصبر ، لكنه قبل ان يسافر الى العالم الآخر ترك آخر أعماله على شكل مذكرات، فأغنى الحياة الثقافية والمكتبة العالمية بمؤلف جديد وفريد.
رحل ادوارد سعيد لكن أعماله الكبيرة بقيت معروضة لمن يبحث عن المعرفة وللذين بمقدورهم الغوص فيها للبحث والدراسات والتنقيب عما هو جديد. الكتابة عن هذا الصرح الحضاري والثقافي العالمي ليست بالسهلة، لأن الذي يريد الدخول في عالمه عليه الكتابة عن الرجل كشخص وعنه كقضية وطنية وثقافية ونسخة عن شعب موزع ومشتت في الأرض قاطبة،وبعيدا عن وطن سلب ، سرق، أغتصب واستعمر على مرأى من عالم ساهم في الزيّف والخداع وتكريم ضحيته بنحر ضحية أخرى قربانا لها. ذاك المنطق أكد سابقا ويؤكد الآن على عدم وجود فارق كبير بين الذين يقطعون رؤوس الضحايا الأجانب المختطفين في العراق وبين الذين قطعوا رؤوس الفلسطينيين في النكبة والنكسة والانتفاضة وما بينهم من أزمنة.ليس الصراع بين الشرق والغرب سوى تسمية خاطئة لبرامج حرب خاطئة،إذ لا يوجد حوار حقيقي أو حوار بمعناه العلمي بين الشرق والغرب. وعدم وجوده لا يعتبر دليلا على انعدامه، بل تكريس طبيعي لحالة الفوضى التي تسود العالم منذ عاصفة الطائرات الأيلولية في نيويورك وواشنطن. ثم أن الصراع الحق والطبيعي والحقيقي يجب أن يكون لا بين الشرق والغرب أو بين الديانات بل بين الحق والباطل. فسيطرة وهيمنة القوي على الضعيف هي من أهم أسباب بروز معوقات الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات. الصراع هذه الأيام يدور بين رؤوس تفكر وأخرى تعادي الفكر، وبين أموال وشركات ضخمة مستعمرة تمتص دماء الفقراء لصالح الأغنياء، هو صراع بين رؤوس تقطع لأجل هذا وذاك هنا وهنالك وهناك، وبين قطاعين للطرق وللرؤوس وللأرزاق ينتشرون في عالم اليوم.كان المرحوم ادوارد سعيد من المثقفين الموسوعيين الذين اهتموا بأصناف كثيرة من العلوم والاختصاصات،حيث لم يكن مفكرا، مستشرقا وناقدا أدبيا فقط لا غير، بل كان أيضاً من المهتمين بأمور أخرى كثيرة مثل السياسة والرياضة و الموسيقى والرقص الشعبي ( كان ادوارد سعيد عازف بيانو ممتاز، وكان له عامود نقدي ثابت عن الموسيقى في مجلة اليسار الأمريكي " ذا نيشن "التي هي مجلة المثقفين الأمريكان اليساريين) وقد كتب ادوارد سعيد دراسات هامة في الموسيقى أهمها "من الصوت الى الصمت وعود على بدء". وقد وظف سعيد علاقاته القوية والمتينة مع عظماء المويسقى في العالم مثل عازف الكمان اليهودي الراحل مينوهين. كذلك مع الشهير الارجنتيني اليهودي دانيال بارينباوم قائد الأوركسترا المعروف. وقد أثمرت تلك الصداقة مع الموسيقيين اليهود فأنتجت مدارس موسيقية استقطبت واستقبلت طلبة من فلسطين، وكذلك نتج عنها مواقف تدين إرهاب إسرائيل الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وهي مواقف هامة لأنها تصدر عن يهود مشهورين ومعروفين، ومواقفهم هذه ستساعد الآخرين على اتخاذ مواقف من الصهيونية وأعمالها الإجرامية في فلسطين المحتلة.بحسب المترجم والباحث صلاح حزين " يتناول سعيد فكرة الصوت والصمت باعتبارهما مكونين أساسيين من مكونات الموسيقا حيث الصمت موسيقا أيضا، ويطبقها على التاريخ وحركة المجتمع، فيرى أن الصمت ليس سوى صوت المقموعين والمهمشين والمضطهدين عبر التاريخ، وأن الانتفاضات الفاشلة التي قام بها هؤلاء عبر التاريخ لم تكن سوى تعبير صامت عن قمعهم وظلمهم واضطهادهم، فالانتفاضة حين تفشل تتحول صوتا مقموعا، تتحول صمتا." ولا بد ان الشعب الفلسطيني الذي أطلق العنان لصرخته المدوية في الانتفاضة الثانية قد تعلم من الانتفاضة الأولى واستفاد من نظرة ادوارد سعيد تلك. فالصوت الصارخ يجب ان يخترق خزان الصمت ويصل الى الهدف المحدد.



