عندما لا تجد الحياة مغنياً
يتغنى بقلبها ، تلد فيلسوفاً
يتكلم بعقلها .
جبران خليل جبران
عرفنا بعضنا منذ أمد بعيد ، شهدنا مرحلة المراهقة و الشباب سويّاً ، و كان طبعانا متقاربين لكنهما لم يكونا أبداً طبعاً واحداً ، فقد كان بيننا من الاختلاف ما لا يقل عن الاتفاق إلا يسيراً .
درسنا معاً ، و نجحنا معاً ، و شهدنا نكسات و انتصارات الزمن معاً ، و كذلك عشقنا و فشلنا في العشق معاً ، عانينا مشاكل الحياة أحياناً ، و شهدنا أفراحها القليلة أحياناً أخرى ، لكنَّ مسافة واضحة كانت تفصل دوماً بيننا فتمنع تماهينا ، فهو لا يأبه بالفكر و الأدب و إن كان لديه نزوع غامض نحو الشاعرية ، لكنّ ظروفه و عمله و انقطاعه عن التأمل كل ذلك أضر به ، فلم يسمح لهذا الشعور أن ينمو ، و إن ظلت به بقية من حياة .
كانت مشكلته الكبرى أنه فشل في كثير مما كان يصبو إليه ، فانغمس في شهواته انغماساً واضحاً مع علمه بخطأ ذلك ، لكنَّ أخلاقه حمته من ارتكاب ما يشين ، وغدا ينظر إلى الدنيا بعين الكاره السئم ، و يشعر أن كل عمره ما هو إلا أيام رتيبة يمضي أحدها ليردفه الآخر دون غاية أو معنى أو هدف .
و حين كنت أمسك بيده لأعينه على تجاوز ما هو فيه ، كان ينظر إلي بعين غير مبالية ، و يصرح أن لا فائدة من المحاولة ، و أن قدره قد أنهى
مشوار حياته عند هذه النقطة ، و إن لم يكن قد بدأ أصلاً .
و فجأة ..... وجدت نفسي أمام إنسان آخر ، شخص غير من عرفته طوال سنين ، فما تلك آراؤه و لا هذه أقواله ، و حديثه الدائم عن الفتيات و أحوالهن ، و الملهيات و أنواعها ، و الطرف و أخبارها ، صار لغة صوفية ذات عمق موغل ، و فكر سارح ، و لب متوهج .
و صرت أمامه كالمشدوه أو مشدوهاً حقاً، فما كنت أحسب يوماً أن يصير الصديق القريب مني فيلسوفاً غزير الفكر ، قوي الحجة ، حاضر البديهة ، يلقي على محاوره جملاً مرصعة الألفاظ ، واضحة الدلالة ، بعيدة الغور ، و يوشيها من بعد بالمصطلحات العالية التي تنبئ عن اطلاع واسع و ذهن متيقظ .
و زاد عجبي حديثه في سبب هذا التغير ، فهو لم يصنعه و لا سعى إليه ،بل أشرق في قلبه دونما نذير ، فيما هو غارق في لجج الظلام و الضباب التي صنعتها الحياة و ملهياتها ، و لم يكن إلا نور معرفة الله الذي اخترق الحجب و هداه إلى الطريق القويم .
و أخذ لسانه ينطلق بصوفية تأخذ بالألباب ، يعجز أدعياء المعرفة أن يأتوا بمثلها ، و رحت أستزيده فيزيدني من كلامه المنهمر من فيه كنبع سائغ دافق ، و أنا جالس في حضرته مريداً راغباً طالباً ، أسمع و أتعلم مبادئ و أسساً لم أكن لأعرفها من قبل ، يسردها علي شخص لم يعرف سلك التدين يوماً ، و لا بحر العلم ساعة .
و خرجت من عنده شارد اللب حيراناً ، و في نفسي صوتان يشتجران ، صوت يردد الإعجاب و الفرح ، و آخر يردد الدهشة و التساؤل ، فلما عدا بي الخطو قليلاً ذكرت ما أسكت دهشتي و أوقف تساؤلي ( إنك لا تهدي من أحببيت و لكن الله يهدي من يشاء )