صفحة 12 من 97 الأولىالأولى ... 2 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 22 62 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 133 إلى 144 من 1155

الموضوع: أدب الرحـــــــلة ...

  1. #133 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36





    بقــــــلم: أحمد محمّد محمود*

    يتجول بنا المؤلف في المجتمع المصري كما شاهده في القرن التاسع عشر، يصف الحياة الزاخرة النابضة تدب في مدينة القاهرة، حيث البيوت لها مشربيات، وفيها قاعة ومندرة يستقبل فيها الضيوف من الرجال، ومكان تقيم فيه النساء ويحرم على الغرباء دخوله، القاهرة بحماماتها العامة حيث يقوم على خدمة المستحمين اللاونجي والمكيساتي، وفي كل جولة من جولاتنا معه سنقف دائماً عند حقيقة واحدة : هي أننا في بعض مظاهر حياتنا قد تطورنا في أكثر من قرن من الزمان تطوراً يكاد يبلغ غايته، وفي نواح أخرى قد وقفت بنا عجلة التطور في عناد، الكتاب مرجع تاريخي يسجل فترة من حياة شعبنا في دقة تامة " هذا ما كتبته مترجمة كتاب الرحالة ( لين ) إلى العربية " فاطمة محجوب".

    الرحالة من كبار المستشرقين الإنجليز، تعلم العربية في بلاده وأتقنها في مصر التي قضي فيها 14 عاماً قام خلالها بثلاث رحلات إليها، وعاشر أهلها وتزيا بزيهم، وكانوا يدعونه (منصور أفندي) وقد اشتهر بوضعه معجم لين (عربي _ إنجليزي) وسماه (مد العرب) واعتبره المستشرق آبري أكبر خدمة قدمها مستشرق أوروبي للغة العربية، وله ترجمة إلى الإنجليزية لقصص ألف ليلة وليلة.

    قام برحلته الأولى إلى مصر عام 1825، وكانت وقتها تحت حكم محمد علي باشا، الذي قضى على حكم المماليك، وحافظ على روابطــــــه مع الدولة العثمانية بما يدفع لها من جـــــزية، لكنـــه فيما عدا هذا كان حاكماً مطلقاً.

    ويكتب عن مقر الباشا "القلعة، وفيها ساحة للقضاء تسمى الديوان الخديوي وخديوي كلمة تركية تعني الأمير، ويرأس المحكمة في غياب الباشا نائبه حبيب أفندي كتخدا، ويصدر رئيس الديوان الخديوي حكمه في القضايا التي لا تدخل في دائرة القاضي أو التي هي من الوضوح بحيث لا يقتضي الأمر إحالتها إليه، والأشخاص الذين يرتكبون جرائم القتل أو السرقة يرسلون بصحبة جندي إلى حرس الحامية (قره قول) في الموسكي، وهو شارع معظم سكانه من الإفرنج، وهناك تتلى قرارات الاتهام وتحرر بها محاضر قبل إرسال المتهم للمحاكمة التي تجرى بطريقة لا تراعي آداب التقاضي، وإذا لم تتوافر أدلة كافية لمن يساق للمحاكمة يمد ويضرب بالعصا على باطن القدم ، وفي الجرائم البسيطة يعترف عادة بسرعة، حيث العقوبة إرغامه على العمل في الأشغال العامة كنقل النفايات وحفر القنوات، وأصحاء الأجســــام من أصحاب الجرائم يلتحقون بالجيش".

    "ويتولى القاضي الذي يعين من الدولة العثمانية ويختار من بين علماء السلطنة، ويصل من القسطنطينية، منصبه لمدة عام، وقد جرت العادة أن يغادر القاضي القاهرة مع قافلة الحجاج إلى مكة فيقضي مناسك الحج ويبقى في مكة قاضياً لمدة سنة، وسنة أخرى بالمدينة، وهو يعتمد على (الباشترجمان) في نظره بين الخصـــوم، لأنـــه عـــــادة لا يحسن العربية".




    مشاهدات عجيبة

    "ويقدم الرحالة تفاصيل لإجراءات التقاضي ورجالاته ممن ُيحضرون المتهم والشهود، ويدفع تكاليف الدعوى من يكسب القضية من الخصمين، ويأخذ القاضي نظير حكمه في قضايا بيع الممتلكات 2% من القيمة أو إيجار سنة، و4% في قضايا الميراث، إلا إذا كان الوارث يتيماً فيخفف عنه بأخذ 2% ، وفي مدن الأقاليم يكون القاضي مصرياً ولا يكون تركياً، ويعهد للضابط آغا (رئيس البوليس) بالقبض على اللصوص وتخضع لسلطته النساء الساقطات، ويرغمهن على دفع ضريبة، ويتبعه جنود يترددون على المقاهي للتنصت إلى أحــاديث الناس ومراقبة سلوكهم، ومعظم الجنود من اللصوص الذين تم العفو عنهم، ولا يسمح لأحد بالخروج إلى الشــــارع بعد الغروب، ويعاقب من يخالف ذلك بالضرب".

    "ويفتش الأسواق (المحتسب) يطوف بها ومعه من يحمل ميزاناً كبيراً، وجلادون وجمع من الأتباع يرافقونه، فإذا وجد بائعاً لا يوفي الكيل والميزان أو يبيع بثمن عال وقع عليه العقوبة في الحال، وهي في العادة الضرب والجلد، وقد رأيته يعاقب رجلاً باع خبزاً ناقص الوزن بأن ثقب أنفه ثم علق في الثقب قرص الخبز ناقص الوزن وجرّد الرجل من ملابسه إلا ما يستر العورة وشد وثاقه إلى سارية جامع الأشرفية في الشمس الحارقة.

    "وبعد زيارتي الأولى لمصر عين محتسب جديد كان يقرض أذن من يرتكب أقل هفوة، وقد عاقب جزاراً باع لحماً ناقص وزن أوقيتين بأن قطع أوقيتين من لحم ظهره، وضرب مرة صاحب حمام حتى مات بسبب أنه لم يدخل (حصان المحتسب) لأخذ حمام في حمامات الرجال، والبائع الذي يدفع رشوة ينجو من العقاب.

    "ولكل حي (شيخ حارة) وظيفته حفظ النظام والفصل في المنازعات وطرد من يخل بالأمن، ولكل طائفة من التجار شيخ يفصل في المنازعات بين أفراد طائفته، والخدم في القاهرة لهم شيخهم فإذا احتاج أحد لخادم ذهب له فيوفره مقابل قرشين أو ثلاثة، ويكون ضامناً لسلوك الخادم، وحتى اللصوص لهم (شيخ الحرامية)، ويكلف بالبحث عن السارق والمسروقات، ويحكم مديريات مصر حكام أتراك ومصريون، تتدرج وظائفهم إلى المدن والقرى، ومنهم من اشتهر بالطغيان مثل سليمان آغا السلحدار الذي كان يحكم طنطا، وتتكون الأسرة المصرية من رب الدار، والحريم وهم نساء البيت وفي مقدمتهن الزوجة والجواري والخادمات، وليس شائعاً عندهم تعدد الزوجات، ويصحو رب البيت مبكراً وبعد صلاة الفجر يتناول فنجاناً من القهوة وبعضهم يفطر بإفطار خفيف، وأكثر الفطور شيوعاً الفول المدمس، ويتكون فطور الفقراء من الخبز والدٌّقة وهي خليط من الملح والفلفل والزعتر والنعناع والكمون وتضاف لها الكزبرة أو القرفة أو السمسم أو الحمص، وتغمس كل لقمة في ذلك الخليط ، وكثير من الرجال لا يكادون يرون بدون غليون، وهو يحتاج إلى تنظيف مستمر ولذلك يكسب كثير من الفقراء عيشهم من تنظيفه متجولين من مكان لآخر، كما يدخن البعض الشيشة ويعزى انتشار مرض الكبد في البلاد العربية إلى تدخينها ".

    "وينشأ الأطفال تنشئة دينية ويختار للطفل عند مولده اسماً من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو زوجاته وبناته وصحابته ويبقي الطفل في القري عارياً حتي السادسة من عمره، وعندها يحلق شعر رأسه تترك خصلة من الشعر في قمة الرأس تسمى (شوشة) وأخرى فوق الجبهة، وتسرف الطبقة الموسرة في تدليل الأولاد، أما الفقيرة فلا تعنى بهم إلا قليلاً، ولا يجلس الأبناء في حضرة أبيهم أو يأكلون ويدخنون، وهم يقومون على خدمته وخدمة ضيوفه، وليس من المناظر الغريبة أن ترى في العاصمة سيدة تمشي متثاقلة في الثوب الفضفاض نظيفة أنيقة، وإلى جوارها يسير طفلها ووجهه ملطخ بالقاذورات وعليه ثيــاب رثة، وهي تفعل ذلك خشية العين ".



    "ويقام للطفل عند ختانه احتفال وقبل الختان يخرج في زفة تطوف به الشوارع القريبة من منزله، وقلما يعتني الوالدان بتعليم أبنائهم ويكتفون بتعليمهم مبادىء الدين وما يتيسر من القرآن في الكتاتيب وما من مسجد في العاصمة أو سبيل إلإ واٌلحق به كُتاب يتعلم فيه الأطفال نظير نفقات ضئيلة، ويعطى (للفقي) الذي يعلمهم من الأوقاف ويأخذ من أولياء الأمور نصف قرش أسبوعياً، والقادرون يأتون بشيخ لمنازلهم يعلم أولادهم، وعندما فرضت الجندية على الشباب كره الفلاحون فراق أبنائهم واحتالوا لذلك بعدم أهليتهم، وفي زيارتك للقرى قلما تجد شابـاً أو فتىً لم تخلع له سن أو سنين، أو يقطع له أصبع، أو تفقأ له عين وكان الوالدان في بعض الأحيان هما اللذان يقومان بذلك فراراً من التجنيد".

    "وما دام المصري قادراً على شراء حصان أو بغل أو حمار أو استئجاره فقلما يرى خارج عتبة داره ماشياً، ويتبع الرجال وهم راكبون خادم يحمل الغليون، وأكثر ما تستخدم الحمير في الشوارع الضيقة المزدحمة، وهي أكبر وأرقى من حميرنا من جميع الوجوه، ويسير أمام راكب الحصان خادم يفسح له الطريق، ويجري إلى جانب راكب الحمار خادم يصيح في الناس أن يتجهوا إلى اليمين أو الشمال، ويقول : (يمينك _ شمالك _ وشك _ ضهرك _ جنبك رجلك _ كعبك )، وكثيرًا ما يضيف على تلك العبارات قوله : ياأفندي إذا كان السائر تركياً، أو ياشيخ إذا كان كهلاً مسلماً، أو ياصبي للشاب، أو يا شريف لصاحب العمامة الخضراء، أو يامعلم للمسيحي واليهودي، أو يا خواجه للأجنبي والإفرنجي، أو يا ست للمرأة من الطبقة العالية، أو يا بنت للمرأة من الطبقة الفقيرة ".

    موائد الطعام

    "وتتكون السفرة لدى عامة الناس من خبزوليمون وأصناف الطعام ،من يخني ولحم مسبك وبصل مقطع مع بعض البامية أو غيرها من الخضروات والقاورمة والمحشي والكباب ولحوم الطيور والسمك، وأول من يأكل رب الدار ثم يتبعه أهل بيته وضــيوفه، وهم لا يستعملون الشوك والسكاكين وإنما يأكلون بأيديهم، ومن آداب الضيافة أن ينتقي المضيف أحسن الطعام ويقدمه لضيفه بيده، وبعد الطعام يتناولون الحلوى ومنها العناب والخوخ والمشمش والكنافة بالسكر أو العسل والبطيخ الذي يقطع ليبرد في مكان مكشوف تحت المراقبة خوفاً من أن يقترب منه ثعبان ،والذي يقال إنه شديد الولع به، ويشم رائحته من مكان بعيد، ويعقب هذا طبق الأرز المفلفل، وعند الأغنياء قدح من الخشاف،وفي فصل خصصه الرحالة لحياة المرأة في مصر بادئاً بما عليه العادة "من الأمور الشائنة أن ُيعرض الرجل عن الزواج إذا بلغ سناً مناسبة وكان قادراً عليه، بل قد يسيء إعراضه عن الزواج إلى سمعته، ولما كنت أنا واقعاً في هذا الإثم (العزوبية) فقد قاسيت كثيراً ولقيت مضايقات ليس أقلها صعوبة حصولي على مكان للإيجار، فما أن يُعرف عني أني غير متــــزوج حتي يطلب إلىّ إخلاء المكان لأن ســــكان الحي معترضون على إقامتي بينــــهم، ولذلك فليس أمام الأعزب إلا الســـــكن فيما يشــــبه الفندق أو عند أقاربه ".

    احتفالات الزواج

    ويصف ما يقام في زواج البكر والمطلقة والثيب من احتفال، أكثره إثارةً زواج البكر>تتولى الأم أو الخاطبة ترشيح العروس، وتدخل الخاطبة لبيت المرشحة كأنها مجرد زائرة أو امرأة تبيع حاجات حتى يسهل عليها الانسحاب في حالة لم تعجبها المرشحة للزواج، وتصرح بالغرض من الزيارة إذا أعجبتها الفتاة، وتحسّن لعروس المستقبل وضع (العريس) المرتقب وتبالغ في محاسنه فتقول إن الرجل الذي يبغي الزواج منك شاب صغير رشيق القامة، حليق الذقن، كثير المال، حسن الهندام، يحب الطيبات، ويريد من يشاركه الاستمتاع بها، وهو رجل يحب البقاء في بيته وسيكون دائماً إلى جانبك ،وللعروس وكيل يتولى الاتفاق على تفاصيل الزواج، يذهب إليه أصدقاء العريس للاتفاق على المهر وهو لمتوسطي الحال 1000 ريال، والأغنياء يحسبونه بالأكياس، والكيس 500 قرش، وتكون هناك مساومات عليه حتى يرتضيه الطرفان، ويتلوه عقد الزواج ودفع مقدم المهر وتوزيع الشربات، وأنسب الشهور للزواج شهر شوال، وينشغل أهل العروس بشراء جهاز العروس ليوم الزفاف. ومن العادة أن يرسل (العريس) في هذه الفترة إلى بيت عروسه فواكه وربما هدية ثمينة أو يرسل شالاً، وتحدد ليلة الدخلة بين ليلتي الجمعة والاثنين في العادة، ويزين شارع (العريس) بالفوانيس والأعلام الحريرية وتقام الولائم ويرسل المدعوون من المعارف والأقارب والأصدقاء (الرفد) قبل ليلة الدـــخلة وهو يتــــكون من سكر وسمن ولبن وأرز ".

    " وفي ليلة الدخلة قد تقام ختمة للقرآن، و تعزف الموسيقى ويغني المغنون والمغنيات وترقص الراقصات، والعروس ترافقها صديقاتها إلى الحمام في موكب يسمى (زفة الحمام) يسير في طليعته جماعة من الموسيقيين بالمزمار والطبول وأمامهم رجل يحمل صينية عليها الأدوات والملابس التي تستعملها العروس في الحمام، كما يسير السقا الذي يسقي المارة في الموكب بالماء، مع رجل آخر يحمل قمعاً به (ما ورد) يرشه على أعضاء الزفة، وآخر يحمل مبخرة، وعادة ما تسير في المقدمة كذلك قريبات العروس، وخلفهم العروس تظللها مظلة من الحرير، يحملها أربعة رجال وهى محتجبة تماماً، ويسير الموكب ببطء،وفي كثير من المنعرجات حتى يراه أكثر الناس، وبعد الحمام تتناول العروس العشاء مع قريباتها، وتخضب أيدي العروس ويدفع لها النسوة النقوط،وفي اليوم التالى تذهب العروس في موكب زفة العـــــروس إلى بيت زوجها، وهي تشــــبه زفة الحـمام تماماً، ويتقدمها أحياناً رجل يقدم ألعاباً مثيرة أو يقوم بعمل مثير، مثلما حصل لابنة نقيب الأشراف السيد عمر الذي كان له فضل تنصيب محمد علي باشا على مصر، فقد سار أمام زفة ابنته شاب شق بطنه وأخرج أمعاءه وحملها أمامه في صينية من الفضة حتى إذا انتهت الزفة أعاد أمعــــاءه إلى بطـــنه، وظــل طـــــريح الفراش أياماً حتي شفي ".


    "وفي المقابل يقوم (العريس) بالذهاب للحمام هو الآخر وهناك يبدل ملابسه، ويعود لبيته لتناول العشاء ثم الصلاة في المسجد، ويذهب إليها في زفة تشبه زفة العروس، وعند عودته من الصلاة يترك أصدقاءه ويصعد إلى عروسه التي يكون معها عدد من قريباتها، ويعطي (البلانة) هدية تأخذها وتغادر الغرفة، ويبقى وحده مع عروسه وهي تغطي وجهها ولا تكشفه إلا بعد أن يعطيها (حق كشف الوش) وتتمنع امعاناً في إظهار حيائها، وبعد رفع الغطاء عن وجهها يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ليلة مباركة، وترد عليه: الله يبارك فيك، ويلي ليلة الدخلة (السبوع) وفيه تقام ختمة، وفي يوم الأربعين تذهب العروس إلى الحمام ويعقب عودتها منه وليمة، وليس من الشائع تعدد الزوجات في مصر، ولا يعد التدخين أمراً يشين المرأة مهما علا قدرها، والغليون الذي تستخدمه أرشق من غليون الرجل، ويتعاطين مستحضرات للسمنة حتي يبلغ امتلاء الجسم الحد المرغوب، وبعض المستحضرات عبارة عن خنافس مهروسة، مع أن المصريين عكس المغاربة والأفارقة لا تعجبهم المرأة السمينة، وتقضــــي المرأة أوقات فراغها في أعمال شغـــل الإبرة وخاصة تطريز المناديل، والطرح ".