عمل و درس ادوارد سعيد أيضا في صباه في الغابات وتقطيع الأخشاب وكان طالبا نشطا ونوعيا في تلك الفترة من عمره. وادوارد سعيد لم يكن معروفا في العالم العربي مثلما عرف وذاع صيته في الغرب. كما أنه لم يقرأ بالشكل الصحيح في عالمنا الذي أصبح صعبا عليه تمييز الصحيح من الغلط في هذا الزمن الصعب، الزمان الرخو. لذا لا يمكن إعطاء الرجل حقه إلا عبر دراسة أعماله التي تخطت فلسطين والعرب لتكون عالمية واسعة الانتشار والسمعة، إذ لا تخلى مكتبة عالمية أينما كانت من أعمال ومؤلفات ادوارد سعيد وأهمها الاستشراق. وحين يسأل الفلسطيني عما يفخر به أمام الناس في العالمين وبالذات الغربي منه يكون أحد أهم أجوبته : ادوارد سعيد...عرف عن ادوارد سعيد حبه ومساندته ودعمه الشديد للمظلومين في العالم ، لذا فحبه ودعمه لقضية فلسطين لم يكن عبر العاطفة والقلب وبحكم الأصول والجذور والانتماء العائلي والمكاني والعصبوي، بل نتيجة لما رآه وشاهده وعرفه من وعن الظلم الكبير الذي لحق بشعب فلسطين. وقد امتاز ادوارد سعيد بمعرفته الواسعة لعالم الغرب العادي والأكاديمي حيث عرف الفكر الغربي و الحضارة والعقلية والثقافة الغربية ودرسهم بعمق حتى فهمهم فهما موسعا، دقيقا وعميقا ساعده في ترسيخ مكانته الثقافية والفكرية. يقول الدكتور أحمد محدوبة أستاذ الأدب الأمريكي في الجامعة الأردنية: "أول ما سمعت بإدوارد سعيد كان في خريف عام 1980 عندما كنت طالباً في جامعة كورنيل، وهي إحدى الجامعات الثماني المشار إليها أعلاه، عندما أتى أستاذ مادة:”نظريات النقد والفكر الحديث” على ذكر إدوارد سعيد من بين عدد قليل من عمالقة النقد الفلسفي الغربي.المغزى من هذا كله أن إدوارد سعيد هو من بين القلائل الذين اخترقوا الحضارة الغربية، وسبروا غورها من داخلها، ثم قلبوا مفاهيمها التقليدية رأسا على عقب، محدثين في علوم التفسير والقراءة والتحليل، وفي الخطاب بوجه عام، نقلة ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني. إدوارد سعيد يقدم في الغرب على أنه من عمالقة الفكر الغربي نفسه، لا على أنه دخيل عليه".إذن الرجل أوسع من ان تنحصر سمعته او ثقافته في الثقافة الفلسطينية وحدها لذا فهو عالمي وموسوعي ومعرفي صاحب مساحة تمتد الى ما لا نهاية في عالم الفكر، مثقف ومفكر بكل معنى الكلمة، لكي نستطيع فهمه، فنحن والآخر بحاجة لمثقف من وزنه هو نفسه يستطيع تحليل ودراسة "إستشراقه" وفكره ورؤيته. وقد كان الأكاديمي والشاعر الدكتور محمد عبيد الله دقيقا حين قال : " ربما أن اكتشافنا نحن العرب ادوارد سعيد جاء متأخرا بعض الشيء، على الرغم من أن بعض انتاجه قد نُقل الى العربية مبكرا. لكن الانتباه الى عالميته والى تأثيره الطاغي انطلاقا من تلك العالمية كان متأخرا بعض الشيء.. وما يُخشى منه حقيقة أن يتحول الاكتشاف المبهور بادوارد سعيد الى نوع من التصنيم المناقض للحرية في البحث والثقافة وفي الجدل السياسي وهو ما دافع عنه ادوارد سعيد نفسه.. أي أن يتحول سعيد اسما وفكرا الى سلطة أخرى من تلك السلطات التي سعى الى نقدها وتفكيك خطاباتها."