صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 17

الموضوع: مقالات لأحلام مستغانمي.

  1. #1 مقالات لأحلام مستغانمي. 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    قمت هنا بنقل بعض مقالات الكاتبة الشهيرة احلام مستغانمي في هاته المقالات اراء في قضايا اجتماعية وسياسية وادبية

    مأتم الأحلام



    استوقفني قول للكاتبة كارولين أهيم: "الحصول على دماغ يستطيع الكتابة، معناه الحصول على دماغ يعذبك", ولو أنها خبرت لعنة الحصول على دماغ عربي، لأدركت نعمة عذابها، ولقاست بمقياس ريختر للألم، فاجعة أن تكون كاتبة عربية في زمن كهذا.

    ذلك أن الكاتب العربي يشهد اليوم تأبين أحلامه شيء ما يموت فيه، ويُشعره بخـواء النهايات ثمَّة عالم جميل ينتهي، وهو يستشعر ذلك، وينتظر مذهولاً حلول الكارثة زمـن انتهى بأحلامه ومثالياته ونضالاته.. وقضاياه المفلسة نشعر بخفّة الألم، لا خفّة من أزاح عن كاهله مشكلات حملها عمراً بكامله، بعدما عثر لها أخيراً عن حلول، وإنما خفة مَن تخلّص أخيراً من أوهامه.

    سعادتنا تكمُن في فاجعة اكتشافنا، أنه لم يعد في إمكان أحد أن يبيعنا بعد الآن قضية جديدة، مقابل أن يسرق من عمر أبنائنا جيلاً أو جيلين آخرين فالشعارات الْمُعلَّبة، الجاهزة للاستهلاك التي عشنا عليها، انتهت مدّة صلاحيتها، وأصبحنا نعرف من أي "سوبرماركت" استوردها أولياء أمورنا، وكم تقاضى بعضهم، ومازال، مقابل تسميمنا ومنع نموّنا الطبيعي، واختراع حروب وكوارث لإبقائنا أذلاّء، فقراء، ومرعوبين.

    لقد اختصر محمد الماغوط، نيابة عن كل المبدعين العرب، سيرته الحياتية في جملة واحدة: "ولدتُ مذعوراً.. وسأموت مذعوراً" فالمبدع العربي، مازال لا يشعر بالأمان في بلد عربي وإذا كان بعض الأنظمة يتردّد اليوم قبل سجن كاتب أو اغتياله، فليس هذا كرماً أو نُبلاً منه، وإنما لأن العالم تغيّر وأصبحت الجرائم في حق المبدعين لا تمرُّ بسرِّية، بل قد يُحاسبه عليها العالم المتحضّر، كلما جاءه مقدماً قرابين الولاء له، طالباً الانتساب إليه.

    كيف في إمكان الكاتب العربي أن يكون ضمير الأمة ولسان حقّها، وهو منذور لمزاجية الحاكم وأُمية الرقيب وأهواء القارئ، الذي أصبح بدوره رقيباً يعمل لحسابه الشخصي، وقد يتكفل بإصدار فتوى تكفّرك أو تُخوّنك، محرّضاً الشارع عليك، فتخرج مظاهرات تطالب بسفك دمك وكسر قلمك، وتُدخلك القرن الواحد والعشرين من بوّابة المحاكم وغرف التحقيق والسجون؟

    يقول برناردشو: "الوطن ليس هو فقط المكان الذي يعيش فيه الإنسان، بل هو المكان الذي تُكفل فيه كرامته وتُصان حقوقه" وهي مقُولة تجعلنا نكتشف ما نُعانيه مِن يُتم أوطان لسنا مواطنين فيها فكيف نكون فيها كُتّاباً، ونحن نقيم في ضواحي الأدب وضواحي الحرية، خارجين لتوّنا مذعورين من زمن ثقافة الشارب العريض، والقصائد التي تُلمِّع حــذاء الحاكم، وتُبيِّض جرائم قُطّاع طُرق التاريخ، لنقع في فخّ العولمة.. فريسة للثقافات الْمُهيمنة ولطُغاة من نوع جديد، لا يأتونك على ظهر دبّابة، إنما يهدونك مع رغيف البنك الدولي.. مسدساً ذهبياً تطلق به النار على ماضيك؟

    وقد قال أبو الطالب الدمستاني "إنْ أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك" ولا أدري كيف في إمكاننا إنقاذ المستقبل، دون أن نعي الواجب التأمُّلي للمبدع ودوره في حماية الهوية العربية، ذلك أن معركة الألفية الثالثة ستكون ثقافية في الدرجة الأُولى، وعلينا ألاَّ نكون مُغفلين ولا مُستغفَلين أمام هيمنة ثقافية، لا يمكن أن تكون بريئة.

    إنَّ المبدع والمثقف العربي، هو آخــر صرح بقي واقفاً في وجه بعض حكّام، لا ينتظرون إلاَّ غفوة أو غفلة منه ليسلّمونا شعوباً وقبائل إلى الغرب، على طبق العولمة أو التطبيع وهذا المبدع العربي، الذي حدّد نفسه منذ أجيال "مبدع الضدّ"، قد يأتي يوم لا يجد فيه قضية عربية تستحق منه مشقّة النضال، ويومها سنبلغ عُمق الكارثة!
    التعديل الأخير تم بواسطة رزاق الجزائري ; 10/04/2010 الساعة 08:48 PM
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    أيها المواطن التلفزيوني.. أنقذ نفسك