    "وحين تخرج نساء الطبقة العالية أو المتوسطة للزيارة لا يفعلن ذلك سيراً على الأقدام، بل يركبن الحمير، ويسير مع المرأة خادمان على جانب الحمار، وتخرج النساء عادة مع بعضهن فيسير الحمار خلف الحمار فيصبح منظرهن فريداً من نوعه والرجل المهذب لا يحدق فيهن بل يغض طرفه،وطعام الفلاحين في غالبه من الخبز واللبن والبيض والفسيخ والقثاء والبطيخ والقرع والبصل والكراث والفول والترمس والعدس واالتمر والمخلل، وكان الأرز غالياً ثمنه لا يأكلونه واللحم عسير المنال على الغالبية، وليس عندهم من متع إلا تدخين التبغ الرخيص، ومما يثير العجب والدهشة أن يكون طعام الفلاحين على هذه الدرجة من الجدب والهزال وهم مع ذلك أصحاء الأجسام أقوياء قادرون على أداء أشق الأعمال،ونساء الطبقة الفقيرة قلما يعرفن الفراغ وبعضهن يشقين أكثر مما يشـــــقى الرجال، وقلما يســـــمح للمرأة بالأكل مع زوجها، وهي التي تحمل (الحاجيات ) بينــما زوجها لا يحمل سوى غليونه ".

    مواهب المصريين

    وقد أعجب الرحالة لين أيما إعجاب بأخلاق المصريين " وهبهم الله مواهب عقلية ممتازة أهمها سرعة الفهم وحضور البديهة وقوة الذاكرة، واعتزازهم بدينهم، وتوقير نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نزلت بأحدهم نازلة صبر لها صبراً يعد مثالاً يحتذى، وحب الخير والإحسان فضيلتان يتميز بهما المصريون، وقد أثلج صدري أن رأيتهم يعطفون على الحيوان الأعجم، وإن وجد في أخلاقهم غلظة أو فظاظة فذلك راجع إلى سوء معاملة الأجانب لهم، ولم أشهد مصرياً يضرب حيواناً إلا في المدن التي يتردد عليها الإفرنج مثل القاهرة والإسكندرية وطيبة،وكرم الضيافة من صفات المصريين العامة، وهي صفة جديرة بالإعجاب، ومن عادة الطبقة العامة أن يتناولوا عشاءهم أمام منازلهم ويدعون كل من يمر لمشاركتهم، وهم يحافظون على الخبز محافظة شديدة وهو لذلك يسمي) عيش (ولا يفرطون في كسرة منه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهم حريصون على النظافة ويرجع ذلك إلى حث الدين على النظافة، ويتميزون بالعناد من قديم الزمان حتى إنهم كانوا أيام الرومان لا يدفعون الضرائب إلا بعد أن يضربوا ضرباً مبرحاً، ويتباهون بعدد الجلدات التي يتلقاها الواحد منهم،وهم يميلون إلى التهكم والسخرية ولغتهم العربية غنية بذلك، وأثناء زيارتي الأولى لمصر انتشرت أغنية بمنــــاسبة زيادة ضــــريبة الدخل التي تعرف بالفردة: (ياللي مفيش حيلتك غيـــر لبدة .. روح بيعها وادفع الفردة).

    المواسم والأعياد

    ويتحدث الرحالة بالتفصيل عن المواسم والأعياد في مصر وما يجري فيها، عاشوراء، و نزلة الحج في أواخر شهر صفر حيث تعود قافلة الحجاج المصريين من مكة المكرمة وفيها تحتفي الأسر بأقاربهم ممن أدوا فريضة الحج وعادوا سالمين، وفي الىوم التالي لعودة القافلة تحتفل البلاد بعودة المحمل، ويسير موكبه من الحصوة إلى القلعة مخترقاً شوارع العاصمة ، وفي ربيع الأول تبدأ الاستعدادات للمولد النبوي الشريف، وفي ربيع الثاني يقام مولد الحسين رضي الله عنه، وليلة التحري لرؤية هلال رمضان وليالي رمضان ، وعيد الفطر، واحتفالات بزيادة ماء النيل وفيضانه، وبالرغم من استشفاء الناس بالقرآن الكريم، إلا أن هناك الكثير من معتقدات الخرافات ومن ذلك نبات الصبر الذي يعلقونه على أبواب البيوت الجديدة كتعويذة لحياة سعيدة، ومنها أن يكسروا قلة خلف الشخص الذي يخشون أذاه، ويستخدمون حجر البنزهير ترياقاً للسموم، ويعالج الىرقان من مياه بئر تملكه عجوز يقال له بئر الىرقان" ويتبعون طريقة مضحكة في علاج الدمل الذي يظهر على حافة العين ويسمونه - شحاته - بأن يربط المصاب قطعة من القطن حول طرف عصا ثم يغمسها في أحد الأحواض المعدة لشرب الكلاب، والحكمة في العصا أن يتجنب وضع يده في الماء النجس".

    ويختم الرحالة رحلته بالفنون الشعبية في مصر: "ويقوم بأكثرها الدراويش في مناسبات عديدة، فأفراد من طائفتي السعدية والرفاعية يطوفون بالبيوت ويعرضون إخراج ما فيها من الأفاعي، مقابل أجر لا يكاد يقيم أودهم، وهناك الحواة الذين يقومون بألعابهم في الأماكن العامة، ويعرض بعضهم خدعاً معيبة، ومنهم من يخرج من فمه عدداً هائلاً من الأقمشة الحريرية المتعددة الألوان ويدخل في فمه قطناً ويخرجه ناراً، ومعظم ألعابهم تعتمد على خفة الىد، وهناك القرداتي الذي يبعث التسلية والمرح في قلوب العامة بما يقدمه من ألعاب يشترك فيها قرد وحمار وكلب وجدي"، ويتسلى الناس بمشاهدة تمثيليات فكاهية وهناك (لقراجوز) وقد أدخله الأتراك إلى مصر ولذلك تتكلم الدمي بالتركية، ويسمي بالعربية خيال الظل، وهناك وسيلة للتسلية أرقى مما ذكرنا وهي: رواة الحكايات الشعبية وأكبرهم (الأبو زيدية) الذين يروون سيرة أبي زيد الهلالى، والعناترة الذين يروون سيرة عنترة بن شداد، وآخرون يروون سيرة الظاهر بيبرس يسمون الظاهرية وسيرة دلهمة (ذي الهمة) وســــيف بن ذي يزن، وقصـــص ألف ليلة وليلة.

    ----------------------------------------

    المرجــــع:

    إنجليزي يتحدث عن مصر ـ تألىف: أ.و. لين ـ ترجمة: فاطمة محجوب من منشورات دار التحرير للطباعة والنشر ـ سلسلة كتاب للجميع ـ سبتمبر عام 1957م.

    المصدر





    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com





    رد مع اقتباس  
     

  2. #134 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    آتت هذه الرحلات من كبار علماء مكة العالمة إلى البلاد الإسلامية ثمارها ونتائجها الطيبة على الرغم من تعدد أسبابها، تتلخص هذه الآثار في الآتي:


    أولاً: إشاعة الوعي الإسلامي وتأسيس المدارس
    تجرد كثير من علماء مكة العالمة للدعوة إلى الله عز وجل، ونشر الإسلام، فكانت هذه غايتهم، وفي سبيل تحقيقها رحلوا إلى عدد من الأقطار الإسلامية في آسيا، وأفريقيا، السبيل إلى هذا هو التدريس، وتأسيس المدارس الدينية، فقد كان هذا ديدنهم إذا حلوا في البلاد التي رحلوا إليها.
    اضطلع بهذه المهمة عدد كبير من العلماء ومن هؤلاء:
    العلامة الفقيه الشيخ سعيد يماني رحمه الله (1265- 1352هـ):
    قام رحمه الله برحلة إلى أندونيسيا عام 1344هـ يرافقه أبناؤه العلماء: الشيخ حسن، وصالح، ومحمد علي رحمهم الله تعالى، فكانوا لا ينزلون بلداً إلا وتقام لهم حفلات التكريم، والتقدير من طلابهم المنتشرين في تلك الجهات، والذين قاموا بنشر الدين بين أبناء وطنهم.
    ● العلامة الشيخ محمد علي بن حسين المالكي رحمه الله تعالى (1287 - ألف وثلاثمائة وثمان وستين):
    "قام برحلة إلى أندونيسيا عام 1343 هـ ومكث به ثمانية عشر شهراً زار أثناءها سومطرة، ثم رجع إلى مكة وواصل تدريسه بالمسجد الحرام.
    وفي عام 1345 هـ، قام برحلة إلى أندونيسيا أيضاً وأقام بها ستة أشهر، مر في طريقه بملايا، وقابل السلطان إسكندر شاه بن سلطان إدريس شاه فأكرمه، وشمله بعطفة وإحسانه تقديراً لعلمه، ومكانته".
    رافق الأستاذ عمر عبد الجبار فضيلة الشيخ محمد على بن حسين المالكي في إحدي هذه الرحلات قائلا:
    "ولما قدم رحمه الله إلى أندونيسيا قابلت فضيلته في بنجر ماسين، ورافقته في زيارة طلابه العلماء المنتشرين في كل من (مرتفور، وكندا، وهليبو، وراباي، وأمنتاي)، وكانت تقام له في كل بلد ينزل فيها حفلات، تغص بطلاب العلم، فيدرسهم، ويعظهم، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة، فيقوم بترجمة دروسه أحد طلابه، ثم سافر إلى سربايا، وصولو، وجاكرتا، وغيرها من مدن أندونيسيا، فيكرم في كل بلد ينزل فيها"
    ● العلامة القاضي الشيخ أحمد بن عبد الله القاري (1309 - 1359 هـ): "سافر إلى الهند عام 1343 هـ، وأقام بها حوالي عامين.
    ● العلامة القاضي الشيخ حامد بن عبد الله القاري: رحل إلى الهند، وأندونيسيا، وسنغافورة حيث درس هناك، ثم سافر إلى بورنيو حيث عين مديراً للمدرسة الإسلامية هناك".
    ● العلامة المربي القدير الشيخ محمود عبد الله القاري رحمه الله
    (1320 - 1397):
    يتحدث الأديب الكبير الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار عن أستاذه الشيخ محمود عبد الله القاري وآثاره التي تركها في البلاد التي ارتحل إليها سنوات عديدة قائلا:
    "وكان يحسن بعض اللغات مثل اللغة الأندونيسية، والأردية، وله طلاب ينتشرون في آسيا، وأفريقيا، وبخاصة في أندونيسيا، وليست كثرتهم، لأنه قضى بها أربع سنوات من سنة 1344هـ إلى 1348هـ، بل لأنه كان بين طلبته بمكة في مدارسها وطلبته بالمسجد الحرام كثير من الأندونيسيين، ويعد الشيخ محمود قاري من بناة نهضة التعليم الإسلامي في أندونيسيا، فهو من واضعي المنهج، ومن أعظم من نشروا العلم فيها، حتى انتشر تلامذته في ذلك الأرخبيل"، يضيف الأديب الكبير الأستاذ عبد الغفور عطار قائلا:ً
    "وجيل شيخنا من الأساتذة جيل النابغين العباقرة، فكل مشائخنا، وأساتذتنا كانوا عظماء، كباراً في العلم، والفضل، والنبل، والأخــــلاق وهم الذين بنوا العلم، ونهضوا به..."
    ثانياً: شغل المناصب الدينية الرفيعة:
    شغل عدد من علماء مكة العالمة الذين رحلوا إلى بعض البلاد الإسلامية مناصب دينية وعلمية رفيعة مثل: مشيخة الإسلام، والإفتاء، والقضاء، وإدارة المؤسسات العلمية، فمن العلماء المكيين الذين تولوا مشيخة الإسلام:
    العلامة السيد عبد الله بن صدقة بن زيني دحلان، وذلك ببلدة قدح، وممن تولى الإفتاء في بلاد الملايو فضيلة العلامة الفقيه السيد عبد الله زواوي المكي، فقد ظل مفتياً للبلاد لمدة طويلة، كما تولى الإفتاء بولاية ترنقانو العــلامة الفقيه الشيخ حسن يماني رحمه الله تعالى.
    ثالثاً: تنمية حس الفقه الاستدلالي المقارن:
    كثيرا ما يستضاف علماء مكة العالمة في مجالس علماء البلاد التي رحلوا إليها، فتجرى في تلك المجالس بعض مذاكرات في المسائل الفقهية ولما كان المجتمع العلمي المكي منفتحاً على كل المذاهب، وللفقه الاستدلالي، والمقارن رواج بين فقهائه، في معرض ذكر آراء المجتهدين، يذكر استدلال كل فريق من المختلفين، ثم ترجيح واحد من تلك الآراء.
    هذا المنهج العلمي الفقهي لم تروض عليه بعض المدارس الفقهية في بعض البلاد الإسلامية، ولم يأخذ فقهاؤها أنفسهم بذلك، فيكون منهم موضع استنكار لو سلك فقيه غير مسلكهم.
    مع علماء السودان
    يــــذكر العلامــة الفقيه فضيلة الشيخ حسن بن محمد المشاط رحمه الله تعالى عندما رحل إلى السودان، وقد وجد من أهلها كل حب وتقدير وإكرام، كان حديثه عن بلاد السودان، وكرم أهله، وسماحة علمائه سبحة لسانه عندما تأتي المناسبة للحديث عن أهل السودان، يذكر أنه "أقام بالسودان خمسة أشهر عام 1364هـ، واجتمع بعلمائها ووجهائها، قابل الزعيم الديني السيد علي ميرغني، وكان محل الحفاوة والتقدير من أهلها، زار معاهدهم العلمية، وحاضر بالمساجد، وأحيا ندوات ومذاكرات علمية مع العلماء وطلاب العلم، وقد ذكر رحمه الله قصة طريفة لها مدلولها القريب والبعيد في مذكراته عن رحلته وانطباعاته عن السودان ذلك أنه:
    حضر دعوة الأستاذ الشيخ الفاتح بن قريب الله الذي جمع له كثيراً من العلماء بداره بالخرطوم "وجرت بيني وبين علمائهم مذاكرات جمة في العلم، وظهر أنهم جامدون على مسائل الفقه المجردة، ولا يرضون بذكر الأدلة، حتى إن بعضهم نصحني بعد أن ذكر أنه يحبني، وما حمله على النصح إلا الحب الخالص، ونصيحته: أنه شعر مني إذا ذكرت مسألة في الفقه ربما أذكر آية، أو حديثاً يصلح أن يكون دليلاً للمسألة، فأفادني ذلك العالم بأن هذه وظيفة المجتهد ونحن بعيدون عنها، فأفهمته بأن مرتبة المجتهد فوق ذلك بمراحل، ونحن إنما نذكر المسائل والاستنباطات نقلاً عنهم، لا من عند أنفسنا، وبذلك يبدو لنا اتساع دائرة الفقه، واتساع علوم أساتذتنا ومشايخنا في الفهم والاستنباط إلخ. فما رضي في ذلك ورأيت أن الأوفق التسليم".
    ويعقب فضيلته على هذا بقوله:"وهنا يناسب أن أذكر فائدة وقفت عليها في لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية أثناء كلامه في فضل العلم والعلماء، وما جاء في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قال رضي الله عنه ج 1، ص 26:(كان سفيان الثوري، وابن عيينة، وعبد الله بن سنان يقولون: لو كان أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد فقيهاً لا يتعلم الحديث، ومحدثاً لا يتعلم الفقه".
    مع علماء مصر
    ثم رحل منها إلى مصر وكانت له لقاءات علمية مع كبار علمائها وتبادل معهم الإجازات العلمية على عادة المحدثين والعلماء، لقي من كبار علمائها العلامة محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية سابقاًً بالدولة العثمانية، والعلامة الشيخ سلامة العزامي القضاعي، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ مصطفى الحمامي، والشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي شارح مسند الإمام أحمد، والشيخ عبد الله العربي المصري الذي بلغ من العمر مائة وأربعين عاماً، وقد أخبر الشيخ المشاط أنه أدرك الشيخ إبراهيم الباجوري.
    وقد كان موضع حفاوة الأوساط العلمية وتقديرهم، وألقى محاضرات ودروساً ببعض الجمعيات، والجوامع في القاهرة، ثم قام برحلة إلى الشام، لقي ببيروت العلامة محمد العربي العزوزي أمين الفتوى بالجمهورية اللبنانية، والشيخ عبد العزيز عيون السود أمين الفتوى بحمص، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة بحلب، والشيخ صالح فرفور، والشيخ عبد الوهاب الصلاحي، والشيخ محمد الكافي، والسيد زين العابدين بن الحسين شقيق السيد محمد الخضر حسين، والشيخ جميل الشطي وغيرهم من علماء الشام ممن كانت له معهم لقاءات علمية مفيدة، فأمضى بينهم ليالي وأياماً حافلة بالكرم والمناقشات والمذاكرات، وكانت مناسبة لزيارة كثير من الآثار والمعالم الإسلامية في تلك البلاد.
    ومنها توجه إلى مصر وأقام بها ما يقرب من الشهر، عاد بعدها إلى مكة المكرمة وقد صحب معه نوادر المؤلفات والكتب.
    رابعاً:التأليف في المناهج الدراسية:
    كان من ثمار رحلات علماء مكة العالمة أن اضطلع بعضهم بالتأليف في المناهج الدراسية التي تتلاءم مع بيئة البلاد التي رحلوا إليها، يبرز في مقدمة هؤلاء:
    * المربي الكبير الأستاذ عمر يحيى عبد الجبار رحمه الله (1318 - 1391هـ):
    يحكي الأستاذ عمر عبد الجبار تجربته في وضع المناهج لمدارس أندونيسيا أثناء إقامته بها:"وكنت... عام 1350هـ وضعت كتباً مدرسية للمدارس العربية في أندونيسيا تتمشى مع رغبتهم، وبيئتهم فلقيت من تشجيع (السيد محمد طاهر الدباغ) رحمه الله ما حفزني إلى متابعة التأليف والنشر والطبع، ومثله من يقدر، ويشجع على ما فيه الصالح العام".
    يتحدث الأديب الكبير الأستاذ عبد القدوس الأنصاري تنويهاً بنشاط الأستاذ عمر عبد الجبار في هذا المجال العلمي، وإعجاباً بكفاءته، وتقديراً لإنجازاته في مجال العلم والمعرفة قائلاً:
    "الأستاذ عمر عبد الجبار بدأ حياته العلمية بالمسجد الحرام، ثم بدراسة الفنون العسكرية في زمن الدولة الهاشمية... فدخل المدرسة الحربية بمكة المكرمة، وهي أول مدرسة حربية أنشئت في بلاد العرب، وتخرج منها ضابطاً، وزاول الحياة العسكرية القاسية في تمريناتها، وأعمالها المرهقة، فلما دالت الدولة الهاشمية رأيناه ينتقل إلى أندونيسيا، فإذا بذلك الشاب الذي نشأ نشأة عسكرية في أول حياته يصبح بعدها مؤلفاً ومدرساً، بل أول مؤلف للكتب الدراسية للأطفال باللغة العربية في تلك الديار النائية التي كانت تتمخض تحت وطأة الاستعمار الهولندي الغارب بنهضتها المرتقبة.
    وقد أقام عشر سنوات هنالك يمارس التأليف، ثم عاد إلى وطنه فافتتح مكتبة علمية في باب السلام عامرة بذخائر الكتب المفيدة".
    خامساً: التأليف في البلاد التي رحلوا إليها
    ألف بعض علماء مكة العالمة في القرن الرابع عشر مؤلفات في البلاد التي رحلوا إليها، فأصبحت مصادر يرجع إليها، من أبرز هؤلاء:
    * العلامة الشيخ محمد بن العلامة الشيخ خليفة النبهاني رحمهما الله تعالى (1301 - 1370هـ): "قام برحلة إلى البحرين عام 1331 هـ فاتسعت مداركه، وزادت علومه، وكان يدرس في كل بلد ينزل فيها إلى أن وصل في رحلته إلى العراق فنزل البصرة فعين قاضياً فيها، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى اعتقله الإنجليز، وســلبوا كتـــبه وأوراقه، ولما أفرج عنه عام 1334 هـ لم يــــؤذن له بمغادرة البصرة فظـــــل فـــيها إلى أن أدركته المنية عام 1370 هـ".
    كان من نتاج رحلة هذا العالم المكي أن ألف كتاب:
    (التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية)، وهي اثنا عشر جزءاً مزينة بالرسوم، وقد أصبح هذا أحد المصادر المهمة لكتاب (إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام) من تأليف العلامة المحدث الشيخ عبد الله غازي المكي رحمه الله تعالى.
    يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار رحمه الله على النشاط التأليفي للشيخ محمد بن خليفة النبهاني وما تمخضت عنه رحلاته من كتب مفيدة قائلا: "أرأيت كيف يكون النشاط في سبيل نشر العلم، ومحاربة الجهل؟ أرأيت كيف تستغل الرحلات لما فيه نفع الناس، وتخليد الذكر الطيب.
    لقد هاجر الشيخ محمد بن العلامة الشيخ خليفة النبهاني من وطنه (مكة المكرمة) مسقط رأسه إلى جزر الخليج العربي، والعراق فلم يستعذب الراحة، ويركن إلى الدعة، ويندفع وراء الترف وملذاته، وإنما كان يحمل في يده بذور العلم فيخفيها في كل أرض نزل فيها، ويتعهدها بسقيه حتى تنمو، وتؤتي أكلها، وتتسع لها العقول، وتتفتح أمامها الآفاق.
    ولئن فاتني الاستماع إلى درسه بالمسجد الحرام لم يفتني دراسة كتبه والانتفاع بذخائرها..."
    سادساً: توفير المصادر العلمية وتبادل المطبوعات:
    كان من دأب بعض علماء مكة العالمة الارتحال إلى بعض البلاد الإسلامية الشهيرة بمطابعها كالهند، وتركيا، ومصر، وبلاد الشام، وغيرها، وكان من أهداف رحلاتهم إحضار المطبوع من الكتب التي يحتاجونها شخصياً، وبعضهم اتخذ من الرحلة سبباً للتكسب في الكتب، يأخذون معهم مؤلفات علماء مكة لبيعها، وإذاعتها في البلاد التي يرحلون إليها.
    من أشهر هؤلاء العلامة المحدث، مسند الشرق العلامة الشيخ أبو الخير أحمد بن عثمان العطار (1277 - 1335هـ) فقد جاء في ترجمته أنه: كان يتجر بكتب الحديث فيجلب من الهند غريبها إلى الحجاز، ويحمل إلى الهند الغريب من كتب الحجاز، استمر على هذا المنوال حوالي خمسة عشر عاماً، حتى كون له مكتبة عامرة بصنوف كتب الحديث، فأكب على التأليف.
    سابعاً: التوسط بالإصلاح بين الجماعات
    من الأعمال التي اضطلع بها بعض علماء مكة العالمة تطوعاً في رحلاتهم إلى البلاد الإسلامية الإصلاح بين الجماعات الإسلامية المتنازعة، فقد قام العلامة السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بفض النزاع، والتوفيق بين جماعة السادة العلويين والإرشاديين في سنغافورة، يحكي هذه الوساطة الأستاذ عمر عبد الجبار قائلاً: "وفي عام 1531هـ تسلمت من سيادة السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله رسالة يستعجلني فيها بالسفر إلى سنغافورة، ونزلت بدار السيد عبد الواحد الجيلاني صاحب صحيفتي (الهدى) و(القصاص)، وكان من ألد أعداء السيد طاهر، والناقمين عليه فاستقبلني، وهو يقول: سافر الزعيم، سافر البطل، السيد طاهر الدباغ إلى عدن، بعد أن أمتلك قلوب أعدائه وأزال من نفوسهم ما علق فيها من بغض وكراهية، ثم استطرد قائلاً:
    (لقد أقام العلويون للسيد طاهر الدباغ حفلة تكريم، فحضرت إليها وفي نفسي من الشر وإثارة النفوس ضد السيد طاهر الدباغ أكثر مما نشرته (بالهدى والقصاص) من سباب وشتائم، ولكن لم يكد يصعد السيد طاهر على المنصة ويلقي كلمته حتى أزال من صدور أمثالي المتهورين المغرورين الناقمين على الرجل المصلح، والزعيم الحكيم ما نكنه له، فصرنا نصفق لكل كلمة ينطق بها، لقد قال في خطابه الخالد:
    إن الخلاف بين العلويين والإرشاديين يرجع إلى قشور لا قيمة لها بجانب رابطتهم الدينية والوطنية، ولقد درست أسباب هذا الخلاف فلم أجد مبرراً لخروج الفريقين عن جادة الاعتدال، وإني أشفق على المندفعين لتوسيع الخرق، وقطع روابط الإخاء، وسيأتي يوم يثوب فيه الشباب إلى رشده فيحملون مشاعل الإصلاح في المهجر، والوطن، لا فرق بين علوي، وإرشادي ما دامت كلمة التوحيد تجمع بينهما.
    ثم استطرد السيد عبد الواحد الجيلاني يصف دماثة أخلاق السيد طاهر، ومقابلته له بوجه باش، وابتسامة أخجلته، فاعتذر منه على كل ما نشر بالهدى، القصاص، فقال رحمه الله: لولا ما كتبته عني لما تعارفنا، وتصافينا فجزاك الله خيراً على فتح باب التعارف بنقدك اللاذع".
    يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار رحمه الله على هذه القصة قائلا: "وهكذا استطاع السيد طاهر الدباغ أن يحول قلوب أعدائه إلى أصدقاء مخلصين"
    ثامناً: نشاط متنوع:
    سجل التاريخ نشاطاً متنوعاً لبعض علماء مكة العالمة بالدعوة إلى الله، ونشر المعارف، وتأسيس المدارس، والجمعيات المختلفة في عدد من البلاد الإسلامية، وفض بعض النزاعات القديمة، وتأسيس صحافة إسلامية، يمثل هذا التنوع عدد من العلماء المكيين يقتصر البحث على عرض تاريخ عالمين جليلين:
    الأول: العلامة الفلكي السيد عبد الله بن صدفة بن زيني دحلان:
    (1288 - 1363هـ).
    الثاني: العلامة الفقيه القاضي الشيخ عبد الله بن أحمد المغربي رحمه الله (1311 - 1395هـ).
    وفيما يلي نبذة عن جهودهما المخلصة رحمهما الله:
    ● جاء في ترجمة العلامة الفلكي السيد عبد الله بن صدقة بن زيني دحلان.
    ● أما فضيلة الفقيه القاضي الشيخ عبد الله بن أحمد المغربي رحمه الله فقد قام بنشاط متعدد ومتنوع في بلاد الملايو: في التعليم، والقضاء، والدفاع عن الإسلام بصد افتراءات المبشرين، وإنشاء مطبعة خاصة بالمصحف الشريف، وغير ذلك مما جاء مفصلاً في مذكرة أعدتها حفيدته المصون سوسن بنت جابر عبد الله المغربي ملخصها أنه:
    ● في سنة 1340هـ (1921م) تولى إدارة مدرسة مشهور الإسلامية التي تعد النواة الأولى للنهضة الدينية والعلمية في الملايو.
    ● وفي سنة 1342هـ (1923م) تولى القضاء بجزيرة (فيننج) واستطاع أن يصلح بين فريقين متخاصمين اشتد العداء بينهما فأطفأ نار الخلاف والخصومة بينهما بعد أن تفاقم الأمر واشتد العداء بين الفريقين، وقد عرفت هذه القضية باسم (لبي موسى).
    ● عام 1347هـ أسندت إليه إدارة المدرسة السلطانية المسماة (المدرسة الإدريسية) في سلطنة فيرق.
    ● في سنة 1341هـ (1922م) استطاع بجهوده أن يعيد إلى جادة الإسلام فرقة (متهاري) المنحرفة الاعتقاد، فقد أعلنت توبتها على يديه.
    ● في أواخر سنة 2531 هـ (3391 م) قام بحملة صحفية ضد المبشرين، فنشر سلسلة من المقالات القوية كان من نتائجها تأسيس حركة إسلامية منظمة دخل بسببها كثير من سكان ساكي إلى الإسلام.
    ● في سنة 2431 هـ (3291 م) غادرت البلاد أول بعثة تعليمية إلى مصر، ثم تتابعت البعثات إلى مدارس مصر، والجامع الأزهر، ومدارس الهند.
    ● أسس في عام 1350هـ (1931م) مدرسة الهدى الدينية للبنين والبنات، وقد تمكن الشيخ عبد الله المغربي في سنة 1353هـ من شراء مطبعة، أطلق عليها اسم (مطبعة الهدى الدينية)، وكان من أهم إنجازاتها طباعة مصحف شريف عن نسخة تركية عرفت بالمصحف السلطاني الحميدي، وقد أشرف الشيخ على تصحيحه بنفسه، إلى غير ذلك من النشاط العلمي والاجتماعي الذي بذل نفسه له رحمه الله.
    تاسعاً: مهمات رسمية
    آخراً، وليس أخيرًا فإن من جملة رحلات علماء مكة العالمة ما اضطلع به بعضهم في القرن الرابع عشر الهجري من مهمات رسمية انتدبهم لها الوالي على البلاد مثل:
    القيام بالوساطة لإيقاف الحرب التي كانت دائرة بين الدولة التركية والمملكة اليمنية في وفد برئاسة العلامة عبد الله بن عباس بن صديق (1270 - 1353هـ):
    "انتدبه الشريف علي والي مكة المكرمة إلى صنعاء مع هيئة يرأسها من كبار علماء مكة المكرمة للتوسط بين الترك والإمام، فتوفي بصنعاء وكان من أعضاء الوفد العلامة الشيخ علي بن محمد سعيد بابصيل (1273 - 1353 هـ): رافق والده في الهيئة العلمية. سنة 1325 هـ للتوسط.. لإيقاف القتال، وإزالة سوء التفاهم بينهما. يقول الشيخ عمر عبد الجبار رحمه الله:
    "حدثني أحد أعضاء هذه الهيئة وهو الشيخ محمد فاضل كابلي المتوفى عام 1375هـ بقوله:
    رافقت الهيئة - يا ولدي - وكان رئيسها الشيخ عبد الله بن صديق مفتي الأحناف ابن الشيخ عباس بن صديق مفتي أحناف عصره، ومن أعضائها الشيخ محمد صالح كمال، والشيخ محمد سعيد بابصيل، وولده الشيخ علي بابصيل، والشيخ عمر باجنيد، والشيخ جعفر لبني، فلما وصلنا صنعاء سمح لنا قائد الجيش التركي بالمرور، فكتبنا للإمام يحيى نشعره بمهمتنا، فبعث وفداً من كبار علماء اليمن لاستقبالنا، فلما وصلنا القصر الملكي خف الإمام فعانق كل واحد منا وهو يقول: مرحباً بعلماء بيت الله الحرام (مرحباً بوفد مهبط الوحي والنور، مرحباً بوفد أقدس البلدان، مرحباً برسل السلام، أهلاً وسهلاً بكم في بلادكم، والله ما (نشتي) للنزاع، (ولا نشتي) سفك الدماء إنما (نشتي) دين الله، وإقامة حدود الله.
    فكان في كلامه جواب لمهمتنا، إذ ألمح فيه عن أسباب قتاله للترك، ولكن الهيئة رأت أن تكتب له ليكون جوابه مستنداً في مخابراتها مع أمير مكة الشريف علي بن عبد الله، فأجابهم رحمه الله ورحمهم...." يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار على هذه القصة قائلاً: "هذه قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على نشاط علماء العهد الماضي، واشتراكهم في جميع الميادين غير مبالين بمشاق الأسفار إلى بلاد بعيدة، حيث لا توجد في عصرهم من وسائل النقل غير الجمال، والبغال، والحمير، رائدهم الإصلاح، وفض النزاع بين المسلمين، توحيداً لكلمتهم، وجمعاً لشملهم".
    ومن المهام التي قام بها علماء مكة العالمة في رحلاتهم: ما يذكر عن السيد عباس ابن عبد العزيز المالكي (1270 - 1353هـ) انتدبه الشريف حسين بن علي إلى الحبشة لبناء مسجد للمسلمين فيها، ثم إلى بيت المقدس لبناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وحمل معه الأموال التي تجمعت من الاكتتاب لهذا الغرض"
    هذه نبذة موجزة عن بعض النتائج لرحلات علماء مكة العالمة في القرن الرابع عشر الهجري استشهاداً، وتمثيلاً وليست استقصاء، تصب جميعها في خدمة الإسلام والمسلمين، فمن ثم استحقوا الدعاء بالرحمة، والرضوان، والثناء الجميل من الأجيال اللاحقة.
    خلاصة علمية
    تبين من العرض السريع الموجز لنشاط علماء مكة العالمة الأجلاء في القرن الرابع عشر الهجري، بأن نشاط علمائه هو امتداد للمد العلمي في تاريخ مكة العالمة خلال القرون الماضية، يقول الأديب الكبير الشيخ عبد الله بلخير رحمه الله:
    "كان الحجاز (بعامة، ومكة المكرمة بخاصة) مباءة للعلم والمعارف، كل هذا خلال أربعة عشر قرناً، علماء ما وراء النهر في أفغانستان، وجنوب شرقي روسيا، وأطراف الصين الغربية، وأقطارها بما فيها إيران كانوا كعلماء المغرب والأندلس شهداء على هذه المسيرة العلمية المنقطعة النظير في تاريخ الحضارة البشرية، بما لا مقارنة معها مع أي جهد، أو بذل، أو دراسة، بل إنها أصبحت في جميع الأصقاع النائية المترامية الأطراف مدرسة سلوك، ونمطاً من أنماط الاقتداء والاقتفاء" والذين غادروا البلاد المقدسة، ورحلوا إلى بعض أقطار العالم الإسلامي، وبخاصة بلاد جنوب شرق آسيا، حافزهم إلى ذلك أسباب عديدة، تم ذكر عدد منها:
    ● الرغبة في القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم والمعرفة.
    ● الظروف السياسية والأمنية.
    ● التخلص من المناصب الحكومية، وبخاصة القضاء.
    ● الحصول على الأسانيد العالية من كبار علماء العالم الإسلامي.
    ● العمل على توفير المصادر والكتب بين مكة وبقية العالم الإسلامي.
    ● دعوة الطلاب الوافدين مشايخهم المكيين لزيارة بلادهم.
    ● القيام بالوساطة بين الدول والجماعات لإصلاح ذات البين.
    وبرغم اختلاف الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك فقد أسهم جميعهم اسهاماً كبيراً في بث الوعي الديني في البلاد التي رحلوا إليها، وسعيهم الحثيث لتثقيف الأمة الإسلامية، ونشر الوعي العلمي، وكان من ضمن ما اضطلعوا به القيام بعدد من الوظائف الدينية الرفيعة: مثل مشيخة الإسلام، القضاء، والافتاء، وإدارات المدارس الدينية، وتأسيس المؤسسات العلمية، وكان لهؤلاء العلماء رحمهم الله الدور الكبير في وطنهم مكة المكرمة وخارج بلادهم.
    إن مناسبة (مكة عاصمة الثقافة)، وإعلان هذا عالمياً من المنظمة الإسلامية للعلوم والفنون (الإسيسكو) حافز كبير لأبناء مكة خصوصاً، وأبناء المملكة العربية السعودية عموماً أن تظل مكة العالمة في مقدمة عواصم الثقافة في العلوم والمعارف، وأن يكون حاضرها ومستقبلها في نمو وازدهار دائم، وأن لا يدخر أبناؤها في جميع مواقعهم وسعاً في النهوض بها علمياً، واجتماعياً، وثقافياً، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  3. #135 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    سحر الرحيل إلى الشرق
    محمود قاسم

    ولسنا هنا فقط بصدد عرض هذا الكتاب، وتقديمه الى القاريء العربي، ولكن من المهم أن نشير الى أن هذه الرحلات قد اقتصرت فقط على الدول الاسلامية ومنها فلسطين، وسوريا، ومصر وتركيا والجزيرة العربية، اذن فكما رأينا، فليس كل ما ضمه هذا الكتاب الضخم عن رحلات الى كل دول الشرق العربي. بل الى بعضها. فقد خلا تماما من رحلات الى دول المغرب العربي على سبيل المثال.