..لقد حرص ادوارد سعيد على ان يكون الهم الفلسطيني همه لأنه بالأساس ضد الظلم ومع الحق والعدالة للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعقيدته وجنسه، وقد مثل ادوارد سعيد قضية شعبه خير تمثيل على طريقته ووفق رؤيته التي رفضت التعصب والتزمت وكانت منفتحة على الدراسة والتحليل والتدقيق والتمحيص في كافة المجالات وحتى في إخضاع المسلمات للفحص والنقد. كان الرجل موضوعيا ومنطقيا وصاحب فكر منفتح ساعده في تأطير الأنصار والأصدقاء للقضية وخاصة في الجانب اليهودي العالمي. في السابق وقبل ان يفهم البعض طريقة فهم وتفكير الغرب كانوا يقفون ضد توجهات الانفتاح على الغرب والأخذ بعين الاعتبار رؤيته للصراع. ثم هناك منهم من أعتبره خرقا للثوابت الفلسطينية، لكن وبعد أن عرفت المواقف وعاشوا في الغرب وتعرفوا على ناسه وطرق تفكيرهم ومواقفهم صار لديهم استعداد لفهم مواقف ادوارد سعيد ومنهم من ذهب ابعد من ذلك وتبناها تماما.لقد دخل الفلسطنيي المثير ادوارد سعيد الى وطنه فلسطين من بوابة العالم والفكر والثقافة والحضارة التي لا تقبل بالظلم والامتهان، فكان فلسطينيا كما هو عالمي، ومن العجيب ان بعض الفلسطينيين الرسميين وبالذات المنتفعين عادوه وحاربوه لأنه وقف ضد اتفاقيات اوسلو والقيادة الفلسطينية التي لم تستشر شعبها بما أقدمت عليه في لقاءات و حفلات المفاوضات والاتفاقيات مثل اوسلو وأخواتها. اعتبر سعيد اتفاقية اوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني أولاً لان الذين فاوضوا ووقعوا واتفقوا يحهلون حتى اللغة الإنكليزية وليسوا متمكنين منها بشكل يؤهلهم للقيام بذلك، وثانيا لأنهم تنازلوا عن الحقوق مقابل لا شيء مضمون، وقد عقب عليهم " لأول مرة في القرن العشرين تقوم حركة تحرر وطني على التفريط بإنجازاتها الضخمة وتقبل التعاون مع سلطة الاحتلال، قبل ان تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية". وقد كتب أيضا في هذا المجال الكثير من المقالات وهناك مؤلف كامل بعنوان غزة أريحا فيه مجموعة مقالات هامة لادوارد سعيد عن هذا الموضوع. لقد غضب عليه "الأوسلويون" لأنه قال ذلك. لكنه لم يعيرهم كثير اهتمام وكتب فيما بعد أنهم لا يملكون شرعية أو حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني والتنازل عن حقوقه الشرعية. فقد عرف ادوارد سعيد أن هذا هو دائما حال الفلسطيني عندما يقف في صف معارضة الحاكم وحاله كحال أي عربي ينطق بحرف الضاد ويعيش شرق المتوسط. لقد أدرك ادوارد سعيد مكانة الحوار بين الأمم لذا كان رافضا للحوار الشكلي مع الآخر فهو أراده حوارا منتجا مثمرا لا فارغا ومموها يعطي البعض مكاسب شخصية آنية ثم تنتهي القضية الأساسية بكارثة تاريخية، من هنا رفض اوسلو وعلى هذا الأساس جاء تقديم الكاتب الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل لكتاب غزة/ أريحا كالتالي " إن مسافة الاستقلال التي يحتفظ بها سعيد بعيداً عن المؤسسة السياسية جعلته الأقرب إلى كبرياء العالم والتزام المفكر وأحزان الوطني الذي رأى أن يأخذ قضيته ويذهب بها إلى الناس محتفظاً لها بكل جلال الفكر ورقيه".