    شكراً للّه. فمن نعمه عليَّ في رمضان الكريم، أنه منحني القدرة طوال شهر، على مقاومة غواية الفضائيات العربيّة، ومقاطعة كلّ ما يُبثُّ عليها من مسلسلات، وبرامج ترفيهيّة، ومسابقات رمضانيّة، ومقابلات تهريجيّة.
    تجرّأت وخنتُ وطني، حسب تعبير محمد الماغوط، رحمه اللّه. ذلك أنك في العالم العربيّ تنتمي إلى التلفزيون. هو وطنك وحزبك وأهلك وعشيرتك. تشي قناتك المفضّلة بقناعتك وهواياتك وسنّك العقلية والثقافية ومزاجك العاطفي، ونواياك الانتحارية.
    إذا كنّا جميعنا مواطنين في جمهورية التلفزيون، فأنا أُعلن نفسي مواطنة منشقة، بعد أن قضيت صيفاً كاملاً وأنا في حالة تخدير مشهدي، أركض مع المراسلين الحربيين من ضيعة إلى أُخرى، ومن قناة إلى أُخرى. حتى في نومي، كنت أفتح التلفزيون مذعورة، عسى كارثة حلّت أثناء نومي ولم أدرِ بها. هلع واحد يسكنني: ماذا لو سقط أحد المراسلين شهيداً على مرأى منّا وورّطنا في دمه؟ كتيبة المراسلات الجميلات الشجاعات اللائي كنّ يتحدثن إلينا، واصلات الليل بالنهار، غير آبهات بالصواريخ التي تمطر حولهن وفوقهن من كل صوب.. أين هنّ؟
    كيف لصبايا فضائيات التبرُّج، اللائي يسهرن ليلهنَّ ويُحيين نهارهنّ ببيعنا المباهج الكاذبة، وأزياءهنّ الباذخة، المقدَّمة كإعلانات للمصممين، أن يُنسيننا صبايا الخوذة والسترة الواقية، صبايا الشجاعة والغضب المهذّب والحزن الراقي؟ يا للعجب! ما دعاهنّ أحد إلى برنامج تلفزيوني لنتعرّف إليهنّ أكثر، لنطمئن عليهنّ، وقد كنّ أهلنا وبناتنا؟
    قرّرت ألاّ أكون من نُسّاك التلفزيون، أيّاً كان مذهب القناة.
    الذين باعوا العالم العربي البهجة الكروية المشفّرة، أَمَا كان في إمكانهم إنقاذنا من قهر متابعة مباراة موتنا، بتشفير أعراس الدم العربيِّ أيضاً؟
    العرض المجاني لايزال مستمراً، مادام الأمر يتعلّق بهلاكنا. ليواصل مَن شاء الفرجة. سواء أتابعت الفضائيات الإخبارية، أم تلك الترفيهية الخلاعية، ثمّة اتفاق على الإجهاز عليك.
    أيها المواطن التلفزيوني.. أنقذ نفسك!

    عندما ينتحر الممثل.. نيابة عن المشاهد

    توقّعتُ هذا الصيف، وأنا أُتابع مسلسل الدمار العربي، أن يُقدم أحد المشاهدين العرب على الانتحار قهراً. ثم جاء رمضان، وخفت أن يتمرّد أحد عبيد المسلسلات الرمضانية، وينتحر احتجاجاً على تكبيله شهراً كلّ سنة أمام التلفزيون. وإذا بالممثلين هُم المنتحرون. فقد فاجأتنا الصحف بخبر محاولة انتحار الفنانة الشابة إيمان أيوب بقطع شرايين يدها، لعدم عرض المسلسل الرمضاني الذي تشارك فيه مع نخبة من ألمع النجوم.
    ولن أُعلِّق على الخبر بما يزيد من قهر هذه الصبيّة، ذات الملامح البريئة والجَمَال الهادئ، كما تبدو على الصورة. فأنا أعذر يأسها من عالم الأدغال التلفزيونية، ومافيا المسلسلات الرمضانية، التي أصبح لها ذئابها وثعالبها ووحوشها البشرية، التي تعرف من أين تُؤكَل "كتف المشاهد"، ومن أين تُؤتى جيوب القنوات، ومتى تنقضُّ على العقود والصفقات، فتسلقها لنا كيفما اتفق شوربة رمضانية من ثلاثين وجبة يومية.
    إنها حقاً "سوق للخضار" حسب تسمية المسلسل الذي رُصد له أكثر من 9 ملايين جنيه كميزانية مبدئية، وكُتبت قصته على قياس نجومية فيفي عبده، المشغولة على مدار السنة بنشاطها الخاص في الملاهي وحفلات الأعراس، ولا تحلُّ ضيفة على طاولة إفطارنا إلاّ في رمضان· ولنكن واقعيين. إنّ تسعة ملايين جنيه ليست اليوم بمبلغ يُذكَر، حتى وإن كان البعض يستكثره على أعمال أدبية حفرت وجدان القارئ العربي، مادام ردفا روبي يساويان مليوناً ونصف المليون دولار، أو بالأحرى حق تصويرها في إعلانات عن ماركة مايوهات. موجهة إلى أسواق عربية!
    وتريدون بعد هذا ألاّ تُقدم ممثلة شابة وجادة على الانتحار، بعد أن أصابها الإرهاق من العمل ليلاً ونهاراً على مسلسل لن يرى النور، تدور أحداثه في فترة ما قبل ظهور الدعوة الإسلامية، وتم تعديل اسمه من "نصر اللّه" إلى "نصر السماء" قبل أن يصبح الاسمان، حسب القاموس السياسي اللبناني الجديد.. سيَّــان!
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    إلى إيطاليا.. مع حبي

