قد يكون من الخير للإنسان إذا اضطربت في ذهنه الأفكار ، و تشاجرت عنده الآراء ، و وجد نفسه غارقاً في ركام آلام و أحزان ، أن يبحث لنفسه عن مخرج في الكتابة ، و ما أرى الكتابة تحقق غايتها كما تحقق في مثل هذه الحال .
ليس حزني على ما مضى ، فما مضى كان الخير فيه ما انتهى إليه ، لكنَّ خوفي مما سيأتي ، أفيعقل أن يعاد لي ما كان ، أو أن أقف على ما يشبهه فأخسر كل ما لدي ، أم إنه قد كتب عليَّ أن أسير متخبطاً في طريقي لا ألوي على شيء .
لست أدري إن كان الماضي قد انتهى ، و هو قد انتهى في صورته التي كان عليها ، لكنَّ صوراً أخرى قد يظهر بها هي ما يخيفني و يؤرقني ، فما أدري أيتنكر لي أصحاب جدد ، و هل سأعيش حياتي متربصاً أن أخسر كل ما لديَّ و يغشاني السواد و الألم .
و عندما أقف على ما كان و ما سيكون أحس أن حياتنا يجب أن تكون كرحلة قطار عابر يمر بمحطات و يغادرها ، فلا يبقى أسيراً لها ، و لا يثقف عندها غير هنيهة من الزمن ، و حينذاك لا نبقى كطير أسير في قفص ماضيه ،أو كرجل هرم لا يدرك من الدنيا غير لفظي كان و
أذكر ، بل نغدو كصقر محلق باسط جناحيه ليسعا الكون كله من حوله ، منطلق نحو الأمام ، إلى حيث تشرق الشمس و تبزغ النجوم ، لا يثنيه عن شأنه شيء ، و لا يشغله عنه شاغل .
و ليس على الإنسان و الحال هذه إلا أن يسير بخطى ثابتة ، قاصداً هدفه في أن يصل إلى أقصى غاية يستطيعها أو يقاربها ، و يبذل كل ما في وسعه في سبيل ذلك ، و لا يضيع وقته في شؤون و ذكريات لا يملك لتغييرها شيئاً .
عقلنا و قلبنا و نفسنا و كل ما فينا يقوم مما يمر علينا في حياتنا ، غير أن هذا شيء و حبسنا أنفسنا في بوتقة ما كان شيء آخر ، فالماضي جزء منا لا نغادره و ليس بأيدينا أن نمحوه من أعماقنا مهما بذلنا ، لكنَّنا نملك أن نتغلب عليه ، و نكمل طريقنا دون أن يؤثر علينا ، و هذا لا يكون إلا إن وجهنا نظرنا نحو الأمام و المستقبل و الآتي ، فنحن لا نعيش لما مضى و انقضى ، فليكن لنا الآتي فهو الباقي ، و ليمض الماضي فما هو بعائد و إن ولج الجمل في سم الخياط ، و ليكن لنا من الماضي الخبرة و الدراية ، و من الحاضر الواقع و المعايشة ، و لنعرف أن الواقع ليس إلا ما هو الآن ، و أنَّ ما رحل عنا رحل من كل شيء إلا قلوبنا التي نحن أصحابها ، و القادرون على أن نمحو ما نشاء فيها و نثبت ، فلنثبت فيها الخير و الجمال ، و لنمح عنها كل ما عداهما ، محواً لا يترك منها أي أثر يعيدنا إلى مغاور الماضي و أعماقه ، محواً لا يضعنا إلا في جنات الحاضر و روضاته التي نزرعها و نسقيها بأيدينا المحبة و الوفية ، و المؤمنة بأننا ملوك الحاضر و أسياده إن لم نكن كذلك في زمن مضى .