    السؤال الملح.. لماذا هذه الجاذبية، ولماذا الرحيل الى الشرق بالذات..؟

    بدأت الأسباب الدينية من خلال رحلات التبشير، لكنها ما لبثت أن أصبحت سياسية تبعا للعلاقات التي ربطت بين العالمين. وقد تولد عن هذا الاحتكاك وتلك العلاقات حالة من التمازج الثقافي، فأبدى الغرب اعجابه بحكايات الشرق، خاصة الموجود منها في "الف ليلة وليلة" فحاول أن يزور الأرض التي حدثت فيها تلك الحكايات الجذابة.

    وعندما نطالع ما كتبه الرحالة الغربيون عن الشرق، سوف نلاحظ أن أغلب هؤلاء الرحالة الذين كتبوا من الأدباء، خاصة في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، مثل شاتو بريان، وجوستاف فلوبير ولامارتين.

    هؤلاء الرحالة كانوا ينظرون الى رحلاتهم بمثابة اكتشاف، أو تخيل، بمعنى أنهم كانوا طلائع المسافرين المحدثين الى الشرق. ولذا فسوف نرى أن كلمة الشرق قد تغيرت مفاهيمها في الموسوعات الأوروبية على مدى السنين، ففي بداية الأمر كانت أقرب الى معنى "الفضاء" الذي نقصده الآن. وفي بداية القرن التاسع عشر، ذكرت كلمة الشرق مرات قليلة في كتب الرحلات. ولعل الذي أرساها بالمعنى الأدبي هو الشاعر لامارتين في قصيدته "ذكريات، ومشاعر، وأفكار ومشاهد أثناء رحلة الى الشرق" عام 1835.

    ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت الرحلات الاستكشافية للشرق بمثابة حالات واجتهادات فردية، يقوم بها أشخاص فوق أحصنة، متجهين الى شرق أوروبا، فتركيا، ثم سوريا وفلسطين، ومصر. واذا كانت الحملة الفرنسية قد جاءت بحرا الى مصر. فان شاتوبريان قد وصل فوق حصانه الى أثينا، ثم الى مدينة القدس. ثم جاء الى القاهرة، وآثر أن يعود الى بلاده بحرا عن طريق الإسكندرية في شهر نوفمبر 1806. وليته ما فعل، فقد فاجأت السفينة التي يستقلها عاصفة بحرية شديدة جعلت السفينة تجنح الى تونس.

    ولم يكن السفر الى الشرق سهلا في تلك الآونة، فهو يتطلب تفرغا، ومشقة، وأهوالا كثيرة. ومساندة دبلوماسية. وقد تكلف الكثير في رحلة الشاعر لامارتين الى الشرق عامي 1832، 1833. ولم يطق أن يبتعد طويلا عن الشرق، فعاد مرة أخرى الى أسطنبول عام 1850 أي بعد الثورة التي شهدتها فرنسا عام 1848. فراح يبحث عن السلام في الشرق.

    وقد ساعد زيادة الرحيل الى الشرق التقدم التقني، واختراع القطارات البخارية، وتطور الملاحة البخارية، وجعل هناك حركة بريدية متميزة، وجاء محمد علي بالفرنسيين من أجل صناعة نهضة في الشرق على المستوى التقني. وبظهور الخطوط الملاحية المتطورة زاد عدد الرحلات، وكثر الرحالة، هؤلاء الذين لم يسعوا الى التعرف على المواني، والمدن الكبرى. ففي مصر على سبيل المثال، ربطت السكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية في خمسينات القرن التاسع عشر ثم امتدت هذه الخطوط الى صعيد البلاد. وما لبثت أن انتشرت في سوريا. فربطت بين دمشق وبيروت ويافا والقدس. ثم بين بغداد وتركيا وجبال الألب عابرة سلسلة جبال طوروس.

    وهكذا أصبح الرحيل الى الشرق عملية سهلة وسريعة في أقل من نصف قرن، فقد تمكن نرفال من الوصول الى الإسكندرية في اسبوعين لا أكثر في عام 1843. أما رحلة فلوبير، بعد أقل من ستة أعوام فد استغرقت ثمانية أيام. وهكذا بدأت السياحة الحديثة بصورتها التي تطورت الى ما نواه اليوم. هذه السياحة التي بدأها وبرع فيها الانجليز، وازدهرت بعد حفر قناة السويس. حيث بدأت سياحة "المجموعات". ورغم أن هذه السياحة بدأت دينية، الا أنها كانت من أجل التعرف على حضارات الاقدمين، في المقام الأول، وقد تتبع ذلك ظهور أدب الرحلات الى الشرق. وعندما بدأت الصراعات العسكرية بين دول أوروبا، خاصة بريطانيا، وفرنسا، فإن السائحين كانوا يلتقون لأول مرة في شوارع مدن الشرق، وفي فنادقها. وأيضا في دروب الصحراء. وقد بدا هؤلاء الغربيون مشدوهين بشكل الحياة في الشرق، في تلك الآونة، خاصة الجمال التي ترمز الى الصبر، وأشجار النخيل، والكثبان الرملية الغريبة الألوان.

    وقد تطلب وجود هذه الأفواج المتدفقة من السائحين، والعلماء، توفير الكثير من الخدمات الفندقية، والسياحية. وظهرت وظائف جديدة مثل الارشاد السياحي. وموظفي الفنادق الراقية.

    وعاد هؤلاء السائحون الى بلادهم ليعبروا عن سعادتهم بما شاهدوه، وعن دهشتهم لما عاشوا فيه ولا يمكن لشخص أن يؤلف كتابا عن رحلته الى الشرق في 1100 صفحة مثل الدكتور رافيل ايزامبير الا اذا كان قد شاهد في هذا الشرق ما يستحق الكتابة عنه في كل هذه الصفحات. ولم يكن كتابه "الشرق" هو الوحيد من نوعه، وحجمه، فقد ظهرت كتب عديدة لاشخاص شهدوا الرحيل الى الشرق. وشجع هذا الكثيرين للسفر نحو بلاد أخرى ليس من بينها دول البحر الأبيض المتوسط. بل اتجه الرحيل الى الجزيرة العربية.. ووجد أدب الرحلات الى الشرق مجالات جديدة، وموضوعات متنوعة. وأصبح الرحيل الى الشرق مرتبطا في الكثير من أشكاله بالكتابة عنه، وازدهر علم الاستشراق وأدب الكتابة عن السفر الى الشرق مثلما كتب الكونت فوريان: "قضينا الليل نائمين فوق الرمال. نشعر بدفء هذه الرمال التي امتصت أشعة الشمس طيلة النهار. ولم نحمى بأي برودة منتظرة. هكذا كانت الصحراء".

    ويقول الكاتب الروائي اندريه جيد الذي فاز بجائزة نوبل عام 1947 في كتابه عن "رحلاته": "أنا الآن عرفت أن حضارتنا الغربية ليست فقط أجمل الحضارات، كنت أعتقد أنها الوحيدة.الآن اكتشفنا أننا ميراث هذه الحضارات الشرقية. أما الشاعر لامارتين فيقول عن رحلاته الى الشرق: "أحسست أن جسدي وروحي هما أبناء ضوء الشمس.وأنهما في حاجة الى شعاع الحياة الذي يأتي من هناك".

    وقد أعلن لامارتين سخطه الشديد على حضارات الغرب التي ملأت الجو بالأدخنة، والغارات السامة. والعرق، والأوحال. وعلل كثرة السفر الى الشرق بأنه حالة فروبية الى أماكن أكثر نقاء وبراءة. وأطلق على هذه البلاد "أرض المعجزات". ويعترف لامارتين أن كلمة الشرق لا تعني أبدا التخلف، عند كل الأوروبيين بل هي تعني نهضة الروح، أنها قفزة نحو الامام، فنحن أمام طبيعة تقوم على أمس ثلاثة من مخلوقات الله عز وجل وهي الجبال والبحار والصحراء. ففيها تتوحد الكائنات بخالقها. "لم نكن نشعر بالملل قط من هذه الصباحات المنعشة، ولا من النوم في أحضان الشمس". ويعترف لامارتين، وهو من أهم الشعراء قاطبة في القرن التاسع عشر، أن وجود المرء في الشرق يحرره من خطيئته المرتبطة بالمتع المادية: "هكذا قضينا أغلب أوقاتنا. الرموش نصف مفتوحة. والأفكار شاردة. وترنيمات الصلاة على الشفاه. لم أعرف أي عطر يفوح من هذا العالم الشرقي الذي كان يغزونا، لا أعرف أي شيء كان يلمع ويشع فينا". هذه الرحلات ساعدت في تدبير منظور الغرب نحو الشرق، فهو لم يعد ذلك المكان الساحر الذي تدور فيه أحداث ألف ليلة وليلة، كما يقول جان كلود بريخت، والذي يعترف أن بعض الكتابات عن الشرق لم تكن صادقة مثلما فعل مونتسكيو. ولذا فليس من الكافي أبدا أن نقرأ الكتب كي نتعرف على الشرق. ولكن من المهم الاتصال به. لقد اكتشفنا أن هناك أخوة لنا يعيشون هناك. وعرفنا أنه ليس مجتمعا قائما على المتع الحسية. فقد أخطأ مونتسكيو عندما تصور أن حكام الشرق أشبه بنيرون. أما فولتير فقد أخطأ بدوره في كتابه "مقال في العادات" عندما نظر الى حكومات الشرق على أنها عبثية.

    ويهمنا هنا أن نقتبس الكثير مما كتبه أدباه مشهورون، ومقروءون، ورحالة موثوق بهم. فبعد لامارتين ونرفال جاء فلوبير مؤلف رواية "مدام بوفاري" واندريه جيد. فقد تغيرت نظرة فلوبير قليلا، لكنها لم تكن سيئة، فهو يرى أن الشرق يعيش في سبات، وسكون، وذلك تبعا لدرجة حرارة الجو التي قد تبعث على الكسل.

    ولم يخف الكاتب الرحالة نوشيه أن اكتشاف الشرق قد فتح عيون رجال الغرب على خصوبة الأرض، والكنوز المحفورة هنا في الشرق، فقال: "لدينا قوم أذكياء، وشجعان يطلبون هذه الأرض من أجل زراعتها، يجب أن ندوس على هذه الكنوز كي نستكشفها".

    مثل هذه المفاهيم عكست رؤية الغرب للشرق، وفسرت الأسباب التي دفعت الجيوش للتأهب من أجل القدوم الى الشرق، عند أي بادرة، وربما بلا سبب، مثلما حدث في مصر عام 1881. وذلك للبقاء فيه فترة طويلة. وقد بدا هذا المنظور في الدليل السياحي الذي أعدته الباحثة جوان عام 1878 حيث قالت: "ان هذا الشرق قد تجاوز السكون. وهو يتغير بسرعة".

    الجدير بالذكر أن عدد الرحالة الذين جاءوا الى الشرق كما ورد بيانهم في كتاب الرحيل الى الشرق، كبير ومتنوع. ويهمنا هنا أن نذكر الأدباء منهم، باعتبار أنهم الأكثر انتشارا بين الناس. منهم على سبيل المثال فرا نسوا دوشاتوبريان 1768 - 1848. والذي قام برحلة طويلة من باريس، مارا بأثينا واسطنبول. ووصل الى يافا في أول اكتوبر عام 1806 ثم وصل الى القاهرة ورحل منها الى تونس. وحول هذه الرحلة التي استغرقت قرابة عشرة أشهر ألف كتابا يحمل عنوان "رحلة من باريس الى القدس".

    أما جوستاف فلوبير ( 1821 - 1880) فقد رافق زميله ماكسيم عام 1849 الى الشرق وجاء ذكر رحلته الى الشرق في الجزء الثاني من "رحلاته" التي نشرت عقب وفاته. وقد عرف الفونس دولامارتين المجد في صباه وشبابه كشاعر متميز. ولا ينسى له العالم قصيدته التي يقول فيها: من العار أن يغني المرء بينما روما تحترق.

    ولامارتين عاش بين عامي 1790و1869. وقد رحل الى الشرق في وفد من المغامرين هم خمسة عشر رجلا في يوليو 1832. فزار دمشق وبيروت. والقدس. وقد اضطر للعودة الى باريس بسبب وفاة ابنته. ثم عاد في العام التالي الى الشرق ونشر كتابه عن "رحلة الى الشرق" في أربعة أجزه عام 1835.

    أما الأديب بيبر لوتي، فانه لا تأتى سيرته، الا وتذكر الناس الشرق، فهو لم يرحل فقط الى مدنه، بل عاش فيها وارتبط بها. واعتنق الاسلام، عاش بين عامي 1850 و1932. وتنقل بين مدن الشرق مثل دمشق، وبعلبك، والإسكندرية، والقاهرة، والجزيرة العربية، وله العديد من الكتب منها: "الزيادة".1879. و "اسطنبول" 1892. و"الصحراء" و"القدس" و"الجليل" عام 1895. ثم "الموت في فيله" عام 1908.

    كما جاءت شهرة جيرار دونرفال (1808-1995) أيضا من رحيله الى الشرق. حيث سافر من باريس في ديسمبر 1842. وركب سفينة رست به في الأسكندرية، وظل يتجول على ضفاف النيل وظل هناك لمدة عام بأكمله، وقد ذاق نرفال طعم السفر الى الشرق، فلم ينقطع عنه، ولا عن الكتابة حول "مشاهد من الحياة الشرقية".

    أما المؤرخ والفيلسوف ارنست رفيان (1823-1892) فقد سافر الى الشرق مع أخته هنرييت بناء على اقتراح من نابليون الثالث في مايو عام 1860. وأرخ لهذه الرحلة في كتابه الضخم "ذكريات الطفولة والشباب".

    الكتابة عن الشرق أشبه بالفرص في محيط جميل، واسع، مزدهر والتوغل في هذا البحر، الخضم، يجعل المرء يكتشف بسهولة أن الذين أعجبوا بالشرق وأحبوه، أكثر بكثير من الذين حاولوا انتقاده، ولعل هذا يفسر سبب تلك الزحمات المتدفقة من الزائرين لبلادنا، مهما كانت الأجواء، ومهما بدت الأزمات.. فالحياة تتدفق، ولا تتوقف عن الدوران، والسريان.

