المقدمة الحضارية لتركيا
تركيا هي النموذج الأكثر وضوحاً في العالم " للدولة الحائرة " استراتيجياً .. بين هوية شعبها الإسلامية .. وتاريخه العريق في قيادة الدولة الإسلامية . وبين توجهات " قيادتها الحاكمة " و " نخب " فيها نحو " الغرب " ، هي الدولة "الإسلامية الوحيدة " العضو في حلف شمال الأطلسي منذ عام 1949 وهي الساعية إلى أن تكون عضواً بالاتحاد الأوروبي كأول دولة مسلمة أيضاً ، وهي الدولة التي تتقاسم أرضها قارتي أوربا وأسيا . وتركيا هي الدولة التي شهدت أخر عهود الخلافة الإسلامية .. وجاء الانقلاب في هويتها ، من الإسلامية إلى العلمانية ، في مطلع العشرينات ( 3 مارس 1924 ) ليدخل المسلمون في حالة التفكك إلى دول ، وفق معطيات اتفاقية تقسيم العالم العربي " سايكس بيكو " .
وتركيا بلد يملك وزناً استراتيجياً هائلاً ، جعل منها مركزاً لاهتمام أوربا والولايات المتحدة والروس والكيان الصهيوني ، برز هذا الاهتمام الغربي في أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ، فكان ضم تركيا المبكر للحلف الأطلنطي، ويبرز الاهتمام الأوروبي من الرغبة في ضم تركيا للاتحاد الأوروبي (بعد تحقيقها مطالبة كاملة ) ، ويبرز الاهتمام الصهيوني في السعي لتكوين تحالف استراتيجي معها . ولأهمية ووزن هذه الدولة " الإسلامية " الكبرى ، تغاضى الغرب عن كل ما ترتكب النخبة العسكرية فيها ، بل كان الغرب داعماً لكل انتهاكاتها ، لتحقيق استمرار تركيا داخل التحالف الغربي ، دون التحول باتجاه العرب والمسلمين .
غير أن تركيا ، ورغم كل الجهود الغريبة الأمريكية والأوروبية ، ورغم ضمها مبكراً لحلف الأطلنطي .. الخ ، ما تزال هوية شعبها، هوية إسلامية تعلنها وتسجلها أصوات الناخبين ، التي أوصلت الإسلاميين للحكم ( حزب الرفاه) فلم يكن هناك مفر أمام الغرب إلا أن يكشف عن نفاقه القيمي حيث دعم الانقلاب العسكري الصامت ضدهم ، وظل يسانده حتى تم حظر حزب الرفاه الذي شكل الحكومة بعد الانتخابات ، بل لعل أحد أخطر ما يُواجهه الاتحاد الأوروبي ، في حال انضمام تركيا للاتحاد أن الهوية الإسلامية في تركيا ، أثبتت الأيام والتاريخ ، أنها ذات جذور لا يمكن إضعافها ، وبالإضافة إلى أن تركيا في حال انضمامها للاتحاد الأوروبي ستكون من أكبر الدول سكاناً ، ومساحة .. الخ داخل الاتحاد ، فإن الأخطر من وجهة نظر الأوروبيين هو أن تركيا ستكون الدولة الوحيدة ذات الإمدادات السكانية داخل جميع أقطار أوروبا حيث ينتشر الأتراك المسلمون ، بأقليات نشطة ومؤثرة داخل معظم بلاد الاتحاد .
وتركيا هي البلد المفتاح في انتشار الإسلام في أوروبا ، وحتى الوقت الراهن كثيراً ما يطلق على المسلمين في ألبانيا وصربيا والبوسنة (الأتراك) ، كما أنها ذات وزن وتأثير في الجمهوريات الإسلامية حديثة التكوين ( كازاخستان – طاجيكسان – أوزبكستان – قيرغيزيا- تركمانستان - أذربيجان ) ، وهي بطبيعة الحال ذات علاقات تاريخية في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي .
وقد امتدت الدولـة الإسلامية تحت القيادة التركية في أسيا وأوربا وأفريقيا ، واستمرت نحو ستة قرون كاملة .
ومن يراجع التاريخ الحديث لهذه الدولة الإسلامية ، يرى أن القشرة العليا التي شكلها الاستعمار الغربي ، على سطح المجتمع التركي ، ممثلة في الجيش وبعض النخب المتغربة ، لم تصمد في مواجهة الهوية الإسلامية للشعب التركي، إلا باستخدام القوة العسكرية . بل يمكن القول إن كل التاريخ السياسي الحديث لتركيا منذ إسقاط الخلافة وحتى الآن ، في تقلباته وتغيراته ، ناتج عن الفشل في تغيير هوية الشعب التركي ، أو في مواجهة الحركة الإسلامية التركية .. وهذا ما جعل العلمانية في تركيا .. علمانية من نوع خاص .. نشطة وبالقوة .. والتطرف .. في مواجهة الدين والتدين إلى درجات تصل إلى حد إسقاط الجنسية التركية عن نائبة في البرلمان ( ارتدت الحجاب ) .
فإذا كان الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان ، قد أسس حزبه الأول ( حزب النظام الوطني ) في عام 1970 ، وعقد مؤتمره التأسيسي الأول في العام التالي، فإن النخب العلمانية ،وإذ رأت تعاطفاً وتأثيراً للحزب ، وإحياءً للهوية الإسلامية، لم تجد بديلاً عن استخدام آلة القمع ، الجيش ، فيما سمى بانقلاب المذكرة ، حيث وجهت القوى العلمانية المسيطرة على القوات المسلحة ، مذكرة إلى رئيس الوزراء وقتها ( سليمان ديمريل ) ، تهدده بتولى الجيش مقاليد الحكم ، فاستقالت الحكومة ، وصدرت قرارات بتجريم حزب النظام الوطني ، وأغلقت مقراته ، وغادر زعيمه نجم الدين أربكان البلاد .
وتكرر هذا المشهد ، بعد تأسيس حزب الرفـاة في عام 1983، وقد حصل هذا الحزب على خمس بلديات ، في انتخابات 1989، ثم فجر مفاجأته بأن أصبح الحزب الأول في البلاد في انتخابات البرلمان عام 1995،حيث حصد 158 مقعداً ، فكانت كل القلاقل في الوضع السياسي التركي ، من تشكيل حكومات أقلية وسقوط ، حتى وصل أربكان للسلطة في عام 1996 ، علـى رأس وزارة ائتلافية ، فكان أول إسلامي يصل إليها منذ أتاتورك ، بـل وأول إسلامي يصل للحكم بالانتخابات في " الشرق الأوسط " ، وهنـا عادت المؤسسة العسكرية للتدخـل ، وأعدت المذكرات ومارست الضغوط والتهديـدات ، وبدلاً من بحار الدم .. استقال أ ربكان .
غير أن أهمية تجربة أربكان ، لم تكن فقط ، في أنها كانت الإعلان بهزيمة حقيقية للعلمانية، ولتجربة أتاتورك التي حكمت البلاد منذ العشرينات ، وأنها أظهرت تمسك الشعب التركي بهويته الإسلامية ، حيث تضاءلت الخلافات مع إيران وجرى تبادل الزيارات بين البلدين وسط دعوات بتحالف استراتيجي، وكذا تضاءلت الخلافات مع سوريا والعراق ، وتوثقت العلاقات التركية العربية ، وحدث التطور الأبرز والمؤسس في علاقات الدول الإسلامية في تشكيل مجموعة الدول الإسلامية ( مجموعة الـ 15 ) ، التي اجتمعت فيها ولأول مرة تركيا ومصر وإيران وماليزيا .. الخ ، كان أربكان هو الداعي والمخطط والمتابع ، وقد اختيرت صيغة التعاون الاقتصادي . وبالإضافة إلى ذلك، توقفت العلاقات التركية الصهيونية في تلك الفترة .
