أوروبا والاسلام.- مقال للدكتور يحيى أبو زكريا


على الرغم من أنّ دولا أوروبية عديدة قد إحتكّت بالعالم العربي و الإسلامي في فترة الحركة الإستعمارية والتي دامت في بعض البلدان أزيد من مائة عام , وعلى الرغم أيضا من أنّ هذه الدول قد جمعت تفاصيل الحياة الثقافية والسياسية و الإجتماعية و الأمنية و الجغرافية والحياتية وغيرها من المجالات عن العالم العربي و الإسلامي - و لو أنّ هذه المعلومات المجموعة تدوّن لكانت الحصيلة مجلدات ربما تتطلب سنوات لقراءتها - رغم كل ذلك فإنّ الدوائر الغربية تعيد تشريح خارطة العالم العربي والإسلامي و تدرس حتى الجزئيات التي لا تخطر على بال , وقد كلفّ بهذه المهمة الجديدة الإنتيليجانسيا الغربية المتخصصة في قضايا الشرق ويساعدها في ذلك بعض الباحثين العرب الذين لا يشكل عندهم المبدأ قضية أساسية .
و من جملة القضايا التي أعدت للتشريح الإسلام بكل مذاهبه ومدارسه , والحركات التي تتبنىّ مشروع الإسلام السياسي وتطرح البديل الإسلامي كنموذج للحكم . وليس الثورة الإيرانية هي وحدها التي نبهّت مراكز الدراسات في الغرب إلى ضرورة إعادة النظر في الإسلام السياسي , بل مجمل التحولات والتغيرّات التي حصلت في خارطتي العالم العربي والإسلامي , وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هناك وهما مركبّا بدأ يسيطر على الذهنية الغربية مفاده أن الإسلام عدو قادم , و أنّ الغرب إنتهى من الخطر الأحمر ليواجه الخطر الأخضر, و قد زاد الأداء السياسي لبعض الحركات الإسلامية من تعميق هذه الذهنية , والتأكيد على أنّ الخطر الأخضر بات قاب قوسين من المنظومة الغربية في مختلف
المجالات .
وقد زاد الفقه المزيّف المنتشر بين بعض الجاليات الإسلامية في تكريس النظرة التي جئنا على ذكرها ,حيث إنّ بعض المسلمين في الغرب يلجاؤن إلى السرقة والسطو والإعتداء على حقوق الآخرين و الإتجار بالمخدرات على قاعدة -مال الكافر حلال على المسلم -.
و قد عملت وسائل إعلام جبّارة محسوبة على اللوبي اليهودي في ترسيم هذه المعادلة وخلق توجّه مفاده بان الحرب المقبلة ستكون بين الهلال والصليب وهي المكيدة الفخ التي وقع فيها أصحاب الهلال وأصحاب الصليب على حد سواء.
و لأنّ الغرب لا يخطو خطوته قبل أن يحللّ كل حيثيات الظاهرة , فقد بدأت مراكز الدراسات والمعلوماتية في جمع تفاصيل التفاصيل, وقد روى أحد العاملين في أحد هذه المراكز كيف يتم دراسة ظاهرة المهدي المنتظر وإحتمال حدوثها و مركز أخر يدرس ظاهرة الخلاف بين الجماعات الإسلامية في مصر, و محمد حسين فضل الله وما تثيره آراؤه في الوسط الشيعي خصوصا والإسلامي عموما ,ومركز آخر يدرس منحنيات الصراع في الجزائر وإحتمال وصول الإسلاميين إلى السلطة في هذا البلد. أما نحن فكما قال شيخ الأزهر الأسبق محمد سليم البشري مازلنا نختلف حول غسل القدم ومسح القدم حتى لم يبق لنا في الأرض موطىء قدم…

وعلى الصعيد الجيوسياسي ترك الإستعمار أزمة الحدود ملتهبة بين كل الدول الإسلاميّة تقريبا وهي التي سمّاها رئيس الديبلوماسية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر بعوامل التوتّر التي تفيد الإدارة الأمريكية عند الحاجة والضرورة . ومازالت أزمة الحدود بين الدول الإسلامية قائمة مهدّت لنشوء صراعات متفاقمة بل مازالت تهددّ بإندلاع صراعات حادة على المدى المتوسّط .
وإذا كانت هذه صورة موجزة ومختزلة عن العالم الإسلامي بالأمس فإنّه اليوم ومع بداية الألفية الثالثة لا يختلف كثيرا عن صورته في الماضي فالدول الإسلامية مازالت عرضة للإحتلال المباشر وما زال القسم الأكبر من العالم الإسلامي عرضة للغزو الإقتصادي والثقافي .