    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  4. #136 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    بقــــــلم
    أحمد محمّد محمود*
    اشتهر عهد السلطان سيدي محمد بن عبد اللّه، سلطان المغرب 1757-1790م بإصلاحات اقتصادية وسياسية في بلاده، في مقدمتها وصل ما انقطع من علاقات مع جيرانه الأوروبيين، وإخوانه من سلاطين وأمراء العالم الإسلامي، واشتهرت معها سفارة أوفدها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وتحديداً أول محرم من عام 1200هـ، إلى السلطان العثماني في اسطنبول، وتولاها وزيره وسفيره "محمد بن عبدالوهاب المكناسي عام 1785م، وحفظ لنا الرحالة السفير- المتوفى عام 1789م وقائع تفاصيل رحلته في سفر كبير بعنوان "إحراز المعلى والرقيب في حج بيت اللّه الحرام، وزيارة القدس الشريف، والخليل، وقبر الحبيب".
    وقد شملت رحلة المكناسي شمال المغرب اليوم وجزءاً من الأراضي الإسبانية عن طريق البحر، وتوقف في جزيرة صقلية بإيطاليا اليوم، ومنها بحراً إلى جزائر بحر إيجه، قبل أن تتوقف سفينته في اسطنبول فيســــتقبل فيــــها أحسن اســتقبال، ويــكرم الســــلطان عبدالحميد خان (1725-1789م) وفادته.
    وكما قرر محقق الرحلة "محمد بوكبوط" بأن رحلة المكناسي وسفارته إلى السلطان العثماني تســــاهم في تصحــيح كثير من المقولات التي علقت بتـــاريخ العثمانيين، من جــــراء اعتــماد شبه مطلق في تناول تاريخهم على كتـــابات وتقارير الأوروبيين".
    وبعد انتهاء تقديم رسالة سلطان المغرب وهداياه إلى السلطان العثماني، انطلق الرحالة المكناسي ضمن ركب الحج العثماني إلى الديار المقدسة بعد أكثر من ستة شهور من مغادرته المغرب، قاطعاً الأراضي العثمانية التركية في خمس مراحل كبيرة يتوقف الركب في كل مرحلة لأيام للراحة، وراحة الدواب وشراء المؤن وكراء ما يحتاجون من الدواب، حتى وصل إلى دمشق، فأقام بها 38 يوماً، حيث انضم الرحالة مجدداً إلى الركب الشامي، وقد قدمنا تفصيلاً لهذه المرحلة من رحلة المكناسي في عدد يناير لعام 2006م من مجلة أهلاً وسهلاً.
    ونواصل مع الرحالة تنقلاته من دمشق حتى عودته لوطنه، وهو يذكر لنا في كتاب رحلته كيف يتولى الحاج في دمشق واستعداداً للحج "كراء الدواب بالاتفاق مع (المقومين) الذين يقومون بأمر الحجاج ويحملونهم، ويقومون بأكلهم وشربهم، مقابل قدر من المال معلوم".
    وقبل خروج ركب الحج الشامي ومعه ركب الحج العثماني إلى الحج، يخرج قائد الركب الوزير في حاشيته قبل سفر الركب بثلاثة أيام رافعاً عَلَم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويوم خروج العلم من القلعة يوم مشهود، فيدخل قائد القلعة ومعه جمع من الحجاج ويفتحون الصندوق الذي بداخله العلم، فيغسلون مقبضه بماء الورد، ويبخرونه، ويضعونه على حامله، ثم يرفعونه خارجين به من القلعة وسط أصوات الطبول، ويسلم العلم لقائد ركب الحج (الوزيـــــر) بحضور القاضي والمفتي، وتخرج مدافع كثيرة في مهرجان عظيم إيذاناً بخروج الوزير والعلم.
    ويتقدم الوزير بحاشيته ومعه العلم فيقضي في "مزيريب" ثلاثة أيام، قبل أن يتحرك ركب الحج الشامي والعثماني، وقبل التحاقه برئيس الركب في مزيريب يمر الرحالة بالصالحية والربوة غربي دمشق، وهي المذكورة في القرآن الكريم {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} "سورة المؤمنون من الآية 50" ثم بعد صلاة العشاء وطلوع القمر حملنا وركبنا الأتخات تحملها الإبل، وسرنا في المدينة العامرة بالناس الذين جاءوا لتوديع الحجاج، وخرجنا من "بوابة اللّه" ووصلنا إلى التمثالين (من أعمال حوران) فأقمنا بها حتى انكسر الحر وتحركت الرياح، وواصلنا السير حتى مزيريب حيث كان في استقبال ركب الحجيج الشامي، قائد الركب الوزير الباشا الذي ســـبقنا إلى هناك، كما سبقت الإشارة.
    إلى الديار المقدسة
    في 72 شوال من عام 1200هـ- 1785م، أخرج الوزير، قائد ركب الحجيج المدافع في مزيريب إيذاناً ببدء انطلاق الركب إلى الديار المقدسة "وسرنا في أرض منفسحة، ولكن بعد نصف ميل من مغادرتنا مزيريب رأينا أحمال الباشا قائد الركب ملقاة على الطريق، وفر أصحاب الدواب عنها بالكراء، وفي نصف الليل أشرفنا على الخيام في قرية يقال لها "الرمثا" والتي منها يتزود الحجيج بالمؤن، وكنا سننزل في "المفرق" بعدها لولا أن ثبطنا ما حصل للأحمال التي رماها المقومون في الطريق، وحتى يتسنى لقائد الركب تدبر كراء دواب جديدة تحملها".
    "أقمنا في المدينة التي تقع في منطقة صحراوية والحر شديد، وواصلنا السير حتى "الزرقا" فأقمنا بواديها، وغسل الناس ثيابهم واستراحوا واستراحت الإبل، وواصلنا إلى "خان الزبيب" والذي اكتسب اسمه من تلقي أهل الشام للحجاج في العودة يبيعونهم الفواكه الطازجة، وسرنا في النهار لأن الطريق ذات حجارة كثيرة، وصعود وهبوط، ففيه مشقة على الإبل لاسيما بالليل، فمن أجل ذلك ساروا نهاراً متحملين مشقة الحر".
    "ومنها إلى البلقاء وبنيت هناك قلعة على بئر ماء، ومنها إلى وادي النسور وهو منخفض من الأرض، ومنه إلى قرية "قطرانة" مبنية على بركة ماء لشرب الحجاج، وهنا وضع قائد الركب في قلعة القرية أثقالهم التي لا يحتاجون إليها حتى رجوعهم من الحج، ويجعل كل واحد متاعه في بيت من بيوتها، أو ناحية من نواحيها، وبها أناس ساكنون بها يحرسون، ومنها وصل ركب الحجيج إلى "بغاز الحسا" بها قلعة وبركة ماء، ولما كان ماؤها لا يكفي الحجاج فقد تركها قائد الركب لحين السقيا منها في عودة الحجيج، وهذا البغاز طوله بين الجبال مسيرة أربع ساعات، وهو مخيف، وقبل أن نصل إليه تقدم العسكر المرافقون لركب الحجيج فسيطروا عليه، وتفرقوا فوق قمم جباله عن اليمين والشمال مشرفين على الوادي، وراياتهم وعلاماتهم مركوزة في الأرض، خشية أن يسبق إليه قطاع الطرق فلا يتركون الحجاج يسيرون مواصلين سفرهم حتى يرضوهم بالمال".
    وبعد هذا الوادي نزل ركب الحجيج على "بركة ماء يقال لها عنزة وتحمل اسم قبيلة عربية هذه ديارها، يحمون المنطقة، فنزل بها الركب وشرب الناس، واستقت الدواب، وطبخ الناس غداءهم وعشاءهم، ومنها إلى "معان" وفيها عيون وبساتين، ووجدنا بها عنباً ورماناً، إلا أنها خراب، وقد أباد أهلها الجوع والقحط، فلم يبق منهم إلا قليل، وقد كانت من قبل على أحسن حال وأكمله، من العمارة والتجارة وتيسر الأشياء فيها، أما اليوم فيكفيك من الشر سماعه".
    وفيها أقام ركب الحجيج يومين للراحة، لأن "معان" تشكل انتهاء أولى مراحل الطريق التي يتوقف فيها الركب للراحة وإراحة الدواب، واستكمال شراء التموين اللازم للمرحلة القادمة "ومنها سار ركب الحجيج إلى العقبة، وقد كانت من قبل صعبة، يمر فيها الجمل الواحد في إثر جمل، وفي زمن عثمان باشا أمير الشام فتح العقبة بالمعاول ووسعها وسواها، فهي اليوم يمر بها الستة والسبعة من الإبل، وبعد تجاوز العقبة انحدرنا إلى رمل، ومن هنا إلى مكة كله رمل، وهذا أول الحجاز".
    وواصل الركب سيره إلى المدورة وفيها قلعة و"ينبع الماء من عمق قريب، منه يستقي الحجاج ويشربون، وقد أداروا على منابعه سوراً يرد عنه الرمل لئلا يغطيها، ومنها إلى ذات حج وماؤها كثير إلا أن رائحته كريهة، وكنا نشرب ونتوضأ من الماء الذي حملناه من المدورة، ووصلنا "القاع" ويقال له قاع البزو وهو أرض منبسطة مستوية عرية من النبات، ليس بها ماء، وواصلنا سيرنا منها في حر كأنه لهيب النار حتى وصلنا إلى تبوك".
    "وبتبوك قلعة وبركة ماء، وبساتين، وجاء أهلها يبيعون ما عندهم من العنب والرمان، ومنها واصل الركب سيره فنزل في "ظهر مغر" حيث لا ماء، لأن التوقف المفترض كان في محطة الأخضر والتي يقال إن بها بئراً وجدت محفورة وليس بينها وبين مدائن صالح مواقع مياه، مما دفع رئيس الركب للتوقف للتزود بما يكفي من الماء للأيام الثلاثة القادمة من السفر".
    ومرّ ركب الحجيج في أرض "كثيرة الحجارة بها مضيق تمت حراسته حتى تجاوزه الركب خوفاً على الحجاج من قطاع الطرق، وقد وسع هذا المضيق عثمان باشا حاكم الشام حتى أصبح يمر بها ستة جمال في وقت واحد، بعد أن كان لا يستطيع اجتيازه إلا جمل في إثر جمل، ووصل الركب إلى الأخضرومنها إلى قلعة المعظم وماؤها فاسد، ومنها إلى الحمراء، فمدائن صالح".
    آثار مبهرة
    ولأن هذه منطقة آثار الأمم الغابرة التي سكنتها، فقد انبهر الرحالة المكناسي"لشكل الجبال فيها، المقلوب عاليها سافلها والعياذ باللّه، والسير في أراضيها صعب وأكثرها حجارة وصخور، وقد بلغناها على آخر رمق، فقد نفد الماء وكثر الحر والعطش بين الركب، فاستقى الناس لأنفسهم وللدواب، وحملوا منها الماء للمرحلة التالية، بعد أن اختار قائد الركب طريقاً مختصراً، لكن لا ماء فيه، ووصل الركب إلى "البير الجديد" ومنها شرب الناس والدواب وواصل الركب ،ومات في هذا اليوم 175 من الآدميين، ومنهم من رأيناه على قارعة الطريق، ومنهم من أخبــــرنا عنــه، أما الإبل فمات منها الشيء الكثير".
    "وماء هدية قريب على عمق ذراع بعد الحفر في الأرض، وهو ليس بعذب، لكنه يسبب الإسهال لشاربه بسبب كثرة ما ينبت في المنطقة من السنا، ومنها وصل الركب إلى "الفحلتين" وكانت تسمى حصن عنتر ومنها إلى "آبار ناصف" وماؤها أحسن من سابقه، ومنها نزلنا بظاهر المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وبتنا في الخيام بسفح جبل سلع".
    "وأول ما فعلنا، أن اغتسلنا ولبسنا الثياب البيض، وتطيبنا، وتوجهنا لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة فيه والسلام عليه صلى اللّه عليه وسلم وعلى صاحبيه عليهم رضوان اللّه، توجهنا على أرجلنا وصلينا في محراب رسول اللّه بالروضة الشريفة".
    "وخرجنا للبقيع، فزرنا آل البيت رضي اللّه عنهم، وجماعة من الصحابة ممن دفنوا بالبقيع".
    "وكان مقامنا بالمدينة ثلاثة أيام، وتوجهنا في الثالث إلى ذي الحليفة فنزل الناس وابتنوا الخيام، واستقوا لتلك الليلة واليوم بعدها لعدم وجود الماء في الطريق، وتهيأ من تعين عليه الإحرام من هذا الميقات، وسرنا الليل كله إلى "الشهداء" والبلاد إلى هذا الموضع كلها جبال وأرضها كثيرة الحجارة، كثيرة الحر، ومنها نزلنا "الجديدة" وتسمى بالخيف، ليس هناك بين مكة والمدينة أفضل من مائها، ووجدناها خربة فقد خربها سلطان مكة الشريف سرور بن مساعد بن سعيد وبعدها مررنا "بالصفراء" وهي قرى ذات بساتين ونخيل كثير، فكان أهلها يبيعون بالليل على قارعة الطريق التمر والليم على ضوء جريد النخل، وتلاقينا في الطريق مع حجاج المغرب فجددنا العهد بخبرهم، وناولونا رسائل حملوها من المغرب لنا، ووصلنا إلى "القاع" ومن الغد نزلنا رابغ".
    "ومن رابغ أحرم الناس وأحرمتُ معهم، فرابغ هي ميقاتنا، ونزلنا من الغد في قديد وبها قرى ونخيل لكنها خربة، وتوجه الناس لسقي الماء من مكان بعيد، وبعدها وصلنا إلى "خليص" وماؤها عذب وتزودنا بحاجتنا منه، ثم مررنا بعقبة السكر وهي شرف من الأرض في غاية الصعوبة، تدخل فيه أرجل الإبل والبهائم إلى سيقانها، فوصلنا "سبيل الجواخي" وفي السابع من شهر ذي الحجة نزلنا بظاهر مكة، واغتسلنا فيها للطواف، لأنه لم يمكن لنا الاغتسال بذي طوى لعدم مرورنا عليه".
    في المسجد الحرام
    واكترى الرحالة داراً بمكة قريبة من المسجد الحرام، فكان يقضي معظم الوقت في المسجد ،وخطب الخطيب في اليوم السابع إحدى خطب الحج، ويوم التروية خرج الناس إلى منى، ولم ينزلوا بها ولا باتوا فيها، فقد أميتت هذه السنة، وصار الناس في هذا الزمان يخرجون مباشرة إلى عرفات يوم الثامن وفعلنا مثلهم، وقد عمرت عرفات بسوق عظيم، وخرج الناس إليها بجميع المأكولات والمشروبات والأمتعة، والأعناب والرمان من الطائف، وخطب الخطيب الخطبة الثانية للحج في مسجد نمرة".
    "وكان المسجد (نمرة) مليئاً ببعر الغنم، حيث يدخله الرعاة بمواشيهم، يقيلون فيه، ووقف الخطيب في عرفة على ناقته قريباً من الجبال يلقي خطبته، واستمر فيها حتى غربت الشمس، ودفع الناس من عرفة إلى مزدلفة فنزلنا بها بغير خيام، ووقفنا بعد الصبح بالمشعر الحرام، ومنه نفرنا إلى منى فرمينا العقبة، وتحللنا، وتوجهنا بعد لبس ثيابنا إلى مكة لطواف الإفاضة، وأكملنا النسك يومي التشريق، وكان يقع فيهما مهرجان عظيم ليلاً يبيت الناس ليلتهم يترامون بالمحاريق، وتعجلنا وتعجل الناس كلهم، ولم يبت أحد ليلة الرابع في منى، وقد أميتت أيضاً سنة التحصيب فلم ينزل به أحد".
    "توجهنا للتنعيم وأحرمنا منه بعمرة، وفيه بركة ماء، لكن بها بعض الخراب فليس بها ماء، وبعد إكمال العمرة بقينا مدة مقامنا ملازمين البيت الحرام للصلاة فيه حتى جاء موعد الرحيل، فطفنا طواف الوداع، وسألت عن كدي لأخرج منه فلم يعرفه من كان حاضراً معنا، فخرجنا من مكة وقلوبنا منكسرة وأنفسنا من الفراق متحسرة، لا حرمنا اللّه من رؤيتها".
    وعاد الرحالة المكناسي مع الحج الشامي كما جاء ماراً بالمدينة، ومنها إلى الشام آخذين طريقهم الذي سلكوه للحج، وخلال غيبة الرحالة أصاب دمشق وباء مات فيه خلق كثير حتى قيل "إنهم كانوا يدفنون نحو الخمسمائة كل يوم ممن ماتوا بسببه".
    في القدس الشريف
    ومن دمشق توجه الرحالة في زيارة لعكا يوم 9 ربيع الأول عام 1202هـ "ولما قربنا منها أرسلنا من يكتري لنا داراً ننزل بها، فطاف البلاد كلها فلم يجد منزلاً، فسمع بذلك الوزير صاحب البلد (أحمد باشا الجزار) فعين لنا منزلاً مشرفاً على البحر في أحسن حال، ولهذا الوزير أثر كبير بهذه المدينة، وهو الذي شهرها وبه اشتهرت، وأهل البلد يثنون عليه كثيراً، وله جرايات على الضعفاء والفقراء ورواتب للذين لا يسألون الناس إلحافاً".
    وقضى الرحالة تسعة أيام بعكا، رتب خلالها رحلة العودة إلى المغرب على سفينة، بينما كان صاحب السفينة يجهزها للسفر، انصرف الرحالة لزيارة بعض مدن فلسطين وفي مقدمتها القدس الشريف فزار نابلس "وهي متوسطة بين جبال مرآها حسن، وبناؤها كله بالحجارة المنحوتة وماؤها كثير وذات بساتين، إلا أن أزقتها كثيرة العفونات والطريق إليها من قلعتها في صعود وهبوط وحجارة".
    وزار القدس "ولها سور حصين، مبني بالحجارة في غاية الإتقان، وأبوابه حصينة الإغلاق ستة هي (العمود، الزاهرة، الأسباط، المغاربة، النبي داود والخليل) وكان أول ما فعلناه أن توجهنا للمسجد الأقصى، فدخلنا أولاً إلى قبة الصخرة" وقدم الرحالة وصفاً وافياً لبنائها، وقبتها وأعمدتها" والمكان تحت الصخرة كثير الأنس، يجد الإنسان فيه نشاطاً وخفة، وانشراحاً لعبادة اللّه" كما قدم وصفاً وافياً للمسجد الأقصى:محرابه، بناؤه، مكسو من داخله بألواح من الرخام عددها 17، ثمانية بيض وحمر ترمز إلى صلاتي الظهر والعصر، وثلاثة سود ترمز إلى صلاة المغرب، واثنتان خضروان ترمزان لصلاة الصبح، وأبوابه 11 باباً، والمسجد مسور "ولأهل بيت المقدس بشاشة وطلاقة وأخلاق حسنة، وميل إلى مؤانسة الغريب، ومسامرته والمحادثة معه".
    ومن بعد هذه الزيارة توجه الرحالة المكناسي لزيارة طور سيناء "ومن جبل الطور يظهر بيت المقدس في غاية البهاء والابتهاج وحسن المنظر، وكذا من جهة القبلة "ومنها توجه لزيارة الخليل "وهي في قبلة القدس، أشبه شيء بمكة عند أول نظرة، مبنية على جبال، فزرنا خليل الرحمن عليه السلام وزوجته أم الأنبياء سارة".
    وفي 27 ربيع الثاني بدأت رحلة العودة، من عكا إلى قبرس (قبرص) وبقي فيها 10 أيام "وهي جزيرة كثيرة الخصب والرخاء والخير، فنزلنا إلى برها فاسترحنا من دوار البحر، وهي خفيفة العمارة، ومنها توجهنا بحراً إلى مرسيليا من أرض (الفرانصيص) آخر الشتاء ووقت هيجان البحر وطغيانه، فلاقينا من شدة أهواله ما يئسنا به من الحياة، فإن كان الريح مواتياً أتانا وهو عاصف، وأثار أمواجاً لا يصفها لعظمها واصف، وإن كان الريح غير موافق ترجحت البوائق، وتطلعت لولا فضل اللّه بأعناقها العوائق، وبلغت الروح التراقي، مع الإخلال بأركان الصلاة، فالغالب نصليها جلوساً، وربما صلينا إيماءً وبالتيمم لعدم القدرة على استخدام الماء".
    وقد دفع هذا الرحالة إلى أن يطلب من قائد السفينة لما واجهت الشواطئ التونسية أن يتوقف في مينائها، لينزل فيها ويعود منها براً إلى بلاده، متنازلاً لقائد السفينة عن بقية الأجر إلى مرسيليا، وأرسل من يكتري له داراً في تونس مع رفاقه "ولما علم أمير البلد بذلك خصص لهم سكناً من أفضل دور البلد، وعين لهم قيماً يتولى الطعام والمؤنة، وبعد ستة أيام استدعانا الأمير لملاقاته" "ومدينة تونس كبيرة، مقصودة للمراكب البحرية، كثيرة الزيتون، تصدر منه إلى بر النصارى طول العام، وفيها 300 معصرة للزيتون، ولأهلها رفاهية، وتأنق في الملبس، واعتناء بالطيب وجامع الزيتونة معمور بقراءة القرآن والتدريس متصلاً ذلك بياض النهار، وقد مات من علمائها وطلبتها كثيرون بالوباء (الطاعون) الذي اجتاحها عام 1200هـ وما بعدها، وتمادى إلى قرب وصولنا، فوجدناه انقطع".
    وأقام الرحالة في تونس 22 يوماً، وغادرها في ثاني رجب من عام 1202هـ، ولقي من الإكرام من ولاة المدن التي مر بها في تونس الكثير بسبب توصية أميرها، وكمثال على ذلك ما لقيه عندما مر بـ(تستر) "فخرج أهلها بطبولهم كباراً وصغاراً،
    وبالغوا في الترحيب والفرح وإبداء البشاشة، وبنيت الخيام وأتونا بالأطعمة الكثيرة، وبالعلف للدواب، وبالغوا في الإكرام، وأكثر سكانها من الأندلس وهم ممن يطلق عليهم المورسكيين.
    ومنها وصل إلى الجزائر، ماراً بقسنطينة، وسماها الرحالة (قصمطينة) "مبنية على ربوة عالية يمر بأصلها الوادي ومنه يشربون، يحمل منه الماء في القرب الكبار على الدواب للمدينة كلها وحماماتها ومساجدها، يسقفون أسطحة بيوتهم بالقرميد ولعله من أجل الثلج، لا يكاد الإنسان يمشي فيها من ازدحام الناس، ما رأيت بلداً أكثر وارداً منها، وهي منبع البغال، ومنها تفرق في البلاد، قضينا فيها سبعة أيام وتوجهنا منها إلى الجزائر".
    ولما وصل الرحالة إلى الجزائر نصب خيامه خارجها بسبب انتشار الوباء (الطاعون) بها، وقد "خف أمره، فكان يموت في اليوم نحو العشرة، فيما كان يموت عند اشتداده قبلُ 300 يومياً" ،ومنها توجه إلى تلمسان "وهي كبيرة مشهورة، كثيرة المياه والبساتين والزيتون والحدائق، إلا أن الخراب استولى على كثير من أطرافها، فلم يبق إلا رسومها، وزادها عمال الجور والظلم، فقد استولوا على ما بأيدي الناس، حتى لجأ الناس إلى مقايضة الأشياء التي يحتاجونها من السوق بالزروع، ونال الظلم الحجاج المارين بالبلدة حيث يؤخذ منهم المال على أمتعتهم وحوائجهم".
    ومــــن تلمسان دخل الرحالة حدود الأراضي المغــــربية، بادئاً "بوجدة، >فبتنا عند عامل الســـلطان، وهي من أول أهل طاعته، ومنها إلى "فاس" فتلقانا الإخوان والأحباب عند وادي سبو، فجمع اللّه شملنا برؤيتهم، واســــتعد بعض الأحــباب بطـــــعام كثير أحضره على ضـــفة الوادي، ونزلنــــا فــــاس في آخــر يوم من شعبان 1202هـ".
    وكان السلطان في "مكناس" فأرسل إلى الرحالة المكناسي الذي توجه لملاقاته، ليقدم تقريره عن المهمة التي أوفده إليها في عاصمة الدولة العثمانية، وفي الحرمين الشريفين "فدخلنا عليه في منطقة وادي العطشان، فيما بين فاس ومكناس، ثم تعاطينا معه أخبار الحرمين الشريفين والمشرق والشام والقسطنطينية، وغيرها من البلدان التي رأيناها ومررنا بها" ولم يطل به المقام في فاس حتى استدعاه السلطان للقيام بمهمة في الجزائر، فقد كان "عظيم الإصبنيول أرسل لسلطان المغرب على سبيل الإهداء أسارى مسلمين كانوا في الأسر في معارك إسبانية جزائرية، وبعد الصلح بينهما تقرر فداء أسرى الجانبين على ما تقتضيه قوانين الصلح لكن أمير الجزائر امتنع عن إعطاء المال في هؤلاء الأسرى ولم يقبل أن يفديهم ، فغضب عظيم الإصبنيول وقرر إرسال الأسرى من المسلمين إلى سلطان المغرب على سبيل الهدية" وتوجه الرحالة إلى السلطان في مكان إقامته في الحيانية "فناداني وقال: هؤلاء أسارى المسلمين أنقذهم اللّه على أيدينا وللّه الحمد، أردنا إيصالهم إلى بلادهم، فأردنا أن تغتنم ثوابهم وأجرهم، فتتوجه معهم وترعاهم في تنقلهم وأكلهم وشربهم، حتى توصلهم إلى تلمسان وتسلمهم إلى واليها، وتفرق عليهم صلة (خصصها لهم السلطان) هناك، بحساب 01 مثاقيل من الذهب لكل أسير".
    وقد قام المكناسي بالمهمة خير قيام، وعاد إلى مكان وجود السلطان في حصن دار دبيبغ المشهور "فتلاقينا معه أيده اللّه ونصره في أسعد الأوقات، ملقىً جميلاً أنسى النفس مشقة الطرقات، وتهادينا معه أكرمه اللّه وأعزه خبر تلك النواحي، وعشائر تلك الضواحي". وبعد ذلك وجه السلطان بأن يقضي الصيف في المنطقة، قبل أن يأذن له بالتوجه إلى مكناسة حيث الأهل والولدان والإخوان والأخدان والعشائر والأصحاب، والأصدقاء والأحباب.
    بلاد بها نيطت عليّ تمائمي*
    وأول أرض مس جلدي ترابها
    ولابد أن يخصص الرحالة المكناسي لبلدته مساحة وافرة من مشاعره وفي وصفها "بلد خيرها كثير وماؤها عذب نمير، وهواؤها صحيح، وحوزها فسيح"
    يكفيك من مكناسة أرجاؤها*
    والأطيبان هواؤها والماء
    ومع ذلك فلم يكن الرحالة راضـــياً عما آل إليه حال مدينته "دخلت مكناسة هذه مراراً عديدة، وقد أبلى الدهر محاسنها التي كانت جديدة، واستولى عليها الخراب، وتكدر منها بالفتن الشراب، واللّه يجبر حالها، ويعقب بالخصب أمحالها، وهي الآن على ماذكر من الأوصاف، مع تهدم الأطراف، وكان دخولنا إليها ضحى يوم الثلاثاء لست بقين من شوال من عام 1202هـ فكانت مدة الغيبة عنها ثلاث سنين تنقص شهراً ونصفاً".
    وألقت عصاها واستقر بها النوى*
    كما قرّ عيناً بالإياب المسافر


