إنها ليست استراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط..
إنها عملية سطو مسلح على نفط العراق, أولا وأخيرا..
وكانت هذه الجملة "إنها عملية سطو" أقوى من قائلها السيد فاروق الشرع وزير خارجية سوريا وقتها, في جلسة مجلس الأمن الشهيرة, تلك التي كذب فيها كولن باول وهو يقدم أدلته عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق..
وفي تلك الجلسة أيضا صفق الحضور كلّه لوزير خارجية فرنسا وهو يرفض بشدة الضغط الأمريكي على المجتمع الدولي لضرب العراق بغير وجه حق.
ثم قدّر للوزير الشرع أن يجلس في عين المكان الذي جلس فيه مندوب العراق وقتها وفي محاولة أمريكية لضرب سوريا العربية أيضا.
ولكن هذه المرّة كانت فرنسا هي خلف إصدار القرار الشهير " 1559 ", في حين أكتفت وزيرة الخارجية الأمريكية بالمراقبة, ببله.
في حالة العراق, كانت فرنسا تتصرف على أنها " دولة ", وفي حالة سوريا كان الرئيس الفرنسي يريد أن يقدم مخرجا ل " رفيق الحريري " يغطيان فيه معا, على استيلائهما على مليارات "الملك فهد".
لماذا لا تملك الولايات المتحدة " استراتيجيا "..
لأنها ولايات متحدة, ليست دولة وليست أمه وليست حتى كيان متماسك, إنها تماما إسرائيل الكبرى, تيه وهوس وخرافة.
إذا قبلنا بذلك..
علينا أن نقبل وببساطة أن أمريكا لا يمكن أن تبقى متماسكة, كما هو الحال الآن,
بالحد الأدنى, من غير عدو خارجي كبير وخطير وعلى أبواب أمريكا.
ومن هنا يجب أن نفهم لماذا لا يزال كاسترو ونظامه على قيد الحياة. ولماذا أثر " سلبيا ", على أمريكا وسياساتها واقتصادها "انهيار الاتحاد السوفييتي".
ويجب العودة دائما إلى التذكير كيف صعق الأمريكي, وهو يرى عرش الشاه والذي يحميه وقتها وفعلا, واحد من أقوى الجيوش في المنطقة, ينهار.
إن القصة كلّها تبدأ مع الانهيار الغير متوقع للاتحاد السوفييتي بهذا التسارع, والفراغ الذي تركه هذا الانهيار والذي لا يزال من غير الممكن ملؤه.
ولذلك تم إطفاء الحرائق التي قامت على أساس الصراع السوفييتي _ الأمريكي, وبالتالي أستطاع العرب وخصوصا, الفلسطينيين والسوريين الوصول إلى نجاحات سياسية مهمة على صعيد الصراع مع إسرائيل, بعودة هذا الصراع إلى حجمه الحقيقي الإقليمي.
• رحم الله الرئيسين حافظ الأسد وياسر عرفات, لقد عرفا معا, كيف يختلفان وكيف يتفقان, على وقع رؤيتهما الواضحة للسياسية الأمريكية على المسرح الشرق أوسطي, وسجلا كليهما انتصارات سياسية هامة لبلديهما وللقضية الفلسطينية, وان بدرجات متفاوتة, وأداء عربي تقليدي بامتياز.
ولأن أمريكا كانت تعيد إنتاج عدو جديد وكبير وخطر, وبسرعة. ظهر إلى المسرح من دون أي مقدمات أو ديكور أو ماكياج السيدين " هنتنغتون و فوكوياما", في مسرحية بدائية مشوشة مربكة على نسق مسرح "اللامعقول", اللامعقول فعلا, ولكنه كان العرض الوحيد وكان الجمهور قد دفع غاليا ثمن التذاكر, والأهم, أن أبواب المسرح كانت قد أوصدت ويجب على من في الداخل جميعا الآن, مشاهدة العرض, وانتظار النهاية.