    في رومــــا، تذكّرت أغنية الراحلة ميلينا مركوري، التي كانت في تشرُّدها النضالي تغنّي “حيث أُسافر تجرحني اليونان”، قبل أن تصبح وزيرة للثقافة في اليونان الديمقراطية·
    مثلها، ما سافرت إلى بلد إلاّ وجرحتني هموم العروبة· وكنت جئت إلى روما، لحضور الحفل الذي قدّمته بنجاح كبير صديقتي المطربة الملتزمة جاهدة وهبي، في قاعة “بيو” الضخمة، التابعة لحاضرة الفاتيكان، وذهب ريعه لبناء مستشفى لأطفال الناصرية·
    كان أهالي الجنود الإيطاليين الذين سقطوا في الناصرية، مُتأثرين ومُؤثرين في حضورهم إلى جانب أبناء الجالية العربية· فبعض أمهات وزوجات الجنود القتلى لم يخلعن حدادهن منذ عدة أشهر، لكنهن، على الرغم من ذلك، واصلن تضامنهن مع الشعب العراقي، لاعتقادهن أنَّ أبناءهن ذهبوا بنوايا إنسانية، لا في مهمة عدوانية كما خطَّط لها بعد ذلك البنتاغون·
    إحدى أرامل الحرب، أبدت أُمنيتها لزيارة الناصرية، المدينة التي دفع زوجها حياته ثمناً “لإعادة البسمة إلى أبنائها”·
    أما فكرة الحفل، فقد ولدت من تصريح شقيق أحد الجنود الضحايا، غداة مقتل أخيه، حين قال: “مَن يريد تقديم تعازيه لي·· ليواصل جمع المال من أجل الأطفال الذين كان أخي يقدِّم لهم العون”·
    وقد نقلت وسائل الإعلام الإيطالية، آنذاك، قصة ذلك الجندي القتيل، الخارج لتوِّه من الفتوَّة، الذي درج على تناول وجباته الغذائية برفقة عدد من الأطفال العراقيين، واعتاد أن يقتطع من مصروفه مبلغاً يوزعه عليهم·
    بعد موته، اكتشف الأطفال الذين ظلُّوا يترددون على مواقع العسكر، أن الجنود ليسوا جميعهم ملائكة، فقد غدت طفولتهم وجبة يومية للموت الأميركي الشَّـره·
    بعد ذلك الحفل، أخذتْ إقامتي في روما منحىً عراقياً لم أتوقعه· أسعدني اكتشاف مدى حماسة بعض الإيطاليين للقضايا العربية، بقدر ما آلمني ألاَّ يجد هؤلاء أي سند، ولا أي امتنان من الجهات العربية في روما، أو من العرب أنفسهم، الذين لا يدلّلون ولا يسخون إلاّ على أعدائهم·
    واحدة من هؤلاء الإيطاليين الرائعين، الجميلة ماورا غوالكو، التي اعتادت الحضور إلى لبنان كل 16 أيلول، مع وفد من الإيطاليين اليساريين الصحافيين في معظمهم، الناشطين في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وذلك لإحياء الذكرى المأساوية لمذابح صبرا وشاتيلا، “ماورا” قالت لي بأسى، إنها ستتخلّف لأوّل مرّة منذ خمس سنوات عن هذا الموعد، لأنها ستضع مولودها في أيلول المقبل· ولكن رفاقها سيحضرون ليضعوا وروداً على مكان المذبحة، الذين فوجئوا عندما زاروه لأول مرة، بأنه تحوَّل إلى محل لرمي النفايات، فقاموا بتنظيفه بأنفسهم· وعندها استحت بلدية الغبيري، ووضعت شاهداً تذكارياً على ذلك المكان·
    المستشرقة الصديقة إيزابيلا دافليتو، نموذج آخر للإيطاليين الذين يكافحون لتجميل صورة العرب· فهي تحاول بمفردها منذ سنوات، إنقاذ سمعة الأدب العربي، والإشراف على ترجمة أهم الأعمال الأدبية، في سلسلة تصدر عن دار نشر “مناضلة” على الرغم من برجوازية صاحبها المحامي المسنّ، ما جعلني أتردّد في المطالبة بحقوقي، من ناشر تورَّط في حُب عربي مُفلس·
    كما يقوم عدَّة مثقفين موالين للعرب، بتنظيم ندوات فكرية أو سياسية، كتلك التي دُعيت إليها في مركز “بيبلي”، التي كانت مُخصصة للعراق، وألقيتُ خلالها نصاً شعرياً عن بغداد، تمت ترجمته للإيطالية·
    إيزابيلا دعتني، رغم مشاغلها، إلى عشاء في بيتها، دعت إليه على شرفي ناشري والبروفيسور وليام غرانارا، الأستاذ في جامعة هارفارد، والمستشرق الأميركي، الذي احتفظ بوسامة أصوله الإيطالية، وبحبِّه الأدب العربي·· ومشتقاته·
    وليام، الذي سبق أن التقيته في مؤتمر في القاهرة، اقترح دعوتي إلى أميركا لموسم دراسي ككاتبة زائرة، وناقشني بفصاحة مدهشة في رواياتي·· لكن من الواضح أنه لم يقرأ مقالاتي·
    لقائي الأكثر حرارة·· كان مع المخرج التلفزيوني داريو بلّيني، الذي سبق أن شاهدت له في مركز “بيبلي”، شريطاً وثائقياً عن بغداد، أبكى معظم الحاضرين، وهو يعرض يوميات العذاب والموت والإذلال، التي يعيشها العراقيون على أيدي جيش “التحرير” الأميركي·
    داريــو، الذي أُعجب بقصيدتي عن العراق، طلب مني أن يُصوّرها على شكل “كليب” لبرنامج ثقافي فـي التلفزيون الإيطالي·
    وهكذا قضيت آخر يوم برفقته، ورفقة الشاعرة ليديا فيلو، نُصوِّر القصيدة باللغتين، بعضها في بيت موسوليني، والبعض الآخر وسط المظاهرات العارمة، التي كانت يومها تجتاح شوارع روما، مندِّدة بالحرب الأميركية على العراق·
    إيطاليــــا العظيمة، لم تنجب فقط النصّابين والمافيوزي·· ومرتزقة الحروب، لقد أنجبت أيضاً مَن يعطون درساً في الإبداع·· وفي الإنسانية·
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    إلى إيطاليا.. مع حبي

