لعل الحياة حين تعركنا عرك الرحى بثفالها تعلمنا أنها ليست كلها أعياداً و مسرات .
و لعلها إنما ترينا بذلك أن حقائقها لا تدرك إلا إن دخلنا أعماقها ، تلك الأعماق التي لن تدخل إلا بتجربة الحزن ، و تعود الحزن ، و من ثم استكناه الحزن ، فالحزن وحده هو ما يعرفنا فقه الحياة ، و السعادة لا تخرَج إلا من بين صخور و تعاريج جبال الآلام .
والسعادة ليست فرحاً صاخباً ، بل هي سكينة الاطمئنان و الرضا ، و هذا لا يتأتى إلا بمجاهدة المصائب ، حتى يبلغ القلب حد القدرة على أن يحب الحال التي هو عليها ، إن عرف أنها إن قلبها و نظر في تصاريفها ليست غريبة عن ضدها ، فيعلم عندئذ أن كل ما حوله ما هو إلا أشباه و أعراض ، و أن قلبه و روحه هما الجوهر الوحيد ، وما ذلك إلا لأنهما من روح الله سكنا أجساد البشر .
و دوامة الحياة الآخذة أبناءها أقصى اليمين و أقصى الشمال،
و التي تبعثرهم في بلاد الله أشتاتاً ، هي التي تعلمهم بفقهها حقيقتها و حقيقتهم ، فيغدو الإنسان حين تكثر تجاربه أكثر قرباً من حقيقته ، فكأن الله ما جعل اصطراع الناس و ضربهم في الأرض إلا دليلاً على وجوده و طريقاً إليه .
والسعادة نور هابط من السماء العلَيَة ، يلقى قلباً فارغاً فيسكنه ، فما هو من ابتداع البشر و لا عملهم ، و إن كان عملهم وسيلة إليه ، لكن شعوره لا يتحقق إلا بيد سماوية تزرعه داخل القلب زرعاً . وما القلب الإنساني قبل أن تدخله السعادة إلا كقرية خوت على عروشها و أقفرت من أهلها ، فما تلبث أن تؤول بين ليلة و ضحاها بدخول السعادة إليها روضة غناء كل ما فيها ينطق بالحياة و الأمل ، و ما ذلك بفعل الإنسان ، و لكنه يصنع بيديه حين يجرب ، و بعقله حين يفكر ، و بقلبه حين يغير من مشاعره تغييراً يمهد للسعادة سبيلها إلى نفسه .
فيا أيتها السعادة التي منَ الله علينا بدخولها قلوبنا ....ليت غيرنا يعرفون طريقك فيصلونك ، وليتهم يعلمون أن طريقك الذي يتخبطون في البحث عنه أقرب إليهم من أنوفهم ، وما عليهم إلا أن ينفضوا عن أرواحهم ما علاها من غبار نزق الدنيا و رغباتها ، و عندئذ فقط ..... يمكن لهم أن يعرفوا بوابة دربك فيدخلوها ، و بغير ذلك لن يتسنى لهم دخولها و إن ولج الجمل في سم الخياط مرات و مرات .