    -----------------------
    *كاتب سعودي
    المرجع:
    1- رحلة المكناسي ـ إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام، حققها وقدم لها: محمد بوكبوط ـ الناشر: دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة ـ والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت لبنان ـ ط أولى عام 2003 م.
    2- الأعلام ـ خير الدين الزركلي.



    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  5. #137 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36




    القدس في كتابات رحالة غربيين

    حظيت القدس بما لم تحظ به مدينة أخرى من كتابات الرحالة الغربيين، وتملأ هذه الكتابات مجلدات عديدة، نختار هنا فقرات صغيرة منها.
    في القرن الخامس عشر الميلادي، زار الرحالة فيلكس فابري مدينة بيت المقدس، وكتب في وصف أحد الكتاتيب فيها:
    بينما كنت نازلا من جبل صهيون في طريقي إلى الكنيسة للصلاة، سمعت أولادا يقرأون بصوت مرتفع، فاقتربت من باب المدرسة، ونظرت إليهم، فرأيت صبيانا جالسين على الأرض في صفوف، وكانوا كلهم يرددون مجتمعين نفس الكلمات بصوت واحد، ويهزون رؤؤسهم أماما وخلفا.
    وقد استطعت أن أحفظ الكلمات التي رددوها مع موسيقاها، وهي أول ما يعلمون صبيانهم لأنها أصول عقيدتهم.
    وفي القرن السادس عشر، زار عالم النبات الفرنسي بيربيلون مدينة القدس، وقال في وصفها: أصبح لها منذ فترة قريبة أسوار عالية جديدة ولكنها ضعيفة البنية، والبيوت فيها مغطاة بشرفات على الأسطح، والمخازن في الأسواق الرئيسية مقببة كالإسكندرية، مع فارق أن قبب القدس، مبنية من حجارة منحوتة، كما أن الأسواق فيها مقببة.

    وفي الفترة نفسها تقريبا، زار القدس جان شزنو الفرنسي، وكتب يقول:
    إن القدس محاطة بسور بناه الأتراك، ولكن لا يوجد لها خندق. والمدينة متوسطة الحجم، وليست مكتظة بالسكان، وشوارعها ضيقة يصعب السير فيها بسبب مرتفعاتها.
    لوران دارفيو، زار القدس في القرن السابع عشر، وكتب هذا الرحالة الفرنسي واصفا موقع القدس الجبلي: "إن المرء يصعد باستمرار للوصول إليها، ثم ينحدر فيها بشدة حين مغادرتها، وأطرافها جرداء باستثناء الجبهة المؤدية إلى بيت لحم حيث الأرض خصبة.
    والقدس أكثر طولا من الشرق إلى الغرب، منها من الجنوب إلى الشمال، وتحيط بها أسوار قوية ذات أبراج مربعة بناها السلطان العثماني سليمان القانوني. ويبلغ سمك الأسوار حوالي مترين، ومحيطها أربعة آلاف وخمسمائة خطوة، وحولها خندق دون مياه، يمتد من باب دمشق إلى باب بيت لحم حيث القلعة.
    وفي الأبراج، ثلاثون مدفعا، وحامية من ثلاثين انكشا ريا بقيادة آغا، ويعيش هؤلاء مع أسرهم في القلعة.
    ويذكر دارفيو أن معظم الدور في القدس تضم طابقا واحدا، يعلو الطابق الأرضي، وهي معقودة بالحجر المنحوت والمسوى، ولها شرفات وخزانات لحفظ مياه الأمطار الضرورية، لأنه لا توجد في المدينة آبار أو ينابيع..
    وفي القرن الثامن عشر، زار الرحالة الإنكليزي ريشارد بوكوك بيت المقدس، ووصفها بأنها تقوم على أربع تلال، ويبلغ محيطها ستة كليو مترات، وقال إنه سار في واد كثير الكروم وسط بساتين وأشجار الزيتون والتين والمشمش و اللوز لمسافة ثلاثة كليو مترات، معتبرا أن هذا هو أجمل ما شاهده في القدس.
    وفي نهايات القرن الثامن عشر زار بين المقدس الرحالة المشهور المعروف بلقب كونت دوفولني. وقد كتب فولني عن القدس آنذاك فأشار إلى تهدم أجزاء من أسوارها وامتلاء خندقها بالأنقاض حتى أن المرء يكاد لا يعرف هذه المدينة ذات الأمجاد التي ناضلت ضد إمبراطوريات قوية.
    يقدر فولني عدد سكان القدس آنذاك، بأربعة عشر ألف نسمة، ويذكر أن صناعة الأدوات التذكارية الدينية في المدينة تشكل الصناعة الأهم، وهي تصدر إلى الخارج، ويعتاش منها معظم المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ومصدر الدخل الآخر، هو ما ينفقه الحجاج في القدس.
    عشية الحملة الفرنسية، زار الرحالة الإنكليزي بروان مدينة بيت المقدس، فلاحظ على عكس فولني أن أسوار القدس في حالة جيدة وهي مبنية من حجارة تميل إلى الحمرة.. ودهش من إهمال كنيسة القيامة، وسقوط الثلج داخلها بسبب انهيار بعض الجسور الخشبية المصنوعة من خشب الأرز وتهدم السقف في حين أن دير الأرمن كان في أحسن بناء ويتسع لألف حاج على ما يقول براون الذي قدر عدد سكان القدس بنحو عشرين ألفا يتكلمون اللغة العربية، وأكد مثل سابقه على أن صناعة الأدوات التذكارية كانت ناشطة.
    المصدر


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  6. #138 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36




    رحالة زاروا بيروت
    على الرابط التالي:
    الرحلة إلى بيروت


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  7. #139 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36




    الرحلة إلى المغرب والمشرق
    على الرابط التالي:
    كتاب الرحلة إلى المغرب والمشرق لأبي العباس المقري


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  8. #140 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    الرحلة يا طالب العلم

    الحمد لله على إِحسانه، والشّكرُ له عَلى توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه.

    ثم أمَّا بعد:
    فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
    كنت قد بدأت هذه السلسلة المباركة بمقالة حول (السند وطالب العلم اليوم) وتحدثت ببعض أسطرها عن رحلة العلماء لأجل تحصيل حديث أو حديثين، وأحببت الآن في هذه المقالة أن أفصِّل المقال في حال المرتحلين من الرجالِ وطلب الإسناد العالي.
    فلقد عُرِفَ علماء المسلمين بحبهم للرحلة في طلب العلم والإسناد العالي، فنرى أحدهم يسافر من بلد إلى بلد ليجلس بين يدي أحد العلماء الكبار ليأخذ عنه حديثاً أو حديثين لا يجدهما عند غيره من العلماء، واقرأ كتاب (الرحلة في طلب الحديث)[يقول الشيخ أبو غدة رحمه الله تعالى عنه: وكتاب الرحلة للخطيب كتاب نافع مهماز للمتخلفين عن الرحلة ، فاقرأه لعلك ترحل.] وهو كتاب رفيع القدر للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي ترى العجب العجاب من أمر علماء المسلمين، وشدّة حرصهم على العلم والإسناد العالي في الحديث الشريف.

    ورحم الله أبا الفضل العباس بن محمد الخراساني إذ ينشد فيقول:
    رحلتُ أطلبُ أصل العلمِ مجتهداً*
    وزينة المرءِ في الدنيا الأحاديثُ

    لا يطلب العلم إلا باذلٌ ذكرٌ*
    وليسَ يُبغضُهُ إلا المخــانيثُ

    لا تُعجَبَنَّ بمالٍ، سوف تتركُه*
    فإنما هـذه الدنــيا مواريثُ
    اعلم أنَّ علوم الإسلام العظيمة لم تُدَوَّن على ضفاف الأنهار، وتحت ظلال الأشجار والأثمار، وإنما دونت باللحم والدم، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه، وفي ظل العرى والجوع وبيع الثياب، وانقطاع النفقة في بلد الاغتراب، والرحلة المتواصلة الملاحقة، والمشاق الناصبة المتعانقة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في البيد، والغرق في البحار، ولفقد الكتب العزيزة الغالية والأسفار، وحلول الأمراض والأسقام، مع البعد عن الأهل والزوجة والأولاد والدار، ومع فرقة الأقارب والأحباب والأصحاب وفقد الاستقرار، فما أثر كل ذلك في أمانة علم أهلها، وما نقص من متانة دينهم، وما وهن من قوة شكيمتهم ، وما خضعتهم الضائقة الخانقة مع قوتها إلى قبول الذل والهوان.
    يا طالب العلم ... أخي وحبيبي في الله ...

    إعلم هداني الله وإياك أنَّ من خطب الحسناء لم يُغله المهر، وأنت طالب لنعيم الآخرة فدونك رياحين الجنَّة، فلقد قال حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة)) [حديث صحيح، أخرجه الإمام مسلم].
    يقول ابن الجوزى: "تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإنَّ العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة ..".أهـ
    ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه (مفتاح دار السعادة): "وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية".

    فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، يقول الإمام مسلم في صحيحه: قال يحيى بن كثير: "لا ينال العلم براحة الجسم".
    وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
    حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار منه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراكه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه ".
    ولذلك ــ أخي في الله ــ من تمثل سير سلفنا الصالح ، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة، واحتقر نفسه أمامهم، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات ، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيًا وراء حديث واحد ، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة ، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك.
    قيل للإمام أحمد: رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل ؟

    قال : يرحلُ ، يكتب عن علماء الأمصار ، فيشامُّ النَّاس ، ويتعلم منهم .
    وقيل له مرةً : أيرحلُ الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله، لقد كان علقمة بن قيس النخعي ، والأسود بن يزيد النخعي ، ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ فيسمعانه منه "
    إنَّ شأن الرحلة قديم تليد ، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ، وقد قصَّ الله خبر رحلته في القرآن الكريم ، مع عبده الخضر وما كان في رحلته من العوائق والغرائب ، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين .
    وهؤلاء صحابة الرسول منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته ، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له .
    فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له ، فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج . فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره [ أخرجه البخاري (88) ك العلم ، باب الرحلة في المسألة النازلة].
    وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد، روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فابتعت بعيرًا، فشددت إليه رحلي شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أنَّ جابرًا بالباب فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله!! فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت …. فذكر الحديث "[حديث صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد (970) باب المعانقة].
    نوادر الرحلات

    ما صنعه هذا الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي ـ رحمه الله ـ (ت 276هـ) فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل.
    وهذه الرحلة يحدثنا بها صاحب كتاب (سير أعلام النبلاء) فيقول: قال: فلما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غمًا شديدًا، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتًا في فندق، ثم أتيت الجامع، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا ـ رحمك الله ـ رجل غريب، ناء عن وطنه، أردت السؤال فلا تستخفني.
    فقال: قل، فسألت عن بعض من لقيته فبعضًا زكى، وبعضًا جرح، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي أبو الوليد: صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدًا كبرًا ما ضره شيئًا لخيره وفضله.
    فصاح أصحاب الحلقة : يكفيك ـ رحمك الله ـ غيرك له سؤال.
    فقلت: وأنا واقف على قدم اكشف عن رجل واحد ـ أحمد بن حنبل.
    فنظر إليَّ كالمتعجب فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
    فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه ، فقرعت بابه فخرج إليَّ فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد ، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك .
    فقال : ادخُل الأسطوان ـ يعني به الممر إلى داخل الدار ـ ولا يقع عليك عين . فدخلت فقال لي: وأين موضعك؟! قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية؟‍ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس.
    قال: إن موضعك لبعيد ، وما كان شيءٌ أحب إليَّ من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أنِّي في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك.
    فقلت: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك، مقبل نحوك.