    في رومــــا، تذكّرت أغنية الراحلة ميلينا مركوري، التي كانت في تشرُّدها النضالي تغنّي “حيث أُسافر تجرحني اليونان”، قبل أن تصبح وزيرة للثقافة في اليونان الديمقراطية·
    مثلها، ما سافرت إلى بلد إلاّ وجرحتني هموم العروبة· وكنت جئت إلى روما، لحضور الحفل الذي قدّمته بنجاح كبير صديقتي المطربة الملتزمة جاهدة وهبي، في قاعة “بيو” الضخمة، التابعة لحاضرة الفاتيكان، وذهب ريعه لبناء مستشفى لأطفال الناصرية·
    كان أهالي الجنود الإيطاليين الذين سقطوا في الناصرية، مُتأثرين ومُؤثرين في حضورهم إلى جانب أبناء الجالية العربية· فبعض أمهات وزوجات الجنود القتلى لم يخلعن حدادهن منذ عدة أشهر، لكنهن، على الرغم من ذلك، واصلن تضامنهن مع الشعب العراقي، لاعتقادهن أنَّ أبناءهن ذهبوا بنوايا إنسانية، لا في مهمة عدوانية كما خطَّط لها بعد ذلك البنتاغون·
    إحدى أرامل الحرب، أبدت أُمنيتها لزيارة الناصرية، المدينة التي دفع زوجها حياته ثمناً “لإعادة البسمة إلى أبنائها”·
    أما فكرة الحفل، فقد ولدت من تصريح شقيق أحد الجنود الضحايا، غداة مقتل أخيه، حين قال: “مَن يريد تقديم تعازيه لي·· ليواصل جمع المال من أجل الأطفال الذين كان أخي يقدِّم لهم العون”·
    وقد نقلت وسائل الإعلام الإيطالية، آنذاك، قصة ذلك الجندي القتيل، الخارج لتوِّه من الفتوَّة، الذي درج على تناول وجباته الغذائية برفقة عدد من الأطفال العراقيين، واعتاد أن يقتطع من مصروفه مبلغاً يوزعه عليهم·
    بعد موته، اكتشف الأطفال الذين ظلُّوا يترددون على مواقع العسكر، أن الجنود ليسوا جميعهم ملائكة، فقد غدت طفولتهم وجبة يومية للموت الأميركي الشَّـره·
    بعد ذلك الحفل، أخذتْ إقامتي في روما منحىً عراقياً لم أتوقعه· أسعدني اكتشاف مدى حماسة بعض الإيطاليين للقضايا العربية، بقدر ما آلمني ألاَّ يجد هؤلاء أي سند، ولا أي امتنان من الجهات العربية في روما، أو من العرب أنفسهم، الذين لا يدلّلون ولا يسخون إلاّ على أعدائهم·
    واحدة من هؤلاء الإيطاليين الرائعين، الجميلة ماورا غوالكو، التي اعتادت الحضور إلى لبنان كل 16 أيلول، مع وفد من الإيطاليين اليساريين الصحافيين في معظمهم، الناشطين في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وذلك لإحياء الذكرى المأساوية لمذابح صبرا وشاتيلا، “ماورا” قالت لي بأسى، إنها ستتخلّف لأوّل مرّة منذ خمس سنوات عن هذا الموعد، لأنها ستضع مولودها في أيلول المقبل· ولكن رفاقها سيحضرون ليضعوا وروداً على مكان المذبحة، الذين فوجئوا عندما زاروه لأول مرة، بأنه تحوَّل إلى محل لرمي النفايات، فقاموا بتنظيفه بأنفسهم· وعندها استحت بلدية الغبيري، ووضعت شاهداً تذكارياً على ذلك المكان·
    المستشرقة الصديقة إيزابيلا دافليتو، نموذج آخر للإيطاليين الذين يكافحون لتجميل صورة العرب· فهي تحاول بمفردها منذ سنوات، إنقاذ سمعة الأدب العربي، والإشراف على ترجمة أهم الأعمال الأدبية، في سلسلة تصدر عن دار نشر “مناضلة” على الرغم من برجوازية صاحبها المحامي المسنّ، ما جعلني أتردّد في المطالبة بحقوقي، من ناشر تورَّط في حُب عربي مُفلس·
    كما يقوم عدَّة مثقفين موالين للعرب، بتنظيم ندوات فكرية أو سياسية، كتلك التي دُعيت إليها في مركز “بيبلي”، التي كانت مُخصصة للعراق، وألقيتُ خلالها نصاً شعرياً عن بغداد، تمت ترجمته للإيطالية·
    إيزابيلا دعتني، رغم مشاغلها، إلى عشاء في بيتها، دعت إليه على شرفي ناشري والبروفيسور وليام غرانارا، الأستاذ في جامعة هارفارد، والمستشرق الأميركي، الذي احتفظ بوسامة أصوله الإيطالية، وبحبِّه الأدب العربي·· ومشتقاته·
    وليام، الذي سبق أن التقيته في مؤتمر في القاهرة، اقترح دعوتي إلى أميركا لموسم دراسي ككاتبة زائرة، وناقشني بفصاحة مدهشة في رواياتي·· لكن من الواضح أنه لم يقرأ مقالاتي·
    لقائي الأكثر حرارة·· كان مع المخرج التلفزيوني داريو بلّيني، الذي سبق أن شاهدت له في مركز “بيبلي”، شريطاً وثائقياً عن بغداد، أبكى معظم الحاضرين، وهو يعرض يوميات العذاب والموت والإذلال، التي يعيشها العراقيون على أيدي جيش “التحرير” الأميركي·
    داريــو، الذي أُعجب بقصيدتي عن العراق، طلب مني أن يُصوّرها على شكل “كليب” لبرنامج ثقافي فـي التلفزيون الإيطالي·
    وهكذا قضيت آخر يوم برفقته، ورفقة الشاعرة ليديا فيلو، نُصوِّر القصيدة باللغتين، بعضها في بيت موسوليني، والبعض الآخر وسط المظاهرات العارمة، التي كانت يومها تجتاح شوارع روما، مندِّدة بالحرب الأميركية على العراق·
    إيطاليــــا العظيمة، لم تنجب فقط النصّابين والمافيوزي·· ومرتزقة الحروب، لقد أنجبت أيضاً مَن يعطون درساً في الإبداع·· وفي الإنسانية·
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    جوارِبُ الشرفِ العربي