امتازت مواقف الراحل ادوارد سعيد بالجرأة العالية في مواجهة الحركة الصهيونية واللوبي اليهودي وكيان إسرائيل مما جعله مُحاربا بقوة من قبل تلك الجماعات واللوبيات وبعض أركان الفكر والثقافة والسياسة من المتصهينين في زمن انفلات القوة الأمريكية وسياستها التي لا تهادن ولا تجامل ولا تعير العقل والمنطق والقانون أي انتباه. لكنه التزم بموقفه الواضح من حرب أمريكا وحصارها للعراق وضوح موقفه من نظام البعث والرئيس المخلوع صدام حسين. فعارض الحرب بشدة مثلما عارض قبلها الحصار، وأدان الإدارة الأمريكية واتهمها بالتسبب في موت مئات آلاف العراقيين نتيجة الحصار الاقتصادي. وقد هاجمه البعض بسبب تلك المواقف المعلنة، دون أن يقدموا طرحا علميا مضادا لمواقفه الجريئة والإنسانية قبل أي شيء آخر.توفي ادوارد سعيد يوم الخميس في الخامس والعشرين من أيلول سنة 2003 في احد مستشفيات نيويورك، وقد قال يومها كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة "بغيابه سيصبح العالم العربي وأمريكا أكثر فقراً".. و كان ادوارد سعيد ولد في مدينة القدس الفلسطينية في الأول من تشرين الثاني 1935 من ابوين فلسطينيين، كان والده التاجر المسيحي الفلسطيني من أثرياء المدينة ويحمل الجنسية الأمريكية. بعد النكبة الفلسطينية الكبرى استقرت العائلة في مصر ولبنان أما ادوارد فقد درس في الولايات المتحدة الأمريكية وتخرج من جامعة برنستون، ثم نال الدكتوراه من جامعة هارفرد عن أدب الإنكليزي من أصول بولندية جوزيف كونراد. أصبح بعدها اشهر أستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية وأحد أهم المفكرين في العالم. وله 18 مؤلفاً ، كتابه الأول كان عن جوزيف كونراد في العام،1966 والأخير قد يكون عن“فرويد وغير الاوروبيين” (فيرسو - لندن، نيويورك)، عبارة عن محاضرة ألقاها في متحف فرويد في لندن، ومن كتبه أيضا : الاستشراق ، البدايات 1978 ، لوم الضحية 1978 ، مسألة فلسطين 1979 ، الأدب والمجتمع 1980، إكتشاف السلام 1981، العلم والنص الناقد 1983، بعد السماء الأخيرة 1986، الثقافة والامبريالية 1993، القلم والسيف 1994 ، غزة وأريحا 1994، اوسلو 2 سلام بلا ارض 1995، ومجموعة اصدارات أخرى أجملها كتاب خارج المكان - Out of Place - الذي يروي سيرته الشخصية، كتاب سيرة ممتع وأكثر من رائع. وجدير بالذكر ان كتابه الاستشراق تُرجم الى ستة وعشرين لغة.لقد كان ادوارد سعيد مثقفا عربيا، عالميا موسوعيا عاش في قلب الغرب وعرفه وفهمه وأصبح من أهم أساتذته ومفكريه ومراجعه العلمية وعمالقته، وقد خدم الثقافة العربية خير خدمة حين فضح الاستعمار في كتابه الاستشراق. لذا فأن على العرب واجب تكريم الرجل عبر افتتاح مكتبة أو متحف يضمان كل شيء عن حياته وأعماله خاصة ان في أمريكا هناك من ينادي بشطب تراث ادوارد سعيد. دفن ادوارد سعيد في لبنان حيث مسقط راس زوجته وبناءا على وصيته، ليصبح فلسطيني المولد، مصري الطفولة، أمريكي الحياة ولبناني القبر وعالمي الفكر والرؤية.