فعلى صعيد الإحتلال العسكري فإنّ هناك ثلاث دول إسلامية محتلة إحتلالا مباشرا من قبل الدولة العبريّة و الولايات المتحدة الأمريكية الوريث الشرعي للأمبراطورية البريطانية كما قال هنري كيسنجر في مقالة له عن النظام العالمي الجديد وهذه الدول هي فلسطين وأفغانستان والعراق , وهناك دول إسلامية تفتّت بسبب الولايات المتحدة الأمريكية ومساعيها وهي إندونسيا والتي إستقلّت عنها تيمور الشرقيّة و الصومال , كما أنّ هناك جمهوريات إسلامية تقبع تحت الإحتلال الروسي كالشيشان والتي لم تأخذ حظها من الإستقلال , على الرغم من أنّ الجمهوريات الكاثوليكية في الإتحاد السوفياتي السابق نالت إستقلالها بدعم من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية .
وعلى الصعيد الإقتصادي فما زالت الشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية في مجملها وصندوق النقد الدولي يتحكّم في إقتصاديّات العالم الإسلامي وقد أصبحت المساعدة الإقتصادية للعالم الإسلامي مقرونة بالرضوخ السياسي والإستجابة الكاملة لقرارات ومخططّات الإرادات الدوليّة , والأكثر من ذلك فإنّ البنوك الدولية ذات التمويل الأمريكي هي التي باتت تخطط المنهج الإقتصادي لهذه الدولة الإسلامية وتلك .
وثقافيّا فإنّ الإدارة الأمريكة وضعت مخططّا كاملا وإستراتيجية متعددة الأبعاد لإعادة تأهيل العالم الإسلامي ثقافيا وتربويّا وعلميّا , وكل دولة إسلامية تحاول الإنطلاق من مقوماتها الذاتية وتعمل على إستكناه أسرار التقنية وتحديدا تكنولوجيا السلاح فإنّها تدرج في خانة الدول المتمردّة وبالتالي هناك كمّ هائل من القوانين لمعاقبتها .
وبعد الحادي عشر من أيلول – سبتمبر خرجت أمريكا من دائرة الرغبة في بسط الإحتلال السياسي والإقتصادي والثقافي إلى الإحتلال العسكري , ومثلما كان العالم الإسلامي في بداية القرن الماضي عرضة للإستعمار والإحتلال فإنّه دشنّ بداية قرنه الحالي بإحتلال أمريكا لدول مفصلية إستراتيجيا وجيوسياسيّا في الجغرافيا الإسلامية وما زالت شهيتها مفتوحة إلى درجة أنّها أعادت عسكرييها المتقاعدين إلى الخدمة وفي العالم الإسلامي !
تقوم السيّاسة الأمريكية كما يعترف بذلك أحد أبرز مشكلّيها هنري كيسنجر على إقامة أزرار إنفجار في مواقع السخونة وغيرها والتي لأمريكا فيها مصالح جيوسيّاسيّة واسعة , و أحيانا تلوذ أمريكا بتفجير هذه الأزرار ليتبركنّ الوضع السياسي في هذه المنطقة وتلك ومن تمّ يفضي ذلك إلى تسهيل مهمة أمريكا الجاهزة جيوشها دوما للتدخّل السريع .
وقد إعترف بعض ضبّاط المخابرات الأمريكان المتقاعدين كيف كانوا يلجأون إلى تفجير الكنائس في أمريكا اللاتينية لتأليب المسيحيين في هذه البلاد على الحركات الثوريّة الشيوعية التي كانت تحارب الوجود الأمريكي .
و قد قامت السياسة الأمريكية على هذا المبدأ حيث تقوم دوائر صناعة الخطط الأمريكية الخارجية المتحالفة مع الشركات المتعددّة الجنسيات بإجراء مسح على خرائط الكرة الأرضية ويدرس كل إقليم على حدا , وكلمّا كان هذا الإقليم مستجمعا للثروات الظاهرة والباطنة كلما كان ذلك أدعى لكي توليه واشنطن العناية الكاملة , و في هذا السيّاق يقول أندري تولي صاحب كتاب الجوسسة الأمريكية , أنّه إذا دخلت مقرنا في لانغلي – مقّر المخابرات الأمريكية – فلا تتعجب إذا وجدت أشخاصا يتقنون عشر لغات بما في ذلك اللغة العربية , و يستطرد قائلا بل إنّ فينا فقهاء في القانون الإسلامي !