    لا مفرّ لك من الخنجر العربيّ، حيث أوليت صدرك، أو وجّهت نظرك. عَبَثاً تُقاطِع الصحافة، وتُعرِض عن التلفزيون ونشرات الأخبار بكلّ اللغات حتى لا تُدمي قلبك.
    ستأتيك الإهانة هذه المرّة من صحيفة عربية، انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها الأُولى لصورة صدّام وهو يغسل ملابسه.
    بعد ذلك، ستكتشف أنّ ثَـمَّـة صوراً أُخرى للقائد المخلوع بملابسه الداخلية، نشرتها صحيفة إنجليزية “لطاغية كَرِهْ، لا يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة، اختفى 300 ألف شخص في ظلّ حكمه”.
    الصحيفة التي تُباهي بتوجيهها ضربة للمقاومة “كي ترى زعيمها الأكبر مُهاناً”، تُهِينكَ مع 300 مليون عربيّ، على الرغم من كونك لا تقاوم الاحتلال الأميركي للعراق إلاّ بقلمك.. وقريباً بقلبك لا غير، لا لضعف إيمانك، بل لأنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك. هؤلاء، بإسكات صوتك، وأولئك بتفجير حجّتك ونسف منطقك مع كلِّ سيارة مفخخة.
    تنتابك تلك المشاعر الْمُعقَّدة أمام صورة القائد الصنم، الذي استجاب اللّه لدعاء “شعبه” وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه. وها هو في السبعين من عمره، وبعد جيلين من الْمَوتَى والْمُشرَّدين والْمُعاقِين، وبعد بضعة آلاف من التماثيل والصور الجداريّة، وكعكات الميلاد الخرافيّة، والقصور ذات الحنفيّات الذهبيّة، يجلس في زنزانة مُرتدياً جلباباً أبيض، مُنهمِكاً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”.
    مشهد حميميّ، يكاد يُذكّرك بـ”كليب” نانسي عجرم، في جلبابها الصعيدي، وجلستها العربيّة تلك، تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا، وهي تغني بفائض أُنوثتها وغنجها “أَخاصمَــك آه.. أسيبـــك”. ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك. وصدّام بجلبابه وملامحه العزلاء تلك، مُجرّداً من سلطته، وثياب غطرسته، غدا يُشبهك، يُشبه أبَــــاك، أخـــاك.. أو جنســك، وهذا ما يزعجك، لعلمك أنّ هذا “الكليب” الْمُعدّ إخراجه مَشهَدِيـــاً بنيّــة إذلالكَ، ليس من إخراج ناديـــن لبكــي، بل الإعلام العسكري الأميركيّ.
    الطّاغيــة الذي وُلِد برتبة قاتل، ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ الدِّفاع عن احترام خصوصيته، وشرح مظلمته. لكنه كثيراً ما أربَككَ بطلّته العربيّة تلك. لـــذا، كلُّ مرَّة، تلوَّثَ شيءٌ منكَ وأنتَ تراه يقطع مُكرَهاً أشواطاً في التواضُع الإنساني، مُنحدراً من مجرى التاريخ.. إلى مجاريــه.
    الذين لم يلتقطوا صوراً لجرائمه، يوم كان، على مدى 35 سنة، يرتكبها في وضح النهار، على مرأى من ضمير العالَم، محوّلاً أرض العراق إلى مقبرة جَمَاعية في مساحة وطن، وسماءه إلى غيوم كيماوية مُنهطلة على آلاف المخلوقات، لإبادة الحشرات البشرية، يجدون اليوم من الوقت، ومن الإمكانات التكنولوجيّة المتقدمة، ما يتيح لهم التجسس عليه في عقر زنزانته، والتلصُّص عليه ومراقبته حتى عندما يُغيِّـر ملابسه الداخلية.
    في إمكان كوريا أَلاّ تخلع ثيابها النووية، ويحق لإسرائيل أن تُشمِّر عن ترسانتها. العالَم مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربيّة تُغطِّي عـــورة صـــدّام. حتى إنّ الخبر بدا مُفرحاً ومُفاجئاً للبعض، حــدّ اقتراح أحد الأصدقاء “كاريكاتيراً” يبدو فيه حكّام عُــــراة يتلصصون من ثقب الزنزانة على صدّام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية. فقد غدا للطاغية حلفاؤه عندما أصبح إنساناً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه. بدا للبعض أنظف من أقرانه الطُّغاة المنهمكين في غسل سجلاتهم وتبييض ماضيهم.. تصريحاً بعد آخر، في سباق العري العربيّ.
    أنا التي فَاخَرتُ دومَــاً بكوني لم أُلـــوِّث يــدي يوماً بمصافحة صدّام، ولا وطأت العراق في مرابــد الْمَديــح وسوق شراء الذِّمم وإذلال الهِمَم، تَمَنَّيتُ لو أنني أخذتُ عنه ذلك الإنـــاء الطافح بالذلّ، وغسلت عنه، بيدي الْمُكابِـرَة تلك، جوارب الشّرف العربيّ الْمَعرُوض للفرجـــــة.
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    جوارِبُ الشرفِ العربي

