صحيفة بِشْر بنِ المُعْتَمِـر

د أحمد زياد محبك


يسعى هذا البحث إلى إعادة النظر في نص قديم موضوعه: "الإبداع"، محاولاً الكشف عن طبيعة فهمه للإبداع، وموقفه منه، وأسلوب معالجته لقضاياه، مستعيناً على ذلك ببعض مصطلحات علم النفس المتعلقة بالإبداع لا لإسقاط قيم معاصرة على نص قديم وإنما لإنصاف نص تنبه النقاد القدامى إلى مافيه من قيم الإبداع وقضاياه، على حين اقتصر المعاصرون على الجانب البلاغي في فهمه، ولتأكيد نمو الجهد النقدي وتطوره في تقدم مستمر .
ويتألف البحث من قسمين يتم في الأول منهما ربط درس الإبداع بازدهار العلوم والتقدم الحضاري ، ثم التعريف بالنص وصاحبه ، ووضعهما في سياقهما التاريخي، ثم توثيق النص، وتوضيح ما حظي به من اهتمام في الدراسات القديمة والحديثة. وتتم في القسم الثاني دراسة النص بكشف فهمه للإبداع وإظهار تصوّره لعوامله وأوقاته ومنازله، ومقارنته بعد ذلك بغيره من النصوص ،ثم تقويمه ، وتسويغ العودة إليه في النقد المعاصر.
القسم الاول
تعريف النص وتوثيقه
1- دراسة الإبداع والنقد الأدبي :
إذا كانت دراسة الإبداع قد أصبحت في العصر الحديث مبحثاً من مباحث فلسفة الفن وعلم الجمال، ثم كاد ينفرد بالبحث فيها علم النفس، وعلم الاجتماع، لتصبح بعيدة عن اهتمام النقد الأدبي ونظرية الأدب، فقد كانت تلك الدراسة تمتلك منذ القديم ما يؤهلها لمثل هذا الوضع ، إذ لم يتصدّ لها من النقاد ، إلا مَنْ كان واسع الثقافة، متنوع أشكال المعرفة، ذا اهتمام بالفلسفة والمنطق، واطلاع على علوم عصره ، ولعل في أفلاطون خير مثل لذلك.
إن دراسة الإبداع أشد تعقيداً من النقد الأدبي، وأكثر منه صعوبة، وهي خطوة تالية له، فيها من العمق والنفاذ أكثر ممّا فيه. فالنقد إذا ماحاول تجاوز التحليل والتفسير والتقويم والحكم، فإنه لايصل إلى أبعد من ربط النص بمجتمعه أو مبدعه، أو مقارنته بغيره، ووضعه في سياقه من تاريخ الأدب، أما دراسة الإبداع فإنها تتجاوز ذلك كله إلى النظر في العملية التي أنتجت النص، بما في تلك العملية من أبعاد نفسية واجتماعية وتاريخية وثقافية، وهي تسعى إلى تكوين رؤية شاملة، تكشف قوانين عملية الإبداع، وشروطها، ودوافعها، ومستوياتها، ودرجاتها، من أجل التحكم بها، والتدريب عليها، والإعداد لها.
إن في دراسة الإبداع من العقل والمعرفة أكثر مما فيها من الذوق والإحساس، وإن كانت لاتخلو منهما، فهي تقترب من العلم أكثر مما يقترب منه النقد الأدبي، وهي تحتاج إلى أنماط من المعرفة العلمية، أكثر مما يحتاج النقد الأدبي، وإن كانت لاتنتفي عنه مثل هذه الحاجة.
ولذلك ترتبط دراسة الإبداع بتفتح الثقافة، وازدهار الآداب، ونضج العلوم، وهذا كله لايتحقق إلا في مرحلة من مراحل التقدم الحضاري، على حين لايرتبط الإبداع نفسه بهذا، ولا يتوقف عليه.
2- بشر بن المعتمر وصحيفته:
ومن شواهد ذلك في التراث العربي صحيفة مختصرة، لمفكر وأديب عالج فيها قضايا الإبداع، فكشف طبيعته، وحدد شروطه، وصنفه في أنواع، ممثلاً عصره، ومعبراً عما تحقق فيه من تقدم حضاري.