ويقول في مجال آخر كل دولة يحيطها بالدراسة والتنقيب عن كل صغيرة وكبيرة فيها عشرون حكيما وخبيرا في مختلف شؤون الخبرة , فالملف المصري بيد مجموعة من المخبرين الأذكياء وعلماء النفس و الإجتماع شغلها الشاغل مصر وكذلك الجزائر و تونس وليبيا وإيران وسوريا ولبنان واليمن و ما إلى ذلك .
و حتى عندما يصادف هؤلاء الخبراء مقومات فتنة نائمة في هذه الدولة أو تلك يقومون بإحيائها وإحتضانها , و هذا ما يفسّر ولع الأمريكان في التعامل مع الأقليات والإثنيّات لا حبّا فيها و إرادة منها في منحها حقوقها بل لإتخاذها جسرا إلى تفعيل مصالحها هنا وهناك , و أدلّ برهان على ذلك هو قيام أمريكا بوأد حقوق الهنود الحمر و بعدهم السود , فإذا كانت هذه الأعراق لم تحصل على حقوقها في الجغرافيا الأمريكية فكيف يحصل الآخرون على هذه الحقوق
لا شكّ أنّ الحكام العرب قد لعبوا أدوارا مصيريّة وعملاقة في تكريس التخلفّ الذي يلفّ الحالة العربية الراهنة و الذي سيستمّر مميزا لها في المدى المتوسط وربما البعيد ما لم تنتف مبررات التخلّف , والحاكم العربي عندما وصل إلى سدّة صناعة القرار بفضل الإنقلاب والدبابة و المؤامرة لم يكن من جملة تخطيطه أن ينهض بالأمة , بل قصارى ما كان يحلم به أن يجمع الدنيا من أطرافها وقد تحققّ ذلك لمعظم حكامنا الذي يطالبون زورا وبهتانا بضرورة إحترام إرادة الجماهير وهم فرضوا أنفسهم على هؤلاء الجماهير بالحديد والنار.
وإذا كان الحاكم العربي قد نال ما يستحّق من لعنات من قبل البسطاء والمثقفين على حدّ سواء , و توافقت الآراء على دوره المركزي في إرباك الأمة و أخذها إلى الهاوية , فإنّ النخب المثقفة العربية تأتي في المرتبة الثانية لجهة تحملها مسؤوليّة ضياع هذه الأمة التي أصبحت أتعس أمة أخرجت للناس بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس

وعندما يستغيث أبناء الجنّة في فلسطين بالجيوش العربيّة يأتيهم الردّ بأنّ الشرعيّة الدوليّة لا تسمح بأيّ تحرك , وبأنّ الظروف السياسية والواقع المحلي لا يسمح والمعادلة الدوليّة لا تجيز , لكن عندما تدعو واشنطن الجيوش العربيّة لتغيير واقع عربي هنا أو استباحة واقع إسلامي هناك , فانّ الجواب يكون لبيك وسعديك يا واشنطن فنحن طوع بنانك بالبنادق والمعلومات .
فرجاء لا تراهنوا على الجيوش العربيّة فهي منصرفة إلى حماية العروش بل لقد أضحت هيّ العروش نفسها , وأنصرفت إلى تتريس الكروش الجسمية وكروش البنوك بما سلبته من قوت المواطنين ونفط المواطنين ومستقبل المواطنين .
إنّ الأنظمة العربية ومعها الجيوش العربية أرادوا أن يقبروا التواصل بين الشعوب العربية والإسلاميّة وبين فلسطين ويعدموا نصرة هذه الشعوب لفلسطين . والعار كل العار أننّا نملك جيوشا عربية مدرعّة بأحدث المعدّات العسكريّة ومازلنا نحققّ التراجع تلو التراجع والنكسة تلو النكسة , وقد تحولّت الجيوش العربية إلى عبئ على أمتها وتطلعات شعوبها. وعندما أتأمّل صدور جنرالاتنا في العالم العربي والإسلامي أجدها معبّأة بالنياشين والميداليات من ذهب وفضة وقدور وصحون وغيرها من مواد خشبيّة وكلها إشارات على الإنجازات الكبرى و الانتصارات العظمى , لكن عندما أعود إلى الواقع أجد النكسة تلو النكسة والهزيمة تلو الهزيمة , والانقلاب تلو الانقلاب والعمالة تلو العمالة
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أبتليّت بأحد عشر أيلول – سبتمبر فهي قد أبلت العالم العربي والإسلامي بمئات أحد عشر أيلول – سبتمبر , و إذا كانت واشنطن قد أصيبت في برجين من أبراجها العاجيّة فهي قد أصابت كل أبراجنا الجغرافيّة والسياسيّة و الثقافيّة و الإقتصادية والأمنية والعسكريّة و التربوية ولم يبق لنا برج واحد نلوذ به فيما مازالت هي تحتفظ بكل الأبراج .....

