قراءة نقدية لنص(همسات في آذان البحر)للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري/ بقلم: الناقد العراقي عباس باني المالكي

هَمَسَاتٌ في آذان البَحر
شعر: عبداللطيف غسري



(من ديوان "قوافلُ الثلج")

لقلبيَ أن يَحْضُنَ المَوْجَ،
أنْ يَسْألَ الوَقتَ كمْ عَدَدُ السَّمَكاتِ اللوَاتِي تـَعِبْنَ
مِنَ الغـَوْصِ فِي عُنـُقِ المَاءِ
أوْ مِنَ مُصَافـَحَةِ البَحْر إثـْرَ أفـُولِ المَرَايا
وَلمْ أسْتطِعْ أنْ أضُمَّ
شِفاهَ التبَاريحِ عنْ كـَشْفِ خَارطـَةِ الشـَّوْقِ
قلتُ لـَهُ تِلكَ أمْنِيَتِي أيُّهَا البَحْرُ؛
أنْ أرْكبَ الرَّمْلَ فوقَ كـَثِيبِ الحَنِينِ
فأنـْثـُرَ بينَ يَدَيْكَ حُبَيْبَاتِ بَوْحٍ سَتـَخْضَلُّ تـَنـُّورَة ُالعِشْقِ
مِنْ زَهْرهَا المُسْتبَاحِ
بـِليْلٍ تـُرَاودُهُ ذِكرَيَاتُ الصَّبَاحِ
وَأمْنِيَتِي أنْ أجـِيئكَ فوقَ جَناحِ السَّنونو،
إناثُ البَلابلِ يَتـْبَعْنـَنِي
قدْ سَكِرْنَ بـِخَمْر الأقاحِي
تـَضِجُّ حَناجـِرُهُنَّ بـِأنـْشُودَةِ الشَّرْْقِ
كمْ ضَاعَ فِي صَمْتِكَ العَذبِ مِنْ حُلـُمٍ أيُّهَا البَحْرُ
لا تـَنـْسَ أنـَّكَ كـُنـْتَ لـَفِيفـًا مِنَ الضَّوْءِ
يَحْمِلُ بَارقـَة َالتـَّوْقِ
نرْسُمُ تحْتَ صَبيبـِكَ أحْلامَنـَا عَنْ عُيُونُ الصَّبَايَا
ونرْتاحُ مِنْ شَبَقِ السَّوْءِ
فوقَ ظِلالِكَ يَوْمَ تـَعِجُّ خَوَاطِرنـَا بـِغـُثاءِ الخَطايَا
وَنمْلأ مِنكَ جِرَارَ انـْتِشَاءٍ
بـِمَاءٍ
جُزَيْئاتـُهُ مِنْ حُرُوفِ النـَّوَايَا
وَفوقَ جَبينِكَ نـَطبَعُ مِنْ شَفـَةِ الدِّفْءِ
ما قدْ يَطِيبُ لنـَا فِي مَقامِ القصِيدَةِ
مِنْ قـُبُلاتِ التـَّأسِّي

عبد اللطيف غسري
بوجدور / صيف 2009
المغرب


إن الارتقاء بدلالة النص إلى المستوى الذي يحقق انزياحا في تكثيف الصورة الشعرية وفق الاستفادة من الاستعارة الوجودية التي تقارب المشاعر الداخلية ومخاضاتها إلى حركة الطبيعة التي تلتصق بالذات وتقاربها بالمعاناة وكأن الطبيعة هي الرؤى لكل ما نشعربه من مشاعر وأحاسيس ... لهذا يعتمد عمق النص قدرة الشاعر على تقريب مشاعره الداخلية إلى الطبيعة وما تحققه من تناغم وتمازج إلى حد تصبح الطبيعة والذات كل منهما يعبر عن الآخر ، حيث تصبح الاستعارة هنا هي النسق المتوالد في توسيع لغة الشاعر وفي نفس الوقت تعطي إلى الشاعر القدرة العالية على تكثيف وترميز النص وفق هذه الاستعارة وكما أكد عليها جاكويسون أن الشعر يتمحور على الاستعارة كتقنية أسلوبية ..فالاستعارة تعطي الشاعر المحاولات التي توصله إلى اقتناص المسافات الشاسعة بالتعبير الكامل عن مشاعره الكامنة في لحظة تصادمه مع المحيط حوله ، فالشعر كما أعتقد هو محاورة الذات في أقصى أزمتها من أجل الكشف عنها بهذا تبقى نقطة التمحور بين الذات والتعبير عن أزمتها هي الصياغة الصورية للتقارب الكبير بين العاطفة وفكرها .. فكل المدركات لا يمكن أن نراها ونجسدها بشكل كبير إذا لم تكن لها صورة لأن الصورة هي إدراك الموجودات في ذاكرة الأحاسيس ..فنجد أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد استفاد من هذه الاستعارة ما جعل نصه هذا بمستوى النضج الصوري وتركيباته حيث نلاحظ الانزياح والتجاذب الصوري بينه والبحر ...