وصاحب الصحيفة هو بِشْرُ بنُ المُعْتَمِر(1) المتوفَّى عام 210هـ 868م، رأس المعتزلة في بغداد، وزعيم نزعة دعيت فيما بعد "البِشْرية" نسبة إليه، وعمادها آراؤه الخاصة في الاعتزال، من أبرزها قوله بتوالد الأفعال بعضها من بعض، وإجلاله العقل، بل تقديسه، تألق نجمه في عهد الرشيد، وكان له اتصال بالبرامكة، لما يجمعه بهم من تشيّع، برع في الجدال، وامتاز بقوة الحجة، وكثرة الرواية للشعر، وهو من فصحاء المتكلمين وبلغائهم، كان ينظم الشعر في الأغراض التعليمية والفكرية، وقد ذكر ابن النديم في "الفهرست" أنه نقل كثيراً من الكتب إلى الشعر، ولكن لم يحفظ الدهر منها شيئاً، كان يجيد المخمس والمزدوج، وقد روي أنّ إحدى مزدوجاته بلغت أربعين ألف بيت، رد فيها على خصوم المعتزلة، وله قصيدتان ذكر فيهما الحيوان والوحش والطير، وأشار إلى طباعها، واستخلص العظات والعبر، ثم أكد فضل العقل ومكانته، وقد رواهما الجاحظ في كتابه "الحيوان"، جاعلاً إحداهما مفتتح أحد فصول الكتاب، ويبدو أنه كان معجباً به، مُقِرّاً بعلمه.
3- مكانة الصحيفة عند الدارسين:
ولا يمكن الادعاء بأن صحيفة بشر مجهولة، أو القول إن أحداً لم يُقَدِّرْها، بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فقد تناقلها من بعد الجاحظ البلغاء والنقاد، ورووها في مصنفاتهم، وتناولوها بالنقد والدرس، سواء من القدماء أو المعاصرين.
ولكن على الرغم مما حظيت به الصحيفة من اهتمام في الماضي والحاضر، فإن معالجتها قضايا الإبداع لم تُوَفَّ حقها من البحث، بل لم يتنبه إلى هذا الجانب فيها غير قلة، وكانت غالباً ماتُعَدّ في البلاغة فقط.
أ- الجاحظ وصحيفة بشر:
والجاحظ هو الذي روى صحيفة بشر في كتابه "البيان والتبيين"، وعنه نقلت، فقد رواها في باب "ذكر ناس من البلغاء والخطباء والأبيناء والفقهاء"(2)، وهو يذكر في هذا الباب ناساً من البلغاء، ويوضح دلائل البلاغة عندهم، ثم يورد آراء كثيرة في البلاغة وتعريفها وتفسيرها، ثم يذكر صحيفة بشر بن المعتمر، وهذا الباب نفسه تال لباب سابق في "البلاغة"(3)، يورد فيه تعريف الفارسي والرومي والهندي للبلاغة، ثم يورد تعريف رجال آخرين، ثم يورد صحيفة مترجمة عن الهندية في البلاغة(4)، ولذلك كله بدت صحيفة بشر كأنها في البلاغة فحسب.
والذي ساعد على تأكيد ذلك، أن الجاحظ أتبع صحيفة بشر بكلام لبشر نفسه في البلاغة، يتعلق بالموازنة بين أقدار المعاني وأقدار المستمعين، وتقسيم الكلام على أقدار المقامات والحالات، وقد توهم كثيرون، فأتبعوا هذا الكلام بالصحيفة، وعدوه جزءاً منها، ومنهم الدكتور شوقي ضيف، على الرغم من تنبيه الجاحظ إلى الموضع الذي انتهت فيه الصحيفة، بقوله: " فهذا هذا"، وتوضيحه الموضع الذي بدأ فيه رواية كلام جديد لبشر بقوله: و "قال"، وعلى الرغم أيضاً مما بين الصحيفة وقول بشر بعدها من اختلاف واضح في الأسلوب، فبشر في الصحيفة يتوجه بالخطاب إلى المستمع، وهو في القول الذي بعدها يتحدث عن "المتكلم وما ينبغي" مستخدماً ضمير الغائب المفرد، وكلام بشر الذي يرويه الجاحظ عقب الصحيفة هو قوله:
" ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إنْ عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنّ وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤوساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية مالم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع ".
ومما لاشك فيه أن صلة هذا الكلام بالبلاغة واضحة وكبيرة، ولكن صلته بمعظم الصحيفة وجملتها ليست كذلك، وهذا ماسوف يتضح فيما بعد.
ب- أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف، وصحيفة بشر:
وفي العصر الحديث عدّ أحمد أمين، في كتابه "النقد الأدبي" (1952)، صحيفة بشر في البلاغة والنقد معاً، وجعلها من أقوم ماكتب فيهما"، ثم قال: "وربما كان كل ماكتب المسلمون في النقد والبلاغة مؤسساً عليها"، ويبدو أنه يشك في نسبتها إلى بشر، إذ يقول: " ينسب الجاحظ لبشر بن المعتمر صحيفة في البلاغة والنقد"، وهو يورد نصها كاملاً، ويلحق بها كلام بشر الذي جعله الجاحظ في عقب الصحيفة، ولكنه لايدرسها بعد ذلك(5).
ولقد تأثر الدكتور شوقي ضيف في كتابه "النقد" (1954)، بأحمد أمين، فشك في نسبة الصحيفة إلى بشر، ثم عدّها في البلاغة فحسب، ورأى أن ماتتضمنه من دعوة إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال ليس إلا فكرة مستمدة من "أفلاطون في بعض محاوراته" وهي التي "فصل الحديث فيها أرسطاليس في كتابه "الخطابة"، ويرجّح أن المتكلمين لم يقرؤوا تلك الفكرة "مباشرة في آثار يونانية مترجمة، وإنما سمعوها من المسيحيين والسريان الذين كانوا يجادلونهم، وربما أتتهم من طريق الفرس المتأثرين بالثقافة اليونانية" (6).
ومن المؤسف أن ينكر الدكتور ضيف على بشر إمكان قوله بمطابقة الكلام لمقتضى الحال، ثم ينسب هذا القول إلى تأثر بشر بأفلاطون، من غير دليل.
ويبدو أن الدكتور ضيف قد استوثق فيما بعد من نسبة الصحيفة إلى بشر، فرواها كاملة في كتابه "البلاغة تطور وتاريخ" (1965)، وقد أكد أن الجاحظ رواها "تامة غير منقوصة"، وعدّها "خير ماأثر عن المعتزلة في البلاغة"(7)، واستمر في قوله بتأثرها بالثقافة اليونانية، فقد رأى أن بشراً "يرسم في دقة الفكرة اليونانية التي تدعو إلى الملاءمة بين الكلام وأحوال السامعين ونفسياتهم"(8).
ويتعرض الدكتور ضيف مرة أخرى لبشر بن المعتمر في الجزء الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول" (1966) فيشيد بصحيفته، ويعدها في البلاغة، ويرى أنها "تجعله واضع أصولها الأولى في صورتها الدقيقة"(9).
ويلاحظ أن الدكتور ضيف في كتابه "النقد"(10) ينسب إلى الجاحظ الكلام الذي ألحقه الجاحظ نفسه بصحيفة بشر، على حين يعده في كتابه "البلاغة تطور وتاريخ"(11) جزءاً من صحيفة بشر نفسها.
ج- الدكتور إحسان عباس وصحيفة بشر:
وفي الاتجاه نفسه، وهو فهم صحيفة بشر على أساس بلاغي، يقف الدكتور إحسان عباس في كتابه "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" (1971)، على الرغم من حرصه على تبين أسس النقد فيها، لأنه يختصر مافيها من نقد بفكرة التناسب بين المعاني والمستمعين، ويعدها مدار البلاغة، كما يردّها إلى مفهوم البلاغة في الصحيفة الهندية، ثم يرى أن حرص المعتزلة على الجدل الكلامي دفعهم إلى استبانة المقاييس البلاغية والنقدية، وهي عندهم سواء، و" لهذا كان بعض علماء المعتزلة معلمي بلاغة، كما كان سفسطائيو يونان"، ثم يقرر أنه "على هذا النحو يجب أن نفهم دور بشر بن المعتمر وغاية صحيفته"(12).
ويتضح من تلخيصه الأسس النقدية في صحيفة بشر بفكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومن إحالته إلى الصحيفة في "البيان والتبيين"، من خلال الحاشية ذات الرقم /3/ في الصفحة ذات الرقم /67/ أنه يعد الكلام الذي رواه الجاحظ لبشر بعد الصحيفة، جزءاً من الصحيفة نفسها.
وبذلك يقتصر الدكتور إحسان عباس على الجانب البلاغي في فهم الصحيفة، معتمداً على ماألحق بها من قول لبشر في البلاغة، وما ورد فيها من القول بمطابقة الكلام لمقتضى الحال، رادّاً إلى هذه الفكرة وحدها جلّ ماجاء فيها من أسس نقدية، وجاعلاً هذه الفكرة نفسها ممثلة لمفهوم البلاغة عند المعتزلة.
ولا يمكن أن يعدّ الجاحظ في الواقع مسؤولاً عن الاقتصار على الجانب البلاغي في فهم الصحيفة عند الباحثين المعاصرين، لأن البلاغة عند الجاحظ لم تكن تعني ماتعنيه اليوم من ضيق الدلالة على البلاغة، بمعنى البيان والمعاني والبديع، كما لم تكن تعني، كما هو معتقد، فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فحسب، بل كانت تحمل دلالات أوسع يمكن تلمسها من خلال ماأورده الجاحظ نفسه من تعريفات لها كثيرة، فقد كانت تشير في معظمها إلى القدرة على التبليغ بمعنى التوصيل، وما يساعد على ذلك من قدرات، كالإيجاز والفصاحة وقوة الحجة ورواية الأشعار ومطابقة المقال لمقتضى الحال.
وبهذا المعنى يعد مصطلح البلاغة شاملاً لأمور كثيرة، يمكن أن يكون النقد نفسه من جملتها، ولذلك أورد الجاحظ الصحيفة في سياق حديثه عن البلاغة.
ويؤكد ذلك كله أن القدماء لم يقتصروا مثلما اقتصر المعاصرون على فهم جانب البلاغة في الصحيفة، بالمعنى الضيق لمصطلح البلاغة، بل تنبه القدماء إلى مافي الصحيفة من معالجة لقضايا الإبداع، وفهموها على هذا النحو، ويوضح ذلك طبيعة استخدامهم لها، ونوع السياق الذي كانوا يعرضونها من خلاله.
د- أبو هلال العسكري وصحيفة بشر:
لقد أورد أبو هلال العسكري (المتوفى عام 395هـ) في كتابه "الصناعتين" نص الصحيفة كاملة (13)، وكان ذلك في الباب الثالث، وعنوانه: "في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ"، وفي الفصل الأول منه، وعنوانه: "في كيفية نظم الكلام".
ولئن دل ذلك على شيء، إنما يدل على تنبهه إلى مافي الصحيفة مما يتعلق بعنوان الفصل الذي روى فيه الصحيفة، وعنوان الباب الذي يندرج فيه الفصل.
والأمر لايقف بعد ذلك عند الاستدلال فحسب، بل يتجاوزه إلى مضمون الفصل نفسه، والعسكري يفتتحه بكلام له، يتعلق بالإبداع، أو صنعة الكلام، يستفيد فيه من صحيفة بشر، ويقلده، ولكنه لايجاريه، ولا يستطيع بلوغ شأوه، ويتضح ذلك كله في قول العسكري:
" إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك، وتنوق له كرائم اللفظ، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك تطلبها، واعمله مادمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخونك الملال فأمسك، فإنّ الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الري، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلَّ عنك غناؤها. وينبغي أن تجري مع الكلام معارضة، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلّقت بذيله، وتحذّر أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت في تتبعه، وتعبت في تطلبه، ولعلك لاتلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدأب"(14).
ويورد العسكري بعد ذلك صحيفة بشر، كما رواها الجاحظ، ولكن مع قليل من الاختلاف في بعض الألفاظ، وترتيب بعض المقاطع.
ويلاحظ أن العسكري يدخل في الصحيفة كلام بشر في البلاغة والذي كان الجاحظ قد ذكره عقب الصحيفة، ولكن بعد أن يغير في روايته، ويحوّر فيه، فيجعله في صيغة الخطاب للمستمع، ليتسق والصحيفة.
ولا يظن أن ذلك راجع إلى أن العسكري وقف على نسخة أخرى من صحيفة بشر، فيها مثل ذلك التعديل والاختلاف في الألفاظ وترتيب المقاطع، لأن العسكري لم يشر إلى شيء من ذلك. وربما كان من فعل النسّاخ بعد العسكري.
هـ- ابن رشيق القيرواني وصحيفة بشر:
ويروي ابن رشيق القيرواني (المتوفى عام 456هـ) صحيفة بشر بن المعتمر في كتابه "العمدة" (15)، وهو يوردها كما رواها الجاحظ، من غير اختلاف في الألفاظ، ولا تعديل في ترتيب المقاطع، عدا بضع كلمات يتضح أن الخلاف فيها من صنع النسّاخ أو بسبب التحقيق، وهو لايضيف إليها الكلام الذي يرويه الجاحظ لبشر في البلاغة عقب روايته الصحيفة.
وفي رواية ابن رشيق للصحيفة مايرجّح انتهاءها عند الموضع الذي تمّت الإشارة إلى انتهائها عنده، على الرغم من تأخر القيرواني عن العسكري، وبعده عنه في المكان، لأن رواية القيرواني تكاد تكون مطابقة لرواية الجاحظ.
والقيرواني بعد ذلك يروي الصحيفة في "باب عمل الشعر وشحذ
القريحة له" (6)، وهو يذكر قبل روايتها أموراً كثيرة تتعلق بما يعرض للشاعر من حالات يعزّ فيها قول الشعر، وما يحاوله من وسائل لاستدعائه، كخلوة ذي الرمة بذكر الأحباب، وطواف كثير عزة في الرياض المعشبة، وإكراه أبي تمام نفسه عليه حتى يظهر ذلك في شعره، ثم يورد بعد ذلك صحيفة بشر، ويتبعها برأيه في أحسن مااستعان به شاعر، فيقول: "حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب، ثم يأخذ فيما يريده"(17).