وقد سمحت هذه السياسة بتفسيخ العالم العربي والإسلامي و إحياء المتناقضات و تهيئة كل إقليم عربي لمشروع حرب أهلية حقيقية , بل وتدخلت في صيّاغة النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي , فأحيانا تصيغ نظاما قوميا وأحيانا نظاما شيوعيا وأحيانا نظاما إسلاميا لا علاقة له البتّة بالإسلام الحضاري وأحيانا تصيغ نظاما عائليّا عشائريّا , و على حدّ تعبير بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه مبدأ القوّة والذي قال :
لا تهمّ الإيديولوجيا بقدر ما تهمّ المصلحة الأمريكية و المصلحة الأمريكيّة فقط .
ولأنّ أمريكا لا مبدأ لها فقد تعودّت أن تدوس على الذين قدمّوا لها خدمات جليلة و أبرز مصداق على ذلك تخليهم عن شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي إستنجد بأطبائهم فمنعوه من دخول أمريكا للعلاج , و تخليهم عن ماركوس في الفليبين وإعتقالهم لنورييغا في بنما بعد أن كان ضابطا عميلا للمخابرات الأمريكية بإمتياز , وعدم منحهم تأشيرة دخول لأمريكا بغية العلاج للرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري وهو الذي مكنّ لهم ولمخابراتهم في السودان .
ولطالما أشرفوا على صناعة الطغاة في واقعنا العربي والإسلامي و أمدوهم بالرعاية وتقنية قلع الأظافر و إحراق الأجساد وسكتوا عنهم دهرا , و عندما إقتضت المصلحة الأمريكية أن يرفعوا عقيرتهم بالتنديد راحوا ينددون ببوارجهم الحربيّة و طائراتهم وقنابلهم الفتّاكة وتحديدا ب 52 التي تدمّر أول ما تدمّر كل البنى التحتيّة الإقتصاديّة لتدعى الشركات الأمريكية بعدئذ لتعيد البناء بأقوات الأجيال الراهنة واللاحقة ولتكبّل هذا الوطن وذاك بمديونيّة ضخمة على مدى قرن بكامله وأبعد من ذلك .
وفوق هذا وذاك فإنّ الولايات المتحدّة الأمريكية تتقن فنّ الإذلال بإحكام , فالحاكم العربي الذي تخصصّ في صناعة السجون و بقر البطون وحلق الذقون وتحويل العاقل إلى مجنون تحولّ إلى ساعي بريد للأمريكان و جاسوس بإمتياز , و كلما تريد واشنطن إذلال عاصمة عربية أو إسلامية غير مرضيّ عنها أمريكيّا فإنّ الإدارة الأمريكية توفد هذا الرئيس العربي أو ذاك لنقل رسالة أو تهديد , وفي كل الحالات والأحوال على هذا الرئيس العربي ساعي البريد أن يكتب تقريرا مفصلاّ عما سمعه في هذه العاصمة وتلك وماذا دار بينه وبين صنّاع القرار في تلك الدولة التي تريد منها واشنطن شيئا .
وكثير من رؤسائنا العرب يتهافتون بل يتقاتلون للعب دور ساعي البريد لواشنطن ورسائلها السياسيّة والأمنية , و عندها تنتقي واشطن الأكفأ أمنيا وإستخباراتيا والأقدم في الخدمة .
ولأجل ذلك تنظر أمريكا إلى الشعوب العربيّة والإسلامية بكثير من الإحتقار والإذلال و الإهانة و الشتيمة والتعالي والرفعة , على إعتبار أنّ هذه الشعوب يحكمها سعاة بريد لصالح الأمريكان , يحكمها جواسيس لأمريكا كشف عن بعضهم بوب وورد في كتاب عن المخابرات الأمريكية وفيه يقول أنّ المخابرات الأمريكية وظفّت بعض الرؤساء العرب وكانت تدفع لهم أجورا منتظمة في حسابات مختلفة
و إذا تبينّت هذه الخلفيّة فكيف يسمح ساعي البريد هذا والجاسوس بإمتياز لأمته أن تنهض من مقوماتها الذاتية ومقدراتها الخاصة بعيدا عن خطّ الأمركة و التأمرك , بل سيكون دوره أن يجيّر كل الأمة وتاريخها وراهنها ومستقبلها لصالح العم السام لصالح الأمريكان , و عندما يطلب من سعاة البريد هؤلاء وهم كثر أن يدلوا بموقف أو تصريح لصالح هذه القضية المستضعفة أو تلك يجيبون بأن أمريكا ترصد وتراقب و نحن لا نقدر أن نزعجها , فهي وليّة نعمتنا , من ذا يدفع لنا المليون والمليار دولار !