    فقلت له: يا أبا عبد الله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية.
    فقال لي: نعم على شرط أن لا تظهر في الحِلق، ولا عند المحدثين .
    فقلت: لك شرطك.
    فكنت آخذ عصا بيدي، وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي، ثمَّ آتي بابه، فأصيح: الأجر ـ رحمك الله ـ والسؤال هناك كذلك، فيخرج إلي ويُغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد، وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرؤه عليَّ، وأقرؤه عليه [وروى هذه الرحلة الشيخ أبو غدة في كتابه صفحات من صبر العلماء].
    فهذا خبر من أعجب ما تقرأ، فهذا العالم الأندلسي رحل من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق على قدميه ليلقى الإمام أحمد، فلما وجده محبوسًا ممنوعًا عن الناس تلطف وتحيَّل حتى لقيه، فأخذ العلم عنه، وحفظ له الإمام أحمد صبره في الطلب وقربه منه.
    ومن أخبار الرَّحَّالة المشَّائين في طلب العلم :

    ما ذكره أصحاب التراجم والسير عن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت 277هـ) يقول: أحصيت ما مشيت على قدميَّ زيادة على ألف فرسخ [الفرسخ نحو خمسة آلاف متر، فانظر كم قطع هذا الرجل من المسافات مشيًا على الأقدام]، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، وأما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلا ـ وذلك في المغرب الأقصى ـ إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثمَّ رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بَقِي عليَّ شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثمَّ خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفي، كل ذلك ماشيًا، هذا سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، وخرجت المرة الثانية ـ وكان سني في هذه الرحلة 47 سنة.[ انظر مقدمة الجرح والتعديل ص(359)].
    فانظر لحال هذا الرجل العجيب، كم قطع من المسافات مشيًا على الأقدام، وانظر لحال خروجه في سن السابعة والأربعين، لتعلم أنَّ العلم لا يتوقف على سن، بل العلم يطلب من المهد إلى اللحد.

    ومثيله هذا الحافظ الجوال ابن منده (ت 395هـ) بدأ الرحلة في طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، ورجع وهو ابن خمس وستين سنة، ولما عاد إلى وطنه تزوج ـ وهو ابن 65 سنة!! ورزق الأولاد، وحدَّث بالكثير.
    وقد قال رحمه الله: طفت الشرق والغرب مرتين.[مقدمة الجرح والتعديل (3/1032)].
    يا طالب العلم هل لك إلى رحلة تنفض بها عنك تنكب الأطفال، وتُشهر سيفك وتنزل حلبة النِّزال، بل أسألك لماذا لا تلحق بركب هؤلاء الرجال؟ في طلب الإسناد النازل والعال! أم أنك ما زلت في زمان الأحلام والآمال!!
    اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وصلى الله على سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

    آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    حسام الدين بن سليم الكيلاني

    حمص في 8/ شعبان/ 1426هـ


    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  9. #141 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    الرحالة الأديب ابن جبير الأندلسي
    ربيع محمود
    ابن جبير من أشهر الرحالة المسلمين الذين قاموا برحلات إلى المشرق العربي، دون خلالها الكثير من المعلومات التي تعتبر وثائق من الدرجة الأولى، لأنه حسن الملاحظة وصريح العبارة، فكانت رحلته مصدراً مهماً للباحثين في مجال التاريخ والاجتماع والحضارة العربية في القرن السادس والسابع الهجري.
    اسمه
    محمد بن أحمد بن جبير وكنيته أبو الحسن.

    ولد ابن جبير بمدينة بلنسية بالأندلس عام 540هـ، وهو ينحدر من أسرة عربية عريقة سكنت الأندلس عام 123هـ، قادمة من المشرق مع القائد المشهور بَلْج بن بشر بن عياض.
    أتم ابن جبير دراسته بعد أن أتم حفظه للقرآن الكريم بمدينة بلنسية على يد أبي الحسن بن أبي العيش، وفي شاطبة درس ابن جبير علوم الدين على يد أبيه وشغف بها لكن ميوله برزت أيضا في علم الحساب، وفي العلوم اللغوية والأدبية، وأظهر مواهب شعرية ونثرية رشحته للعمل كاتبا لحاكم غرناطة وقتذاك أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، أمير الموحدين.
    رحلاته
    كان ابن جبير يحب الرحلات والتنقل فترك الأمير وقام بثلاث رحلات إلى المشرق، أما الرحلة الأولى فقد خرج سنة 579هـ من غرناطة إلى (سبتة) ومنها ركب البحر إلى الإسكندرية ومنها توجه إلى مكة عن طريق (عيذاب) فجدة، فحج وزار المدينة والكوفة وبغداد والموصل وحلب ودمشق وركب البحر إلى صقلية عائدا إلى غرناطة عام 581هـ وقد استغرقت رحلته سنتين سجل فيها مشاهداته وملاحظاته بعين فاحصة في يومياته المعروفة برحلة ابن جبير ثم أتبع هذه الرحلة برحلة ثانية وثالثة.

    أما رحلته الثانية فقد دفعه إليها أنباء استرداد بيت المقدس من الصليبيين من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ فشرع في هذه الرحلة سنة 585هـ وانتهى منها سنة 586هـ.
    أما رحلته الثالثة فكانت إثر وفاة زوجته، فقد كان يحبها حبا شديدا، فدفعه الحزن عليها إلى القيام برحلة ثالثة يروح بها عما ألم به من حزن على فراقها، فخرج من (سبتة) إلى مكة وبقي فيها فترة من الزمن ثم غادرها إلى بيت المقدس والقاهرة والإسكندرية، حيث توفي فيها سنة 614هـ.
    ولم يترك لنا ابن جبير إلا حديثه عن رحلته الأولى.
    رحلة ابن جبير
    من مصنفات ابن جبير كتابه عن رحلته الأولى وتعرف بـ"رحلة ابن جبير"، وتعد من أهم مؤلفات العرب في الرحلات، فقد تفقد فيها الآثار والمساجد والدواوين ودرس أحوالها وذكر ما شاهده وما كابده في أسفاره، ووصف حال مصر في عهد صلاح الدين ومدحه لإبطاله المكس (الضريبة) المترتبة على الحجاج، ووصف المسجد الأقصى والجامع الأموي بدمشق والساعة العجيبة التي كانت فيه، وهي من صنع رضوان ابن الساعاتي، وانتقد كثيراً من الأحوال، ومن أهم مشاهداته ما تحدث به عن صقلية وآثارها، من مساجد ومدارس وقصور، وعن الحضارة التي خلفها العرب في الجزيرة.
    لقد ترك لنا «ابن جبير» تحفة رائعة من خلال كتابه «رحلة ابن جبير» وذلك حين رسم لنا الحياة بكل تجلياتها في القرن السابع الهجري في المشرق والمغرب والانطباع الذي خلفته هذه المدن في نفسه والأهمية التي رأى أنها تستحقها.
    من شعر ابن جبير
    الذي لا يعرفه الكثيرون عن ابن جبير أنه كان أديباً شاعراً، وله ديوان شعر يسمى "نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان"، كما له كتاب آخر بعنوان "نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح".
    وهذا نموذج رائع من شعره، من قصيدته التي مدح بها السلطان صلاح الدين، يهنئه فيها بفتح بيت المقدس، وفيها يقول:
    ثأرت لدين الهدى في العدا*
    فآثــرك الله من ثائر
    وقمت بنصـر إله الورى*
    فسمـاك بالملك الناصر
    فتحت المقدس من أرضـه*
    فعادت إلى وصفها الطاهر
    وأعليت فيه منار الهـدى*
    وأحييت من رسمـه الداثر
    وفاته
    توفي الرحالة ابن جبير وهو راجع من رحلته الثالثة في الإسكندرية سنة 614هـ، عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  10. #142 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رحالة موصليون في دول المغرب والمشرق أثروا العالم بإبداعاتهم
    صادق إسماعيل
    الموصل
    *الرحلة والرحلات تعد سمة بارزة من السمات الحضارية بين شعوب الارض في قاراتها المأهولة، ولعل رحلة كريستوف كولومبس إلى القارة الامريكية واكتشافها تعد من اكبر الرحلات الجغرافية.
    أما في مجال البحار والمحيطات فقد جاب ماجلان أرجاء المحيطات وكذلك الإدريسي الرحالة العربي الذي اكتشف كروية الأرض من خلال رحلاته وتجواله في محيطات القارات وبحارها.
    *أما في المجالات العلمية والادبية فقد ذكر التاريخ أسماء كثيرة جاب اصحابها اقطاب العالم لتوطين نظرية علمية او ترسيخ فكرة دينية او زرع حضارة، ذلكم ان الرحلات على اختلاف انواعها تعد من عناصر القوة حتى وان كانت بقصد التجارة او الاتجار او كانت بقصد السياحة والاستجمام.
    *عرف العرب الرحلات منذ اقدم الازمنة فزاروا واستقبلوا، رحلوا الى حواضر بعيدة واستقبلوا زائرين من مدن بعيدة عن ارضهم وحاضرتهم وحضارتهم.
    وقد كان للعرب حواضر علمية وثقافية كبرى اعظمها شأنا في المشرق بغداد وفي المغرب فاس ومراكش فقد احتضنت بغداد علوم الأمة باسرها دون منازع وقد تمتعت بشهرة وسمعة علمية على مدى التاريخ فاقت حواضر الدنيا شرقا وغربا، مما منح العراق برمته وحواضره ومدنه كالكوفة والبصرة والموصل وواسط واربيل والانبار ثقلا في الحضارة الانسانية وجعله امتحانا لطلبة العلم واختبارا لما حملوه من فنون العلوم والاداب واجتيازه يعد تأهيلا للتصدر، وقد وصف ابن حزم الأندلسي بغداد بأنها حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الاخلاق والنباهة والذكاء وحدة الافكار ونفاذ الخواطر وقال عنها ابن سعيد في مراكش:(ويكفي في الإنصاف أن أقول: إن حاضرة مراكش هي بغداد المغرب).
    أما المراكشي فقد قال عند ذكره لمدينة فاس: (ومازلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب)
    الموصل المدينة الراعية للعلوم
    *ومدينة الموصل التي احتفظت قبل تأسيس بغداد بمقومات المدينة الراعية للعلوم والاداب، وامتلكت كما يشير د.ناطق صالح مطلوب في بحثه عن الرحلة في طلب العلم، ارثا حضاريا عميق الجذور متنوع الاغراض تعزز بظهور العلوم الانسانية، غدت واحدة من أهم مراكز الاستقطاب في العالم الاسلامي، ومحطا لطلاب العلم والمعرفة، وموطنا لعلماء من المدن والبلدان كافة، وكذلك هي المعين الذي صب في حواضر المدن الكبرى مثل حلب ودمشق وأرض الكنانة والحجاز والاندلس والمغرب العربي وتبريز وغيرها من مدن الشرق والغرب، حيث جاب رجالاتها من العلماء والادباء والفلاسفة والشعراء والمغنيين والموسيقيين والاطباء والحكماء حواضر تلك المدن المعروفة برقي علومها وعلو شأنها في الثقافة والاداب، فكان لحضورهم بين علمائها وادبائها وفنانيها مكانة بارزة وتميزا شهدت له حوادث التاريخ على تعاقب العصور والأجيال.
    *ففي بلاد الشام كان جمع من علماء الموصل قد تنقلوا بين حلب ودمشق وبيت المقدس وغزة وتصدروا للتدريس في المدارس المشهورة، وتولوا القضاة والخطبة والحكم، ولعل عبدالله بن ابي حصرون ابو السعد الموصلي يعد في طليعة الرحالة الموصليين، وقد وصفه ابن الصلاح بانه افقه اهل عصره، رحل الى حلب سنة 545هـ ودخل دمشق بعدها باربع سنوات ثم تردد بين المدينتين متصدرا للتدريس، وكان مقدما في دولة نورالدين حيث بنى له المدارس بحلب وحماه وحمص وبعلبك وتولى القضاء في اماكن متعددة اخرها مدينة الشام سنة 573هـ وفيها توفي سنة 585هـ وهو المولود بمدينة الموصل سنة 492هـ وماتزال لمؤلفاته واحفاده شهرة واسعة في بلاد الشام ومكانة كبيرة لدى العامة والخاصة، توارثوا العلم وأفادوا طلابه.
    ومن اشهر ابناء ابن ابي عصرون الموصلي اولاده واحفاده احمد عبدالسلام المتوفي سنة 695هـ ويعقوب بن عبدالرحمن وعبدالملك بن زيد الدولعي الموصلي ومحمد بن عروة شهاب الدين ويوسف بن رافع بن تميم الاسدي (أبو المحاسن) الذي ولد في الموصل عام 539هـ ولازم ابن سعدون الاندلسي نزيل الموصل مدة ثلاث عشرة سنة ورحل الى بغداد واقام فيها اربع سنوات ثم عاد الى الموصل لينتقل الى الحجاز ثم القدس فدمشق وهناك لقي صلاح الدين الايوبي سنة 584هـ، فولاه قضاء العسكر ثم حكم القدس وسافر في مهمات رسمية الى مصر ثم تولى في عهد الظاهر سنة 591هـ قضاء حلب، وكانت داره ملتقى كبار الدارسين من أهل المشرق والمغرب.
    *ويعيش بن علي بن يعيش الموصلي المعروف بابن الصائغ ومحمد بن ابي بكر الموصلي وابراهيم بن عبدالرزاق الموصلي وعبدالرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الموصلي ومحمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي وموهوب بن ظافر ابو الفضل الذي مارس الطب ثم ابنه جابر الذي ورث عن ابيه مهنة الطب.
    *أما في الديار المصرية فابرزهم علي بن الحسن بن الحسين الخلعي وولده الحسن وداؤد بن محمد بن الحسين الاصيلي الموصلي ومحمد بن علي ابو البركات الموصلي ومحمد بن ابي بكر المعروف بابن الخباز.
    *ويعقوب بن عبد الرحمن بن عبدالله حفيد بن أبي عصرون وعلي بن عدلان الموصلي وعمار بن علي الموصلي.
    *وفي بلاد الحجاز اشتهر رحالة موصليون كثر من ابرزهم إسماعيل بن محمد أبو الطاهر الموصلي وجعفر بن أحمد الغنائم الموصلي وابراهيم الموصلي المالكي.
    أما في بلاد الاندلس فقد ذاع صيت الرحالة من ابناء الموصل، ابرزهم صاعد بن الحسن الربعي الموصلي وإبراهيم بن ابي بكر، أما في بلاد المغرب فقد اشتهر أبو زكريا المرجاني الموصلي، وتقي الدين الموصلي، وفي تبريز الحسن بن الحسين الموصلي وعبداللطيف بن يوسف المعروف بابن (اللباد).
    *إن مدينة الموصل قد امتلكت إرثا في علم الحديث لم يبلغه المغرب ولا الاندلس الا في عصور متأخرة، فقد نزل الموصل ومنذ وقت مبكر مشاهير الصحابة والتابعين الذين نشروا بذور العلم.
    وعلى عهد ابن خلكان كان الطلبة بالموصل قائمين على تصانيف ابن الدهان، ولمؤلفات ابن الاثير مكانة وشهرة في الافاق حملها عنه اهل المغرب وجرى لهم معه مناظرات ومحاورات في مسائل كثيرة.