وتركيا تعاني من مشكلات عرقية ، حيث تصل نسبة السكان الأكراد إلى 20% من السكان ، وتعتبر المشكلة الكردية في تركيا الأظهر في ملف المشكلة الكردية في العالم ، فهي من ناحية سبباً دائماً لمشكلات داخلية ، وهي كذلك آأخر المعوقات في التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي ، وهي إحدى مشكلاتها مع دول الجوار (العراق خاصةً ) ، وهي أحد المهددات الدائمة في الوضع السياسي .
قضايا هامة :
لفهم الوضع الراهن لتركيا ، يجب إدراك الملامح التالية :
(1) تتنازع تركيا ، عدة اتجاهات ، الأول ، هو الساعي للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وتقديم كافة التنازلات المطلوبة . وهو اتجاه أصيل بين النخب التركية المدنية والعسكرية، وقد انضم إليه مؤخراً بعض الإسلاميين الذين يراهنون على أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سينقذ البلاد من سيطرة العسكر على الحكم ، وسيفتح الطريق أمام تأثير تركي في الاتحاد الأوروبي تجاه العالم الإسلامي .. الخ . والاتجاه الثاني ، هو الاتجاه الإسلامي ، وهو متعدد الأطياف حيث تصل الجماعات والتجمعات الإسلامية إلى أكثر من 30 جماعة وحزباً ، بعضها ينمي نحو العمل السياسي والوصول للحكم عن طريق الانتخابات ( الرفاه ومسمياته ) وبعضها ينحي نحو العمل الجهادي العسكري ( السليمانيون وغيرهم ) ، وبعضها ينحو نحو العمل الدعوي ، وهو اتجاه يسعى لإعادة تركيا إلى دورها الإسلامي . أما الاتجاه الثالث ، فهو اتجاه يتنافى حالياً ، ويحرز ابتعاداً تدريجياً عن الاتجاه المؤيد لأوربا، وهو اتجاه مؤيد للعلاقات مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ويسعى إلى ربط تركيا بالاستراتيجية الأمريكية والصهيونية في مواجهة الحركات الإسلامية، والدول العربية، ويعمل على إيجاد دور لتركيا في المخطط الاستراتيجي الأمريكي والصهيوني في العالم . والملاحظ الأبرز على هذه الاتجاهات الثلاثة هي أن الاتجاه الموالي لأوربا، وكذلك الساعي للدخول ضمن الاستراتيجية الأمريكية للصهيونية ، محصوران في أوساط النخب السياسية ، أما الاتجاه الإسلامي بأطيافه المتعددة ، فهو الأكثر شعبيه وارتباطاً بالمواطن التركي .
(2) تتصاعد قوة تأثير التيار الإسلامي ، بأطيافه المتعددة ، يوماً بعد يوم ، في حين يتضاءل التأييد الشعبي يوماً بعد يوم للتيارات العلمانية . وإذا كانت ثمة مرحلة فرضت فيها الظروف على الاتجاه العلماني – فترة الصراع مع الاتحاد السوفيتي – التنازل للتيار الإسلامي وإعطاءه بعض الحرية في الحركة ، فإن الظرف الراهن الذي يتصاعد فيه المد الإسلامي يأتي تحت القصف الخارجي والداخلي ، الأمر الذي يشير إلى تعقيدات في الوضع الداخلي، بل أيضاً إلى أن صعود التيار الإسلامي يسيراً إلى الأمام رغم الضغوط ، فإذا ما حدث انفراج لهذا السبب أو ذاك، أي إذا اضطرت القوى الحاكمة لسبب أو لآخر، لإرخاء يدها عن الحركة الإسلامية فإن ثمة احتمال حدوث انقلاب سياسي كبير في تركيا ، خاصة وأن الحركة الإسلامية باتت واسعة الطيف وتسيطر على مراكز اقتصادية وإعلامية وتعليمية .. مؤثرة للغاية .