    لا مفرّ لك من الخنجر العربيّ، حيث أوليت صدرك، أو وجّهت نظرك. عَبَثاً تُقاطِع الصحافة، وتُعرِض عن التلفزيون ونشرات الأخبار بكلّ اللغات حتى لا تُدمي قلبك.
    ستأتيك الإهانة هذه المرّة من صحيفة عربية، انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها الأُولى لصورة صدّام وهو يغسل ملابسه.
    بعد ذلك، ستكتشف أنّ ثَـمَّـة صوراً أُخرى للقائد المخلوع بملابسه الداخلية، نشرتها صحيفة إنجليزية “لطاغية كَرِهْ، لا يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة، اختفى 300 ألف شخص في ظلّ حكمه”.
    الصحيفة التي تُباهي بتوجيهها ضربة للمقاومة “كي ترى زعيمها الأكبر مُهاناً”، تُهِينكَ مع 300 مليون عربيّ، على الرغم من كونك لا تقاوم الاحتلال الأميركي للعراق إلاّ بقلمك.. وقريباً بقلبك لا غير، لا لضعف إيمانك، بل لأنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك. هؤلاء، بإسكات صوتك، وأولئك بتفجير حجّتك ونسف منطقك مع كلِّ سيارة مفخخة.
    تنتابك تلك المشاعر الْمُعقَّدة أمام صورة القائد الصنم، الذي استجاب اللّه لدعاء “شعبه” وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه. وها هو في السبعين من عمره، وبعد جيلين من الْمَوتَى والْمُشرَّدين والْمُعاقِين، وبعد بضعة آلاف من التماثيل والصور الجداريّة، وكعكات الميلاد الخرافيّة، والقصور ذات الحنفيّات الذهبيّة، يجلس في زنزانة مُرتدياً جلباباً أبيض، مُنهمِكاً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”.
    مشهد حميميّ، يكاد يُذكّرك بـ”كليب” نانسي عجرم، في جلبابها الصعيدي، وجلستها العربيّة تلك، تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا، وهي تغني بفائض أُنوثتها وغنجها “أَخاصمَــك آه.. أسيبـــك”. ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك. وصدّام بجلبابه وملامحه العزلاء تلك، مُجرّداً من سلطته، وثياب غطرسته، غدا يُشبهك، يُشبه أبَــــاك، أخـــاك.. أو جنســك، وهذا ما يزعجك، لعلمك أنّ هذا “الكليب” الْمُعدّ إخراجه مَشهَدِيـــاً بنيّــة إذلالكَ، ليس من إخراج ناديـــن لبكــي، بل الإعلام العسكري الأميركيّ.
    الطّاغيــة الذي وُلِد برتبة قاتل، ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ الدِّفاع عن احترام خصوصيته، وشرح مظلمته. لكنه كثيراً ما أربَككَ بطلّته العربيّة تلك. لـــذا، كلُّ مرَّة، تلوَّثَ شيءٌ منكَ وأنتَ تراه يقطع مُكرَهاً أشواطاً في التواضُع الإنساني، مُنحدراً من مجرى التاريخ.. إلى مجاريــه.
    الذين لم يلتقطوا صوراً لجرائمه، يوم كان، على مدى 35 سنة، يرتكبها في وضح النهار، على مرأى من ضمير العالَم، محوّلاً أرض العراق إلى مقبرة جَمَاعية في مساحة وطن، وسماءه إلى غيوم كيماوية مُنهطلة على آلاف المخلوقات، لإبادة الحشرات البشرية، يجدون اليوم من الوقت، ومن الإمكانات التكنولوجيّة المتقدمة، ما يتيح لهم التجسس عليه في عقر زنزانته، والتلصُّص عليه ومراقبته حتى عندما يُغيِّـر ملابسه الداخلية.
    في إمكان كوريا أَلاّ تخلع ثيابها النووية، ويحق لإسرائيل أن تُشمِّر عن ترسانتها. العالَم مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربيّة تُغطِّي عـــورة صـــدّام. حتى إنّ الخبر بدا مُفرحاً ومُفاجئاً للبعض، حــدّ اقتراح أحد الأصدقاء “كاريكاتيراً” يبدو فيه حكّام عُــــراة يتلصصون من ثقب الزنزانة على صدّام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية. فقد غدا للطاغية حلفاؤه عندما أصبح إنساناً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه. بدا للبعض أنظف من أقرانه الطُّغاة المنهمكين في غسل سجلاتهم وتبييض ماضيهم.. تصريحاً بعد آخر، في سباق العري العربيّ.
    أنا التي فَاخَرتُ دومَــاً بكوني لم أُلـــوِّث يــدي يوماً بمصافحة صدّام، ولا وطأت العراق في مرابــد الْمَديــح وسوق شراء الذِّمم وإذلال الهِمَم، تَمَنَّيتُ لو أنني أخذتُ عنه ذلك الإنـــاء الطافح بالذلّ، وغسلت عنه، بيدي الْمُكابِـرَة تلك، جوارب الشّرف العربيّ الْمَعرُوض للفرجـــــة.
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7  
    مشرف الصورة الرمزية محمد يوب
    تاريخ التسجيل
    Nov 2009
    الدولة
    الدار ابيضاء المغرب
    المشاركات
    944
    مقالات المدونة
    21
    معدل تقييم المستوى
    15
    مقالات جيدة ليس فيها أي شئ ممتعة فيها حرفية ومهنية ، وحتى لا يأخذني القارئ بكلامي أقول إنه العسل وأقول إنها بقصصها الإباحية تدس السم في العسل .
    ومن قال أن جرجي زيدان ليس بكاتب ماهر إنه كان نعم الكاتب و المؤرخ لكنه أساء إلى تاريخ العرب و المسلمين .
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    أميركا.. كما أراها

