أركون .. شركة جزائرية ـ مغربية في الفكر والعرض
خالد عمر بن ققه.


عادت بي الذكريات، وأنا أتابع خبر وفاة المفكر محمد أركون إلى حوار أجريته معه منذ عشر شهور تقريبا لقناة أبوظبي، وأشرت لبعض مما جاء فيه في مقال نشر هنا بتاريخ 4 نوفمبر2010، حمل عنوان: العربية وأهلها.. كما يراها محمد اركون، وأعدت مشاهدة الحوار الذي تجاوز الساعة، ووقفت عند ما أسماه الجهل المؤسس، الذي أفقدنا الأمل في قيام علاقة سوية بيننا، ويعود هذا في نظري إلى قراءة التاريخ بوعي، والأكثر من هذا عدم وعي المثقفين بتاريخهم ودورهم في ظل كشف يومي لحقائق الكون، ولتطور في العلاقات الإنسانية، نعيش نحن خارجها، وكنا قد سبقنا ذلك بالتخلي عن ضوابط الإيمان لجهة تقييم الأفراد على المستويين السلوكي والفكري .
المثال الواضح هنا لتأكيد الرأي السابق، هو النقاش الذي دار في كل من الجزائر والمغرب، حول وصية أركون بدفنه في المغرب، وهو نقاش غير مبرر سواء من ناحية الاحتفاء به أو محاولة توظفيه سياسيا كما هي الحال في المغرب، أو من ناحية تجاهله لدرجة الطعن في وطنيته ـ وليس في جنسيته ـ كما هي الحال في الجزائر، وكان الأفضل لنا جميعا أن نعيد قراءة أفكار الرجل لنستنهض أمتنا ضمن مشروع عبد الله العروي وعابد الجابري في المغرب وهشام جعيط وعبد السلام المسدي في تونس، ومالك بن نبي وعبد الله شريط في الجزائر وطيب تزيني وبرهان غليون في سوريا، وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وحسن حنفي في مصر، وحسين مروة في لبنان .. الخ .
من ناحية أخرى لم يعد تصور النظام الرسمي العربي للقضايا سواء أتعلق ذلك بالأشخاص أو بالجانب المعرفي مقبولا، خاصة بعد أن حال توظيفه للإنجاز المعرفي دون الوصول إلى تقارب بين أبناء الأمّة الواحدة، حتى أنه على الصعيد المغاربي مثلا فشلنا اليوم في تحقيق ما كان في مؤتمر طنجة عام 1958 يعد أملا واجب التحقق بعد الاستقلال، ذلك لأن سيطرة السياسي على الثقافي حال دون أن يكون محمد أركون مثلا مرجعية وشعاع نور في ظلام علاقات أخّرنا من خلالها السياسيون عقودا من الزمن.
وبالعودة إلى مشروع أركون، نكتشف أن ما نعتبره وطنية لدرجة الشفونية، أو انتماء لدرجة التضخيم، أو علاقة حميمة تعبّر عن الأصول.. جميعها حالات وهم قائمة في أذهاننا فقط،، ذلك لأن أطروحات أركون رغم موضوعها الخاص بنقد التراث الإسلامي، ومحافظته على جنسيته الجزائرية، وقرابته المغربية وانتمائه العربي وهويته الإسلامية، خاطبت الإنسانية ممثّلة في المغرب، فكانت وجها جميلا، ولسان صدق قضى على حالات الافتراء والأباطيل والرجم بالغيب والشطط الإيماني عند بعضنا، ووهن وتراجع عند آخرين حين تولّت الأمة يوم الزحف الحضاري العالمي الأكبر .. يوم لم يعد فيه أركون ملكا لأحد منا، وإنما كنا فيه سواء مع البشرّية، ومع ذلك احتل موقعا أماميا للدّفاع عن الوجه الحضاري لتراث الأمة وتاريخها .
بناء عليه، تقام الحجّة علينا حين نغرق في أحقادنا الحدودية التي رسمها الاستعمار، ولا يكون بصرنا حديدا تجاه مطلب البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا.. كيف لنا أن نقدمّ إجابة واضحة للعالم ولأبنائنا حين نسأل: ما لكم بأفعالكم تسفّهون أهل الحلم والعلم والعقل والحكمة منكم؟ مالكم على هذه الحال وقد جمعتكم المآسي والأفراح في مراحل معينة من تاريخكم القديم والحديث؟ ولمن لكم غير أنفسكم وإخوانكم؟.. هذه الأسئلة كلها وغيرها قدّم لها أركون إجابات في زمن التردّي العربي والمغاربي وقبلهما الإسلامي.
لقد كان الجامع بيننا، بزواجه من مغربية، على غرار عائلات جزائرية ومغربية كثيرة ربطت بينهما الدماء، وهل هناك ما هو أقوى من رابطة الدماء بعد الإيمان طبعا.. وقهر الخوف من الأمازيغ في المغرب حين امتطى صهوة جواد المعرفة والفلسفة ولم تلهيه السياسة على أسلوب التغيير في الحياة، فكان أكبر من الذين أخذتهم العزة بالإثم وهو يعتقدون أنهم بحصار دولة مجاورة لأخرى، يحسنون صنعا.. وللتاريخ فإنه قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين دعا جهارا للتفريق بين التراث الديني والتراث السياسي في العالم الإسلامي، لهذا كلّه لا أبالي بأحد مهما أوتي من قوة حين أقول: أني أحببت المغرب بعد الجزائر من نظريات وأفكار علمائها وفلاسفتها، مع أنني لم أزرها في حياتي إلا مرتين، أولاهما كانت لإجراء حوار مع الزعيم بوضياف قبل عودته إلى الجزائر رئيسا.
ليعلم الجزائريين والمغاربة أن الخلافات بينهما سواء تلك التي طويت مع حرب الرّمل، أو التي لا تزال قائمة وذات طابع تفاوضي سندها تراكمات الماضي القريب، أو الأخرى التي ستكون في المستقبل يدفعها غلاة السياسيين في البلدين، مصحوبة بنار حرب إعلامية أو سياسية، كالتي نعيشها هذه الأيام، وسيطفئها أهل الخير في البلدين.. ليعلما أن الذي يحمي وجودهما هو الاعتراف بالتعايش وتصفية الاستعمار وليس لأن بالجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة تقتضي هذا، وإنما كون وجود كل منهما مرتبطا ببقاء الآخر، وربما هذا ما قصده الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين وجاء صريحا في شهادة الحسن الثاني في حوار أجرى معه الصحفي الفرنسي إريك لوروا ونشر في الشرق الأوسط ثم في كتاب تحت عنوان : " ذاكرة ملك "
رحل أركون محمّلا بهموم أمته، ولعل وصيته بدفنه في المغرب رسالة حب مفادها: أن المثقف الواعي حين يختار الحياة أو يحضره الموت يكون أقوى في سعيه للتغيير من جماعات تحرّكها ما تراه حقائق، حتى إذا جاءته وجدته وهما، ووجدت الأجيال تطاردها.. ما فعله أركون شهادة للتاريخ على أن المحبة والفكر والعرض شراكة بيننا، فليفرح بذلك من أراد أن يكون العلم نوره واليمين يقينه، وأخوة المؤمنين حقيقته، وسلامة القلب صفته، وابتغاء وجه الله هدفه.. من يرى نفسه أهلا لذلك في الجزائر أو المغرب فليفعل!