(3) يبدو التشدد الأوروبي من ناحية ، وحداثة الاتجاه المطالب بالارتباط بصورة نهائية بالاستراتيجية الأمريكية والصهيونية مع تزايد قوة التيار الإسلامي، أفضل الأوضاع لاستمرار حالة " الدولة الحائرة " والتي كانت حيرتها في أثناء وجود الاتحاد السوفيتي وإيران تحت حكم الشاة ، حيرة "هوية " أكثر منها حيرة " استراتيجية " ، غير أنها اليوم حيرة "استراتيجية" أي حيرة في تحديد استراتيجية دائمة للدولة في سياستها الخارجية ، وهو ما يجعل الاضطراب شاملاً للهوية .. والسياسة والعلاقات على المحيط حتى يمكن القول بأن تركيا في مرحلة انتقالية غير محددة المدة .
(4) التطور الأخطر ، والذي يدعم اللوبي الموالي لأمريكا والكيان الصهيوني، كان الاضطراب الاقتصادي الكبير الذي حدث خلال العامين الماضيين – خسرت تركيا 60 مليار دولار بسبب وقف ضخ البترول العراقي عبر أراضيها – وهو ما عزز قوة التيار المطالب بالارتباط بالاقتصاد الأمريكي والسياسة الأمريكية – تحصل تركيا على 3.5 مليار دولار معونة سنوية أمريكية – للحصول على قروض من البنك الدولي وبوابته هي اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ، وقد حصلت تركيا بالفعل على قروض زادت مديونيتها الخارجية لتصل إلى 72 مليار دولار حالياً وعاد بمقتضى هذه الحالة والقروض الجديدة ، كمال درويش نائب رئيس البنك الدولي في تركيا ، ليشغل موقع وزير الاقتصاد . وهكذا أضيف البعد الاقتصادي بشدة إلى بعد الالتزام بالاتفاقيات العسكرية الموقع مع الولايات المتحدة منذ عام 1969، والتي أقامت بموجبها الولايات المتحدة نحو 26 قاعدة عسكرية على الأراضي التركية ، أخطرها قاعدة " انجرليك " ، المستخدمة حالياً في فرض حظر الطيران في العراق .
(5) يبدو مهماً ، الإشارة إلى فكرة ، الانهيار والإفلاس الذي تعرضت له النخبة التركية الموالية لأوربا والولايات المتحدة ، بسبب قضايا الفساد الداخلي، حيث شهدت المحاكم والحالة السياسة اتهامات إلى حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر أكبر اتهامات بقضايا فساد ، كما يواجه حزب الوطن الأم – مسعود يلماظ – اتهامات بالتعاون مع المافيا . والشق الثاني من هذه الملاحظة ، أن البديل للمشروع الإسلامي على المستوى الجماهيري ، الذي دعمه الجيش والغرب والولايات المتحدة ، كان هو "اليسار" التركي والحركات " القومية " ، والتي كانت الحل في مواجهة سقوط النخب المشكلة للحزبين التقليديين (الطريق القويم – الوطن الأم) ، في مواجهة الحركة الإسلامية . وهكذا انقلب الحال في النظر لليسار التركي بين أيام المواجهة مع الاتحاد السوفيتي .. واليوم بعد سقوطه .
(6) تشهد تركيا أعمال عنف عسكري على موجات ، يشارك فيها أطياف متنوعة من الحركات السياسية والعرقية ، فبالإضافة إلى الأعمال العسكرية التي يقوم بها حزب العمال الكردي ، هناك حزب العمل التركي (وطني متطرف ) الذي شكل ميليشيات ( الذئاب الرمادية ) ، وأوقع آلاف الضحايا ، والجماعات المقاتلة وغيرها .
(7) تتحكم تركيا في المياه الواصلة إلى كل من العراق وسوريا ، وتحاول المؤسسة العسكرية التركية الموالية للاستراتيجية الأمريكية والصهيونية، إلى استخدام قضية المياه في الضغط على البلدين ، وكذلك في استخدام المياه التركية كشريان اقتصادي مشترك بين الاقتصادين الصهيوني والتركي .