وبالتالي جاءت تفجيرات 11 أيلول من هذه الزاوية, وليست هي أبدا نقطة التحول ألمفترضه في ما يسمى الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة وتحت العنوان الغريب " الشرق أوسطية الجديدة ".
إن انهيار الإتحاد السوفييتي هو عملية داخلية غاية في التعقيد والتداخل, لقد أجّلت الحرب الباردة والضغوط الأمريكية هذا الانهيار, ولم يكن للأمريكان أي دور في هذا الانهيار, وهم أصلا لا يدعون ذلك.
ما الذي حدث بعد هذا الانهيار..
وجد الأمريكي نفسه بلا عدو كبير وخطير ومقنع, وبالتالي وجد الاقتصاد الأمريكي نفسه في مأزق خطير, لأن مفهوم التسلح التصاعدي لم يعد مبررا الآن, والحروب تبدو غير منطقية, وصناعة السلاح ستتوقف.
الاقتصاد الأمريكي:
السوق الأمريكية الداخلية لوحدها, تبقي هذا الاقتصاد على قيد الحياة, إذا بقي دخل الفرد الأمريكي مرتفعا, أي إذا بقي الدولار الأمريكي عملة عالمية.
إن احتياطي الذهب الأمريكي هو مجرد خدعة إعلامية بإخراج هوليودي.
وحتى يبقى الدولار الأمريكي عملة عالمية يجب أن يبقى محميا بالقوة العسكرية الأمريكية الأٌقوى عالميا والأكثر تجهيزا وانتشارا, ولكنها الأضعف رجالا وعقيدة قتال, وهذا لوحده يفسر كيف أن الجيش الأمريكي يخسر دائما في الحروب الطويلة الأمد كما هو الحال في فيتنام, والعراق الآن.
وما سبقه يفسر ما حدث في يوغسلافيا السابقة, على أنه رد أمريكي على الوحدة الأوروبية و " اليورو ".
ويبدو إلى حد ما أن " لبنان", ذاهب إلى النموذج "اليوغوسلافي", وليس العراق.
ويفسر أيضا الحاجة إلى حروب, مهما كان الثمن, وكل فترة زمنية تتناقص مع مرور الوقت, ولذلك كان " فخ " احتلال العراق للكويت وطريقة تحريره السينمائية, بامتياز, وتأجيل إسقاط نظام صدام حسن, ثم إسقاطه بالرغم من وقوع الأمريكي هذه المرّة في الفخ " نظريا ".
لنعود أولا إلى الاقتصاد الأمريكي:
إن السلع الوحيدة التي تستطيع أمريكا تصديرها فعلا, هي " السلاح ", والصناعات المتفرعة عنه وذات الطابع المدني " كطائرات نقل الركاب " مثلا.
وذلك لأن السلاح سلعة تباع على إيقاع سياسي وصفقات ذات طبيعة أمنية وتحت ضغط إعلامي, إذا هي سلعة غير تنافسية, ومن هنا يمكن تفسير حادثة "لوكربي" فعلا, وحوادث مماثلة أخرى, ووجود قائمة للإرهاب تصدرها لفترة طويلة "أبو نضال" والآن " أسامة بن لادن ", والحدث الأهم الذي وقع في 11/9/ في نيويورك, ولنا إليه عودة مطوّلة.
لماذا حرب العراق ليست فخا عمليا..
إذا قبلنا أن عدد الجنود الأمريكان الذين قتلوا في العراق حتى تاريخ ما (2000) جندي مواطن أمريكي, هذا يعني أن العدد الحقيقي (20000) ألف جندي من الجيش الأمريكي, عدد قليل منهم من حاملي الجنسية الأمريكية, والبقية مرتزقة أو يرغبون بالجنسية الأمريكية, وسجناء يأملون بالعفو, إذا الخسائر البشرية هنا ستؤدي إلى تحرير العراق, ولكن انعكاساتها على السلطة السياسية داخل أمريكا يبقى محدودا.