لقلبيَ أن يَحْضُنَ المَوْجَ،
أنْ يَسْألَ الوَقتَ كمْ عَدَدُ السَّمَكاتِ اللوَاتِي تـَعِبْنَ
مِنَ الغـَوْصِ فِي عُنـُقِ المَاءِ
أوْ مِنَ مُصَافـَحَةِ البَحْر إثـْرَ أفـُولِ المَرَايا
وَلمْ أسْتطِعْ أنْ أضُمَّ
شِفاهَ التبَاريحِ عنْ كـَشْفِ خَارطـَةِ الشـَّوْقِ
قلتُ لـَهُ تِلكَ أمْنِيَتِي أيُّهَا البَحْرُ؛
أنْ أرْكبَ الرَّمْلَ فوقَ كـَثِيبِ الحَنِينِ
فأنـْثـُرَ بينَ يَدَيْكَ حُبَيْبَاتِ بَوْحٍ سَتـَخْضَلُّ تـَنـُّورَة ُالعِشْقِ




حيث نلاحظ هنا أن الشاعر قد استخدم اللغة المعبرة بكاملها عن التقارب الوجودي بين دقات القلب وموج البحر وهذا يعتبر قدرة رائعة على تحقيق التجاذب في ألاستعارة بين الموج ودقات القلب وقد استخدم هنا الاستعارة بوصفها مجازا حيث أن قدرة أي شاعر تظهر من خلال الاستخدام الأمثل إلى الاستعارة لأنها العنصر الأهم في العملية الإبداعية وذلك لارتباطها بالإلهام والإبداع وكما أنها مرتبطة بأحداث الانزياح في تركيب الصورة الشعرية وما أكد عليها الشريف المرتضى ( أن الكلام متى ما خلا من الاستعارة وجرى كله على الحقيقة كان بعيدا عن الفصاحة بريا من البلاغة ) حيث نلاحظ الشاعر عبد اللطيف غسري استخدمها ليبني في هذا النص اللغة الإبداعية التي استطاعت أن تقارب البحر مع تموجات روحه القلقة لأننا نلاحظ أن الشاعر في هذا المقطع قارب لغة البناء المعماري في اللغة فهو بقدر ما يدعو إلى الغوص يرى المرايا التي تعكس الظواهر حيث نجد مداخلة كبيرة في إحداث الانزياح الانسيابي وليس القصري فهو يدعو إلى قلبه أن يحضن الموج وهذه صورة شعرية عالية الاستعارة لأنها تمزج بين القلب الذي هو مركز حياة الإنسان وبين الموج أي أن الشاعر يريد أن يقول من خلال هذا أنه يعيش القلق الوجودي بكل أبعادة البستمولوجية أي عمق الحياة الحضارية فالغوص هو البحث عن الحقيقة الحياتية ولكن نجد هنا الغوص من خلال عنق الماء أي أن الحياة ضاقت عليه بالرغم من قدرته على امتلاك العمق الرؤيا وسعة أزمته ( لقلبيَ أن يحضن الموجَ، /أن يسأل الوقت كم عدد السمكات اللواتي تعبنَ /من الغوص في عنق الماءِ)
ولكن هذا العمق وسعة االأزمة تبقى ظاهرا في المرايا وهنا استخدم استعارة التضاد فهو بقدر مايملك من مشاعر وجدانه عميقة يبقى الأخر لا يرى العمق إلا في المرايا وهذه هي أزمة الشاعر هنا في هذا النص هو يريد أن يعيش العمق والآخر تجذبه ظواهر الحياة الآفلة (أو من مصافحة البحر إثر أفول المرايا ) وهو بهذا استعار البحر بدل الحبيب ليرسم أناشيده ، والسبب الذي دعا الشاعر لهذه الحالة هو أن الآخر لا يمكن أن يستوعب عمق روحه في الشوق و الحنين إليه لهذا حدث تجاذب نفسي بين روحه والبحر ليحقق التوازن النفسي الدلالي في استيعاب همومه التي لا يدركها الآخر،أي أن البحر أصبح هو الحبيب الذي ينشده فالشاعر ارتقى بدلالته الشعرية إلى إضفاء الصفات الإنسانية على كل من المحسوسات المادية والأشياء المعنوية أي جعل من المعنوي ماديا أو حسيا على سبيل الاستعارة ، وهذا مركز إبداع الشاعر وقدرته العالية في توسيع أفقه الشعري والبناء العميق للنص وفق أنساق التجاذب الوجودي لأزمته الإنسانية ( ولم أستطع أن أضمّ /شفاه التباريح عن كشف خارطة الشوقِ /قلت له تلك أمنيتي أيهاالبحرُ؛ )
حيث يبقى شوقه خارج خارطة الشوق ، لهذا يبقى متشبثا بالبحر رمزا للحبيب في كل مخاضاته الوجودية والإنسانية لأنها أكبر من إدراك الآخر لكل هذا العشق في داخله إليه ، وقد يكون هنا الشاعر لاستطيع البوح إلى الآخر بمكنوناته لأسباب أو أن الشاعر يدرك أن الآخر لا يستطيع أن يستوعب عمق أحاسيسه وفي كلا الحالتين تبقى أزمته يعيشها في ذاته فكان البحر هو المستوعب لكل هذا ، فهو هنا خلق التماثل الشخصي ل(الأنا ) ومثلها بالبحر لتقارب أو التجاذب النفسي لحقيقة مشاعره المتقاربة من صورة البحر ...