    زرت أميركا مرَّة واحدة، منذ خمس سنوات.كان ذلك بدعوة من جامعة "ميريلاند" بمناسبة المؤتمر العالمي الأوّل حول جبران خليل جبران. كان جبران ذريعة جميلة لاكتشاف كوكب يدور في فلك آخر غير مجرَّتي.. يُدعى أميركا. حتى ذلك الحين، كنت أعتقد أنّ قوّة أميركا تكمُن في هيمنة التكنولوجيا الأكثر تطوراً، والأسلحة الأكثر فتكاً، والبضائع الأكثر انتشاراً. لكنني اكتشفت أنّ كل هذه القوّة تستند بدءاً على البحث العلميّ وتقديس المؤسسات الأكاديمية، واحترام الْمُبدعين والباحثين والأساتذة الجامعيين. فاحترام الْمُبدع والْمُفكِّر والعالِــم هنا لا يُعادله إلاّ احترام الضابط والعسكري لدينا. وربما لاعتقاد أميركا أنّ الأُمم لا تقوم إلاّ على أكتاف علمائها وباحثيها، كان ثـمَّـة خطة لإفراغ العراق من قُدراته العلمية. وليس هنا مجال ذكر الإحصاءات الْمُرعبــة لقدر علماء العراق، الذين كان لابدّ من أجل الحصول على جثمان العراق وضمان موته السريري، تصفية خيرة علمائه، بين الاغتيالات والسجن وفتح باب الهجرة لأكثر من ألف عالِم من عقوله الْمُفكِّرة، حتى لا يبقى من تلك الأُمّة، التي كانت منذ الأزل، مهـــد الحضارات، إلاّ عشائر وقبائل وقطَّاع طُرق يتقاسمون تجارة الرؤوس المقطوعة. لكن أميركا تفاجئك، لا لأنها تفعل كلَّ هذا بذريعة تحريرك، بل لأنها تعطيك درساً في الحريّة يربكك. خبرت هذا وأنا أطلب تأشيرة لزيارة أميركا، لتلبية دعوتكم هذه، ودعوة من جامعتي "ميتشيغن" و(mit). فعلى الرغم من مُعاداتي السياسة الأميركية في العالَم العربي، لاعتقادي أنّ العدل أقلّ تكلفة من الحرب، و محاربة الفقر أجدى من محاربة الإرهاب، وأنّ إهانة الإنسان العربيّ وإذلاله بذريعة تحريره، هو إعلان احتقار وكراهية له، وفي تفقيره بحجّة تطويره نهب، لا غيرة على مصيره، وأنّ الانتصار المبنيّ على فضيحة أخلاقيّة، هو هزيمة، حتى إنْ كان المنتصر أعظم قوّة في العالم، وعلى الرغم من إشهاري هذه الأفكار في أكثر من منبر، مازالت كُتبي تُعتَمد للتدريس في جامعات أميركا. وكان يكفي أن أُقدِّم دعوات هذه الجامعات، لأحصل خلال ساعتين على تأشيرة لدخول أميركا مدَّة خمس سنوات. وهنا يكمن الفرق بين أميركا والعالَم العربيّ، الذي أنا قادمة منه، حيث الكتابة والثقافة في حدّ ذاتها شبهة، وحيث، حتى اليوم، يعيش الْمُبدعون العرب، ويموتون ويُدفَنون بالعشرات في غير بلدهم الأصلي. لقد اختصر الشاعر محمد الماغوط، نيابة عن كلِّ الْمُبدعين العرب، سيرته الحياتية والإبداعية في جملة واحدة "وُلِـدْتُ مذعــــوراً وسأموت مذعـــوراً". فالْمُبدع العربي لايزال لا يشعر بالأمان في بلد عربي. وإذا كان بعض الأنظمة يتردَّد اليوم قبل أن يسجن كاتباً أو يغتاله، فليس هذا كرماً أو نُبلاً منه، إنما لأن العالم قد تغيَّر، وأصبحت الجرائم في حق الصحافيين والْمُبدعين لا تُسمَّى بسرّية، وقد تُحاسبــه عليها أميركا كلّما جاءها، مُقدِّماً قرابين الولاء، مُطالِباً بالانتساب إلى معسكر الخير. ولذا اختار بعض الأنظمة العربية الدور الأكثر براءة، وتَمَادَى في تكريم وتدليل الْمُبدعين، شراءً للذِّمم، وتكفيراً عن جرائم في حق مثقفين آخرين. الحقيقة غير هذه، ويمكن أن تختبرها في المطارات العربية، وعند طلب تأشيرة "أخويّـــة"، وفي مكان العمل، حيث يُعامل الْمُبدع والْمُفكِّر والجامعي بما يليق بالإرهابيّ من تجسّس وحَذَر، وأحياناً بما يفوقه قَصَاصَاً وسجناً وتنكيلاً، بينما يجد في الغرب، وفي أميركا التي يختلف عنها في اللغة وفي الدين وفي المشاعر القوميّة، مَــــلاذاً يحضن حرّيته، ومؤسسات تدعم عبقريته وموهبته. وما معجزة أميركا إلاّ في ذكاء استقطاب العقول والعبقريات المهدورة، وإعادة تصديرها إلى العالَم من خلال اختراعات وإنجازات علميّة خارقة. ما الاُسد في النهاية سوى خرفان مهضومة.
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    أن تكون كاتباً جزائرياً
    " ألقيت هذه الشهادة في مؤتمر الروائيين العرب في القاهرة 1998 "