وأيضا انعكاسات صورة الهزيمة, لن تغير في صورة أمريكا السلبية في العالم كله, وهو موضوع لا يعني السياسيين الأمريكيين فعلا, لأنه يناسب صناعة السلاح الأمريكية من جهة, ولا يترك أثرا على العملية السياسية في الداخل الأمريكي, وهذا يأخذنا إلى الحديث عن العملية السياسية في الداخل الأمريكي, والمتعلقة بثقافة الانتخاب الاستعمارية والتي تدفع بالناخب الأمريكي " الذكي " إلى صناديق الانتخاب.
إن الديموقراطية في أمريكا هي البديل عن الدولة, كما هو الحال في إسرائيل, وليس هذا التشابه عملية إرادية, إنه الناتج الطبيعي للمجتمع الغير متجانس, ففي أمريكا لدينا جيل مؤسسين على أرضية دينية وكذلك الحال في إسرائيل.
إن الحزبين الرئيسيين في أمريكا وجهين لعملة واحدة, وهما ليسا إلا عرضين مختلفين على مسرح كبير ووحيد, يتبادلان فيه الصعود وفق عدد المشاهدين " الإراديين".
إن اللعبة السياسية الأمريكية يديرها " المال " أولا. ويتقاسم الأدوار فيها, ثنائية الرئيس من جهة والكونغرس, واستراتيجيتها " مالية ", تركز على سلعتين رئيسيتين, الدولار و السلاح.
إن حماية الدولار الأمريكي الآن تتم عن طريق فرض مفهوم التجارة الحرّة, لتتخلص أمريكا من المقاطعة الحقيقية في " كل العالم ", خصوصا اليابان وأوروبا, للسلع الأمريكية والدولار.
ومن هذه الأبجدية الثنائية البسيطة يمكن دائما قراءة "الاستعمار الأمريكي" الحديث.
ولذلك أيضا نستطيع القول أن المواطن الأمريكي "الناخب", يعرف جيدا هذه الأبجدية ويعرف أنه "استعماري", وينتخب على هذا الأساس, وهو بالتالي إنسان "فاقد الضمير", لأنه وبإرادته ينتج آلية سياسية استعمارية بدائية تفرض الدولار عملة عالمية وتضرب من يعترض على ذلك عن طريق حروب كبيرة لأهداف ميتة أصلا, ثم يدفع العالم كلّه ثمن السلاح وثمن إعادة البناء, وفي الحالتين " أمريكا".
سيأتي يوم يخرج فيه الأمريكي مهزوما من العراق, ولكن هذا لن يغير شيئا, في أمريكا. ستزداد النظرية الاستعمارية الأمريكية شراسة وسيزداد المواطن الأمريكي فقرا إنسانيا وعطشا استعماريا, وسيبقى العراق جريحا إلى عشرات من السنين, وسيبقى الأمل الوحيد, والهدف الوحيد, "عالميا", انهيار أمريكا.
إنها إذا, ليست استراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط, إنها فقط عملية بيع سلاح وسرقة نفط وعقود إعادة أعمار عسكري ومدني, وليست كما يسوّق البعض, إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط, وألا كيف يمكن تفسير هذا الإرباك الأمريكي في العلاقة مع إيران وسوريا وحتى لبنان.
إن الصورة الإعلامية لأمريكا, كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل, لا تدل أبدا على الحجم الحقيقي أو القوة الحقيقية, وألا كيف نفسر هزيمة الأولى في العراق, والثانية في لبنان.
إن انتصار حماس ديموقراطيا في فلسطين, وقبلها عسكريا في غزّة, يشير بوضوح إلى أن الأمر كلّه حرب نفسية, من أمريكا على العالم, ومن إسرائيل على العرب, وان هزيمتهما معا أمر ليس مستحيلا أبدا.
23/3/2006