    د. أبو شامة المغربي


    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 07/01/2007 الساعة 07:45 PM

    رد مع اقتباس  
     

  11. #143 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رمضان والحج في كتابات الرحالة المسلمين
    الدكتور
    حاتم الطحاوي


    احتل أدب الرحلات مكانة متميزة في التراث التاريخي والجغرافي العربي والإسلامي، وساهم الرحالة المسلمون منذ القرون الأولى للهجرة في التعريف بالأقاليم الجغرافية وشعوبها، فضلا عن عاداتهم وتقاليدهم.
    كما جاب العديد من الرحالة المسلمين البلدان غير الإسلامية البعيدة، وساهمت كتاباتهم في صياغة المسلمين لتصوراتهم عن تلك الشعوب، أفكارها، وعاداتها.
    وعلى الرغم من ذلك، ظل قضاء شهر رمضان وأداء فريضة الحج في الأراضي المقدسة هو الهدف الحقيقي من رحلات معظم الرحالة العرب والمسلمين، تلك الرحلات التي استمرت عدة أعوام، بسبب بعد المسافة بين الحاج ووطنه الأم، علاوة على بدائية طرق المواصلات، فضلا عن اهتمام الحاج بقضاء أكبر وقت في جوار الأماكن والبقاع المقدسة.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  12. #144 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    مادة
    رحل
    في
    لسان العرب
    لابن منظور الأفريقي
    (الرحل: مركب للبعير والناقة، وجمعه أرحل ورحال، قال طرفة:
    جازت البيد إلى أرحلنا*
    آخر الليل بيعفور خدر
    والرحالة: نحوه، كل ذلك من مراكب النساء، وأنكر الأزهري ذلك، قال: الرحل في كلام العرب على وجوه. قال شمر: قال أبو عبيدة الرحل بجميع ربضه وحقبه وحلسه وجميع أغرضه، قال: ويقولون أيضا لأعواد الرحل بغير أداة رحل، وأنشد:
    كأن رحلي وأداة رحلـي*
    على حزاب كأتان الضحل قال الأزهري: وهو كما قال أبو عبيدة وهو من مراكب الرجال دون النساء، وأما الرحالة فهي أكبر من السرج وتغشى بالجلود وتكون للخيل والنجائب من الإبل، ومنه قول الطرماح:
    فتروا النجائب عنـد ذ*
    لك بالرحال وبالرحائل
    وقال عنترة فجعلها سرجا:
    إذ لا أزال على رحالة سابح*
    ********* مراكله نبيل المحـزم
    قال الأزهري: فقد صح أن الرحل والرحالة من مراكب الرجال دون النساء. والرحل في غير هذا: منزل الرجل ومسكنه وبيته. ويقال: دخلت على الرجل رحله أي منزله.
    وفي حديث يزيد بن شجرة: أنه خطب الناس في بعث كان هو قائدهم فحثهم على الجهاد وقال: إنكم ترون ما أرى من أصفر وأحمر وفي الرحال ما فيها فاتقوا الله ولا تخزوا الحور العين، يقول: معكم من زهرة الدنيا وزخرفها ما يوجب عليكم ذكر نعمة الله عليكم واتقاء سخطه، وأن تصدقوا العدو القتال وتجاهدوهم حق الجهاد، فاتقوا الله ولا تركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا تولوا عن عدوكم إذا التقيتم، ولا تخزوا الحور العين بأن لا تبلوا ولا تجتهدوا، وأن تفشلوا عن العدو فيولين، يعني الحور العين، عنكم يخزاية واستحياء لكم، وتفسير الخزاية في موضعه. والراحول: الرحل، وإنه لخصيب الرحل، وانتهينا إلى رحالنا أي منازلنا.
    والرحل: مسكن الرجل وما يصحبه من الأثاث، وفي الحديث: إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال أي صلوا ركبانا، والنعال هنا: الحرار، واحدها نعل، وقال ابن الأثير: فالصلاة في الرحال يعني الدور والمساكن والمنازل، وهي جمع رحل، وحكى سيبويه عن العرب: وضعا رحالهما، يعني رحلي الراحلتين، فأجروا المنفصل من هذا الباب كالرحل مجرى غير المنفصل، كقوله تعالى: فاقطعوا أيديهما، وكقوله تعالى: فقد صغت قلوبكما، وهذا في المنفصل قليل ولذلك ختم سيبويه به فصل:
    ظهراهما مثل ظهور الترسين
    وقد كان يجب أن يقولوا وضعا أرحلهما لأن الاثنين أقرب إلى أدنى العدة، ولكن كذا حكي عن العرب، وأما فقد صغت قلوبكما فليس بحجة في هذا المكان لأن القلب ليس له أدنى عدد، ولو كان له أدنى عدد لكان القياس أن يستعمل ههنا، وقول خطام:
    ظهراهما مثل ظهور الترسين
    من هذا أيضا، إنما حكمه مثل أظهر الترسين لما قدمنا، وهوالرحالة وجمعها رحائل. قال ابن سيده: والرحالة في أشعار العرب السرج، قال الأعشى:
    ورجراجة تعشي النواظر ضخمة*
    وشعث على أكتافهن الرحـائل
    قال: والرحالة سرج من جلود ليس فيه خشب كانوا يتخذونه للركض الشديد، والجمع الرحائل، قال أبو ذؤيب:
    تعدو به خوصاء يفصم جريهـا*
    حلق الرحالة وهي رخو تمزع
    يقول: تعدو فتزفر فتفصم حلق الحزام، وأنشد الجوهري لعامر بن الطفيل:
    ومقطع حلق الرحالة سابح*
    باد نواجذه عن الأظراب
    وأنشد لعنترة:
    إذ لا أزال على رحالة سابح*
    ********* تعوره الكماة مكـلـم
    وأنشد ابن بري لعميرة بن طارق:
    بفتيان صدق فوق جرد كأنها*
    طوالب عقبان عليها الرحائل
    قال: وهو أكبر م السرج ويغشى بالجلود ويكون للخيل والنجائب. وقال الجوهري: والرحل رحل البعير، وهو أصغر من القتب، وثلاثة أرحل، والعرب تكني عن القذف للرجل بقولهم: يا ابن ملقى أرحل الركبان. ابن سيده: ورحل البعير يرحله رحلا، فهو مرحول ورحيل، وارتحله: جعل عليه الرحل، ورحله رحلة: شد عليه أداته، قال الأعشى:
    رحلت سمية غدوة أجمالـهـا*
    غضبى عليك فما تقول بدا لها؟
    وقال المثقب العبدي:
    إذا ما قمت أرحلها بلـيل*
    تأوه آهة الرجل الحزين.
    وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سجد فركبه الحسن فأبطأ في سجوده، فلما فرغ سئل عنه فقال: إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله، أي جعلني كالراحلة فركب على ظهري.

    وإنه لحسن الرحلة أي الرحل للإبل أعني شده لرحالها، قال:
    ورحلوها رحلة فيها رعن
    وفي حديث ابن مسعود: إنما هو رحل أو سرج، فرحل إلى بيت الله، وسرج في سبيل الله، يريد أن الإبل تركب في الحج والخيل في الجهاد. الأزهري: ويقال رحلت البعير أرحله رحلا إذا علوته. شمر: ارتحلت البعير إذا ركبته بقتب أو اعروريته، قال الجعدي:
    وما عصيت أميرا غير مـتـهـم*
    عندي ولكن أمر المرء ما ارتحلا
    أي يرتحل الأمر يركبه. قال شمر: ولو أن رجلا صرع آخر وقعد على ظهره لقلت رأيته مرتجله. ومرتحل البعير: موضع رحله. وارتحل فلان فلانا إذا علا ظهره وركبه. وفي بعض الحديث: لتكفن عن شتمه أو لأرحلنك بسيفي أي لأعلونك. يقال: رحلته بما يكره أي ركبته.
    وفي الحديث عند اقتراب الساعة: تخرج نار من قعر عدن ترحل الناس رواه شعبة قال: ومعنى ترحل أي ترحل معهم إذا رحلوا، وتنزل معهم إذا نزلوا، وتقيل إذا قالوا، جاء به متصلا بالحديث، قال شمر: وقيل معنى ترحلهم أي تنزلهم المراجل، وقيل: تحملهم على الرحيل، قال: والترحيل والإرحال بمعنى الإشخاص والإزعاج. يقال: رحل الرجل إذا سار، وأرحلته أنا. ورجل رحول وقوم رحل أي يرتحلون كثيرا، ورجل رحال: عالم بذلك مجيد له، وإبل مرحلة: عليها رحالها، وهي أيضا التي وضعت عنها رحالها، قال:
    سوى ترحيل راحلة وعين*
    أكالئها مخافة أن تنامـا
    والرحول والرحولة من الإبل: التي تصلح أن ترحل، وهي الراحلة تكون للذكر والأنثى فاعلة بمعنى مفعولة، وقد يكون على النسب، وأرحلها صاحبها: راضها حتى صارت راحلة. قال أبو زيد: أرحل الرجل البعير، وهو رجل مرحل، وذلك إذا أخذ بعيرا صعبا فجعله راحلة.
    وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: تجدون الناس بعدي كإبل مائة ليس فيها راحلة، الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، وإذا كانت في جماعة الإبل تبينت وعرفت، يقول، فالناس متساوون ليس لأحد منهم على أحد فضل في النسب، ولكنهم أشباه كإبل مائة ليست فيها راحلة تتبين فيها وتتميز منها بالتمام وحسن المنظر، قال الأزهري: هذا تفسير ابن قتيبة، وقد غلط في شيئين منه: أحدهما أنه جعل الراحلة الناقة، وليس الجمل عنده راحلة، والراحلة عند العرب كل بعير نجيب، سواء كان ذكرا أو أنثى، وليست الناقة أولى باسم الراحلة من الجمل، تقول العرب للجمل إذا كان نجيبا راحلة، وجمعه رواحل، ودخول الهاء في الراحلة للمبالغة في الصفة، كما يقال رجل داهية وباقعة وعلامة، وقيل: إنما سميت راحلة لأنها ترحل كما قال الله عز وجل: في عشية راضية، أي مرضية، وخلق من ماء دافق، أي مدفوق، وقيل: سميت راحلة لأنها ذات رحل، وكذلك عيشة راضية ذات رضا، وماء دافق ذو دفق، وأما قوله: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، أراد أن الناس متساوون في النسب ليس لأحد منهم فضل على الآخر ولكنهم أشباه كإبل مائة ليس فيها راحلة، فليس المعنى ما ذهب إليه، قال: والذي عندي فيه أن الله تعالى ذم الدنيا وركون الخلق وتشاحوا عليها وتنافسوا في اقتنائها حتى كان الزهد في النادر القليل منهم فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، تجدون الناس بعدي كإبل مائة ليس فيها راحلة، ولم يرد بهذا تساويهم في الشر ولكنه أراد أن الكامل في الخير والزهد في الدنيا مع رغبته في الآخرة والعمل لها قليل، كما أن الراحلة النجيبة نادرة في الإبل الكثيرة.
    قال: وسمعت غير واحد من مشايخنا يقول: إن زهاد أصحاب سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتتاموا عشرة مع وفور عددهم وكثرة خيرهم وسبقهم الأمة إلى ما يستوجبون به كريم المآب برحمة الله إياهم ورضوانه عنهم، فكيف من بعدهم وقد شاهدوا التنزيل وعاينوا الرسول، وكانوا مع الرغبة التي ظهرت منهم في الدنيا خير هذه الأمة التي وصفها الله عز وجل فقال: كنتم خير أمة اخرجت للناس، وواجب على من بعدهم الاستغفار لهم والترحم عليهم، وأن يسألوا الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، ولا يذكروا أحدا منهم بما فيه منقصة لهم والله يرحمنا وإياهم، ويتغمد زللنا بحلمه، إنه هو الغفور الرحيم، وقول دكين:
    أصبحت قد صالحني عواذلي*
    بعد الشقاق ومشت رواحلي.
    قيل: تركت جهلي وارعويت وأطعت عواذبي كما تطيع الراحلة زاجرها فتمشي، وقول زهير:
    وعري أفراس الصبا ورواحله
    استعاره للصبا، يقول: ذهبت قوة شبابي التي كانت تحملني كما تحمل الفرس والراحلة صاحبهما. ويقال للراحلة التي ريضت وأدبت: قد أرحلت إرحالا، وأمهرت إمهارا إذا جعلها الرائض مهرية وراحلة. الجوهري: الراحلة المركب من الإبل، ذكرا كان أو أنثى.

    والرحال: الطنافس الحيرية، ومنه قول الأعشى:
    ومصاب غادية كأن تجارهـا*
    نشرت عليه برودها ورحالها
    والمرحل: ضرب من برود اليمن، سمي مرحلا لأن عليه تصاوير رحل. ومرط مرحل: إزار خز فيه علم، وقال الأزهري: سمي مرحلا لما عليه من تصاوير رحل وما ضاهاه، قال الفرزدق:
    عليهن راحولات كـل قـطـيفة*
    من الخز أو من قيصران علامها
    قال: الراحولات الرحل الموشي، على فاعولات، قال: وقيصران ضرب من الثياب الموشية. ومرط مرحل: عليه تصاوير الرحال. وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وعليه مرط مرحل، المرحل الذي قد نقش فيه تصاوير الرحال. وفي حديث عائشة وذكرت نساء الأنصار: فقامت كل واحدة إلى مرطها المرحل. ومنه الحديث: كان يصلي وعليه من هذه المرحلات، يعني المروط المرحلة، وتجمع على المراحل. وفي الحديث: حتى يبنى الناس بيوتا يوشونها وشي المراحل، يعني تلك الثياب، ويقال لذلك العمل الترحيل، ويقال لها المراجل، بالجيم أيضا، ويقال لها الراحولات.

    وناقة رحيلة أي شديدة قوية على السير، وكذلك جمل رحيل. وبعير ذو رحلة ورحلة أي قوة على السير. الأزهري: وبعير مرحل ورحيل إذا كان قويا. وفي نوادر الأعراب. ناقة رحيلة ورحيل ومرحلة ومسترحلة أي تجيبة. وبعير مرحل إذا كان سمينا وإن لم يكن نجيبا. وبعير ذو رحلة ورحلة إذا كان قويا على أن يرحل. وارتحل البعير رحلة: سار فمضى، ثم جرى ذلك في المنطق حتى قيل ارتحل القوم عن المكان ارتحالا. ورحل عن المكان يرحل وهو راحل من قوم رحل: انتقل، قال:
    رحلت من أقصى بلاد الرحل*
    من قلل الشحر فجنبي موحل
    ورحل غيره قال الشاعر:
    لا يرحل الشيب عن دار يحل بها*
    حتى يرحل عنها صاحب الدار
    ويروى: عامر الدار. والترحل والارتحال: الانتقال وهو الرحلة والرحلة. والرحلة: اسم للارتحال للمسير. يقال: دنت رحلتنا. ورحل فلان وارتحل وترحل بمعنى.

    وفي الحديث: في نجابة ولا رحلة، الرحلة، بالضم، القوة والجودة أيضا، ويروى بالكسر بمعنى الارتحال، وحكى اللحياني: إنه لذو رحلة إلى الملوك ورحلة. وقال بعضهم: الرحلة الارتحال، والرحلة، بالضم، الوجه الذي تأخذ فيه وتريده، تقول: أنتم رحلتي أي الذين أرتحل إليهم. وأرحلت الإبل: سمنت بعد هزال فأطاقت الرحلة.
    وراحلت فلانا إذا عاونته على رحلته، وأرحلته إذا أعطيته راحلة، ورحلته، بالتشديد، إذا أظعنته من مكانه وأرسلته.
    ورجل مرحل أي له رواحل كثيرة، كما يقال معرب إذا كان له خيل عراب، عن أبي عبيد، وإذا عجل الرجل إلى صاحبه بالشر قيل: استقدمت رحالتك، وأما قول امرئ القيس:
    فإما تريني في رحالة جابـر*
    على حرد كالقر تخفق أكفاني
    فيقال: إنما أراد به الحرج وليس ثم رحالة في الحقيقة، هذا كما جاء فلان على ناقة الحذاء، يعنون النعل، وجابر: اسم رجل نجار. ابن سيده: الرحلة السفرة الواحدة. الرحيل: اسم ارتحال القوم للمسير، قال:
    أما الرحيل فدون بعد غد*
    فمتى تقول الدار تجمعنا
    والرحيل: القوي على الارتحال والسير، والأنثى رحيلة. وفي حديث النابغة الجعدي: أن ابن الزبير أمر له برحلة رحيل، قال المبرد: راحلة رحيل أي قوي على الرحلة، كما يقول فحل فحيل ذو فحلة، وجمل رحيل وناقة رحيلة بمعنى النجيب والظهير، قال: ولم تثبت الهاء في الرحيل لأن الراحلة تقع على الذكر.

    والمرتحل: نقيض المحل، وأنشد قول الأعشى:
    إن محلا وإن مرتحلا
    يريد أن ارتحالا وإن حلولا، قال: وقد يكون المرتحل اسم الموضع الذي يحل فيه. قال: والترحل ارتحال في مهلة، ويفسر قول زهير:
    ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه*
    ولا يعفها يوم من الـذل ينـدم
    تفسيرين: إحدهما أنه يذل لهم حتى يركبوه بالأذى ويستذلوه، والثاني أنه يسألهم أن يحملوا عنه كله وثقله مؤنته، ومن قال هذا القول روى البيت:
    ولا يعفها يوما من الناس يسأم
    قال ذلك كله ابن السكيت في كتابه في المعاني وغيره. الجوهري: واسترحله أي سأله أن يرحل له، ورحل الرجل: منزله ومسكنه، والجمع أرحل.
    وفي حديث عمر: يا رسول الله حولت رحلي البارحة، كنى برحله على زوجته، أراد به غشيانها في قلبها في جهة ظهرها لأن المجامع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها. فحيث ركبها من جهة ظهرها كنى عنه بتحويل رحله، إما أن يريد به المنزل والمأوى، وإما أن يريد به الرحل الذي تركب عليه الإبل وهوالكور.

    وشاة رحلاء: سوادء بيضاء موضع مركب الراكب من مآخير كتفيها، وإن ابيضت واسود ظهرها فهي أيضا رحلاء، الأزهري: فإن ابيضت إحدى رجليها فهي رجلاء.
    وقال أبو الغوث: الرحلاء من الشياه التي أبيض ظهرها وأسود سائرها، قال: وكذلك إذا اسود ظهرها وابيض سائرها، قال: ومن الخيل التي ابيض ظهرها لا غير، وفرس أرحل: أبيض الظهر ولم يصل البياض إلى البطن ولا إلى العجز ولا إلى العنق، وإن كان أبيض الظهر فهو آزر.
    وترحله: ركبه بمكروه. الأزهري: يقال أن فلان يرحل فلانا بما يكره أي يركبه. ويقال: رحلت له نفسي إذا صبرت على أذاه.
    والرحيل: منزلة بين مكة والبصرة. وراحيل: اسم أم يوسف، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ورحلة: هضبة معروفة، زعم ذلك يعقوب، وأنشد:
    ترادى على دمن الحياض فإن تعف*
    فإن المنـدى رحـلة فـركـوب
    قال: وركوب هضبة أيضا،ورواية سيبويه: رحلة فركوب أي أن يشد رحلها فتركب. والمرحلة: واحدة المراحل، يقال بيني وبين كذا مرحلة أو مرحلتان. والمرحلة: المنزلة يرتحل منها، وما بين المنزلين مرحلة، والله أعلم).
    د. أبو شامة المغربي

    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 08/01/2007 الساعة 09:49 AM

    رد مع اقتباس  
     

ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •