بقلم الأستاذ الدكتور عصام قصبجي
(أستاذ النقد الأدبي بجامعة حلب)
اللغة العربية لغة العقل تومض في القلب فتظهر على اللسان، ولا بلاغة لمن لا قلب له، ولا لسان لمن لا عقل له، فأما التأليف بين القلب والعقل واللسان فهو سر البلاغة العربية الذي جعل منها تناغمات فاتنة تتوزع على قواعدها إيقاعات الكلام بين إيجازٍ وافٍ لا يجوز أن يقوم مقامه إطنابٌ مخل، وحقيقة بيِّنة لا يجوز أن يقوم مقامها مجاز مبهم؛ أفنطنب ونحن لا نجيز الإطناب فنفيض في الكلام على أسرار الكناية، وإيحاءاتها الذوقية، والاستعارة وإيحاءاتها الخيالية، أم نوجز ونحن نؤثر الإيجاز فنذكر تقديماً لا يحسن معه تأخير، واستفهاماً ينطوي على تنكير، أم نختصر ذلك كله بأن إيقاع البلاغة العربية إنما هو إيقاع النفس وهي تتابع تموجات الكلام وتآلف أنغامه مع نظام الفكر الثابت.
وقد مضى زمن بيئس قال فيه من قال إن البلاغة العربية وريثة منطق اليونان؛ كأنهم لم يكونوا يعرفون ذوق العرب، أو كأنهم يغفلون أن الذوق لا يكون دون منطق، ومن ثم كانت البلاغة العربية تآلف الذوق مع المنطق على إيقاع اللسان، وكان البيان العربي حواراً بليغاً بين لباقة المتكلم وحذق المتلقي، فليس من مقتضيات البلاغة أن يقول المتكلم ما يريد أن يقوله واضحاً جلياً يدركه المتلقي فلا يحرك فيه فكراً أو يثير فيه شعوراً، وإلا فماذا يترك للمتلقي إذن، وإنما البلاغة أن يومئ المتكلم، أو يشير، أو يلمح، أو يرمز، أو يوجز، أو يطنب بحسب المعنى أو المغزى الذي يحيك في النفس فيصقله الذوق ثم يقذف على اللسان قولاً مأثوراً، أو حكمة ساطعة، أو مثلاً سائراً، وإنما البلاغة أن يصغي المتلقي أو يتخيل أو يخمن، أو يظن، أو يحدس، بحسب ما يأنس به من وحي الكلام، فيشق أصدافه عن لآلئ معانيه سائغة قاهرة.
والتفتازاني أحد أولئك الأفذاذ من أسلافنا الذين جمعوا بلاغة العقل إلى بلاغة اللسان مع رهف في الشعور، وتوقد في الفكر، فكان من ذلك كله نظرات نافذات، وأحكام صائبات تسدد هنا وتصحح هناك، وتخذف هنا وتزيد هناك أنساً بحدس باطن يرشده في أمره كله إلى أسرار الكلم وأحكام النظم، وقد لقي ما لقي من عنت أشباه الدارسين الذين حاموا حول قول باطل لا يُعرف له منشأٌ أو مآلٌ مفاده أن التفتازاني جعل البلاغة عقلاً بعد أن كانت ذوقاً، كأن من قال ذلك أنسي أن البلاغة شعور مظهره المنطق، وذوق مآله العقل: يظهر هذا في ذاك كما يظهر الروح في الجسم، أو يتجلى المعنى في المبنى، وأي ذوق لا منطق له إنما هو ذوق لا شأن له.
ولكن! من للتفتازاني في زمن عزّ فيه النصير؟! في زمن رأينا فيه بعض من نشؤوا في العربية... بل شاخوا فيها... يتخلون شيئاً فشيئاً عن منطق اللغة ومغزى الكلام ليستهلوا بعضاً من العامي أو يرتضوا بعضاً من الشائع، أو ينكروا بعضاً من الثابت الراسخ.
من هذا الذي يجرؤ على أن يتوغل في أسرار الإيماء والإيحاء واللمح والرمز بعزيمة صابرة وبصيرة ثاقبة دون أن يخشى من يتساءل عن جدوى هذه الأسرار في عصر الأرقام.
وإني لفي غمرة اليأس من نبأ عن باحث يأنس بأسرار البلاغة فيجلو ما قد ران عليها من صدأ التجاهل، وظلم التغافل، ويُحيي ذكر التفتازاني العظيم، الذي حفظ للبلاغة شأنها وأعلى مجدها، إذا بالخبر يوافيني بأن ثمة بحثاً ينهض به شـاب غض الإهاب، نافذ البصيـرة، مرهف الحس... فأما البحـث فهو ’التفتازاني وآراؤه البلاغية‘، وأما الشاب فهو السيد ضياء الدين القالش الذي سعدت بمعرفته فرأيت فيه رصانة العالم، وذوق البليغ، وحرارة العاشق، ولقد شهدته يحيك بحثه بل يوشيه كأنما لقن فيه بلاغة صاحبه عقلاً وذوقاً، فاستقام له أسلوب قلّما قُدّر لشاب أن يستقيم له مثله، وإنما هو عشق اللغة العربية
لا تعطيك سرها إلا إذا أعطيتها قلبك، ولقد أعطاها السيد ضياء الدين القالش في بحثه هذا قلبه ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك عقله وذوقه حتى استوى له من ذلك كله رائع البنيان.

أ. د. عصام قصبجي

أستاذ النقد الأدبي بجامعة حلب
حلب في 24/ 3/ 2009