ولعمري أعرف بعض الرؤساء العرب يجلسون كالنسوة الأسيرات أمام السفير الأمريكي في عاصمة بلادهم , ولأنّ السفير الأمريكي يعرف أنّه أمام ساعي بريد جاسوس ومرتزق فإنّه يرفع قدمه ونعله ويوجّه نعله إلى وجه الرئيس دون أن ينبس الرئيس ببنت شفة , وربّ سفير أمريكي في عاصمة عربية غيرّ منطلقات وسياسات وبرامج تربوية وإعلامية !
وساعي البريد هذا و عندما يغادر السفير الأمريكي مكتبه , يتوجّه إلى رجال مخابراته ليسألهم هل وصل ترعيب الناس إلى الذروة , و لذلك تأسسّت المعادلة التي مفادها أنّ الرئيس الأمريكي يصفع رؤساءنا ورؤساؤنا يصفعون شعوبهم من باب الحفاظ على الكرامة والرجولة و هيبة الدولة و قدسية الجمهوريّة
ولم يغادر المحتلون عالمنا الإسلامي إلاّ بعد أن أطمأنوا أنّهم وضعوا دساتير هي من روح دساتيرهم وعينوا تكنوقراط وسياسيين في دوائر القرار في هذه الدولة وتلك وكلهم من الذين نهلوا من معين الثقافة الغربية الكولونياليّة , وقد أكملت هذه النخب مسيرة الحركة الإستعمارية فحاصرت الإسلام في عقر داره وعملت على تجفيف منابعه و ملاحقة الدعاة إلى ثقافته , ولم تكن هذه السيئة الوحيدة للحركات الإستعمارية بل هناك مجموعة سيئات سياسية وإقتصادية وثقافية وجيوسياسيّة , فعلى الصعيد السياسي لعب الإستعمار الغربي دورا كبيرا في صياغة الدساتير التي أصبحت مرجعا أساسا للدولة الحديثة في عالمنا الإسلامي , بل أنّ بعض الدساتير كانت نسخة طبق الأصل من الدساتير الغربية , وبطبيعة
الحال أوكلت مهمة شرح هذه الدساتير وتنفيذها لشخصيات إسلامية إسما وغربية قلبا ومضمونا درست في المعاهد الغربية وأستوعبت روح الحضارة الغربية , وهي الفئة التي عناها الفيلسوف الوجودي الفرنسي بقوله , كانت الدول الغربية الإستعمارية فيما مضى تبعث دباباتها إلى الدول الثالثيّة لنشر فكرها بالقوّة ثمّ تداركت الموقف وباتت تستورد أذكياء من تلك البلاد وتدرسّهم في جامعاتها ومعاهدها ثمّ توفدهم كحكّام لدول العالم الثالث وبهذا الشكل يتحققّ الغرض الإستعماري بدون دبابّة
وعلى الصعيد الثقافي فإنّ معظم الدول التي كانت مستعمرة – بفتح الراء – تعاني اليوم من أزمة هويّة قلّ نظيرها أفضت إلى إنتاج حروب أهليّة بالجملة في أكثر من دولة إسلاميّة , كما أعادت الحركات الإستعمارية إحياء الإثنيات التي إنصهرت في بوتقة الإسلام على مدى أربع عشر قرنا , و إستغلّت التناقضات الداخليّة وتحولّت الأقليّات إلى إطارات سياسيّة وإيديولوجيّة أفادت الحركات الإستعمارية في وقت لاحق عندما دبّ الحنين في هذه الحركات بمعاودة الكرّة التي كانت قبل أزيد من قرن .
وتمكنت الحركات الإستعماريّة من غرس بذور ثقافية وفكرية في التربة الإسلامية أينعت بعد حين تماما كما قال الجنرال الفرنسي شارل ديغول وهو يغادر الجزائر سنة 1962 تحت ضغط الثورة الجزائريّة : لقد تركت في الجزائر بذورا ستينع بعد حين