قال الاستاذ الامام محمّد عبده رحمه الله في كتاب تفسير جزء عم عند تفسيره للمعوذتين :


وقد رووا أحاديث في أن النبي (ص) سحره لبيد بن الأعصم وأثر السحر فيه حتى كان يخيل اليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله أو يأتي شيئا وهو لا يأتيه ،وأن الله أنبأه بذلك ،وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي النبي (ص) ونزلت هذه السورة .
ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر أن يظن أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان ولا من قبيل عروض السهو والنسيان ، بل هو ماس بالعقل وآخذ بالروح وهو مما يصدق قول المشركين فيه(إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله،وخيل له أن شيئا يقع وهو لا يقع ،فيخيل اليه أنه يوحى اليه وهو لا يوحى اليه.

وقال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: أنّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق من بدع المبتدعين، لانّه ضرب من انكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر!!
فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلّدين بدعة! نعوذ بالله!
يحتج بالقرآن على ثبوت السحر! ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك!
مع أنّ الذي قصده المشركون ظاهر، لاَنّهم كانوا يقولون إنّ الشيطان يلابسه عليه السلام ، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد فإنّه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم!

والذي يجب اعتقاده أنّ القرآن مقطوع به، وانّه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي يجب الاعتقاد به بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام ، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين اعدائه ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذا هو ليس بمسحور قطعاً.


وأمّا الحديث ـ فعلى فرض صحّته ـ هو حديث آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلاّ باليقين ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون!

على أنّ الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنّما يحصل الظن عند من صح عنده، أمّا من قامت له الاَدلّة على إنّه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجّة، وعلى أي حال، فلنا بل علينا أن نفوض الاَمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فانّه إذا خولط النبي في عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن انّه بُلّغ شيئاً وهو لم يُبلّغه، أو أن شيئاً ينزل عليه وهو لم ينزل عليه، والاَمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان
... ما أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على من يظن أنّه يحبه، نعوذ بالله من الخذلان، على أنّ نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يعدّ مبتدعاً، لاَنّ الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله: (آمن الرسول) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الاَوامر بما يجب على المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلماً ولم يأت في شيء ذكر السحر على أنه مما يوجب الايمان بثبوته ووقوعه على الوجه الذي يؤمن به الوثنيون من كل ملة .

وقد جاء ذكر السحر في مواقف مختلفة في القرآن ,وليس من الواجب أن نفهمه كما يفهمه هؤلاء العميان ،فإن السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته
وسحر سحرة فرعون كان ضربا من الحيلة ولذلك قال يخيل اليه من سحرهم أنها تسعى)ولم يقل تسعى بسحرهم .


... ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره، ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن يتكّلم ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة، وكيف يصح أن تكون هذه السورة نزلت في سحر النبي مع أنها مكية وما يزعمونه من السحر إنما وقع بالمدينة.


لكن من تعوّد القول بالمحال لا يمكن الكلام معه بحال، نعوذ بالله من الخبال.
انتهى كلام الشيخ محمد عبده رحمه الله.