    عندما تكون كاتباً جزائرياً, وتأتيك الجزائر يومياً بقوافل قتلاها, بين اغتيالاتها الفردية, ومذابحها الجماعية, وأخبار الموت الوحشي في تفاصيله المرعبة, وقصص أناسه البسطاء في مواجهة أقدار ظالمة. لا بد أن تسأل نفسك ما جدوى الكتابة؟ وهل الحياة في حاجة حقاً الى كتّاب وروائيين؟ ما دام ما تكتبه في هذه الحالات ليس سوى اعتذار لمن ماتوا كي تبقى على قيد الحياة.
    وما دامت النصوص الأهم, هي ليست تلك التي توقّعها أنت باسم كبير, بل تلك التي يكتبها بدمهم الكتاب والصحافيون المعرفون منهم والذكرة, الصامدون في الجزائر. والواقفون دون انحناء بين ناري السلطة والإرهاب والذين دفعوا حتى الآن ستين قتيلاً.. مقابل الحقيقة وحفنة من الكلمات.
    عندما تكون كاتباً جزائرياً مغترباً, وتكتب عن الجزائر, لا بد أن تكتب عنها بكثير من الحياء, بكثير من التواضع, حتى لا تتطاول دون قصد على قامة الواقفين هناك. أو على أولئك البسطاء الذين فرشوا بجثثهم سجاداً للوطن. كي تواصل أجيالاً أخرى المشي نحو حلم سميناه الجزائر. والذين على بساطتهم, وعلى أهميتك, لن يرفعك سوى الموت من أجل الجزائر الى مرتبتهم.
    الجزائر التي لم تكن مسقط رأسي بل مسقط قلبي وقلمي, ها هي ذي تصبح مسقط دمي. والأرض التي يقتل عليها بعضي بعضي, فكيف يمكنني مواصلة الكتابة عنها ولها. واقفة على مسافة وسطية بين القاتل والقتيل.
    لقد فقدنا في الجزائر خلال السنوات الأخيرة أكثر من ستين كاتب ومبدع. هم أكثر من نصف ثروتنا الإعلامية. ولم يبق لنا من الروائيين أكثر من عدد أصابع اليدين في بلد يفوق سكانه الثلاثين مليون نسمة, أي انه لا يوجد في مقابل كل مليون جزائري, كاتب واحد ينطق ويكتب ويحلم ويفكر باسم مليون شخص.
    فأي نزيف فكري هو هذا؟.. وأيّة فاجعة وطنية هي هذه! ولذا كلما دعيت الى ملتقى حول الكتابة بدأ لي الجدل حول بعض المواضيع النقدية أو الفنية أمراً يقارب في طرحه مسرح العبث.. عندما يتعلّق الأمر ببلد يشكل فيه الكاتب في حد ذاته نوعاً بشرياً على وشك الإنقراض, وتشكّل فيه الكتابة في حد ذاتها تهمة لم يعد الكاتب يدري كيف يتبرّأ منها.. وذنباً لم يعد يدري كيف يجب أن يعلن توبته عنه أمام الملأ ليتمكن أخيراً من العيش بأمان.
    فما الذي حلّ بنا اليوم؟
    منذ الأزل نكتب وندري أن في آخر كل صفحة ينتظرنا رقيب ينبش بين سطورنا, يراقب صمتنا وأنفاسنا, ويتربص بنا بين جملتين.
    كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه. ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا لا ندري من يراقب من.. وما هي المقاييس الجديدة للكتابة.
    الجديد في الكتابة اليوم, أنّ أحلامنا تواضعت في بضع سنوات. فقد كنا نحلم أن نعيش يوماً بما نكتب.. فأصبحنا نحلم ألا نموت يوماً بسبب ما نكتب.
    كنا نحلم في بدايتنا أن نغادر الوطن ونصبح كتاباً مشهورين في الخارج. اليوم وقد أصبحنا كذلك أصبح حلمنا أن نعود الى وطننا ونعيش فيه نكرات لبضعة أيام.
    كنا نحلم بكتابة كتب جديدة.. أصبحنا نحلم بإعادة طبع كتبنا القديمة ليس أكثر .. فالذي كتبناه منذ عشرين سنة لم نعد نجرؤ على كتابته اليوم.
    عندما تكون كاتباً جزائرياً. كيف لك اليوم أن تجلس لتكتب شيئاً في أي موضوع كان دون أن تسند ظهرك الى قبر.
    في زمن العنف العدميّ, والموت العبثي, كم مرة تسأل نفسك. ماذا تكتب؟ ولمن؟ داخلاً في كل موت في حالة صمت حتى تكاد تصدّق أنّ في صمت الكاتب عنفاً أيضاً.
    ماذا تكتب أيّها الروائي المتذاكي.. ما دام أيّ مجرم صغير هو أكثر خيالاً منك. وما دامت الروايات اكثر عجائبية وإدهاشاً تكتبها الحياة.. هناك.
    سواء أكانت تريد أن تكتب قصة تاريخية, أم عاطفية أو بوليسية. رواية عن الرعب أ عن المنفى. عن الخيبة, عن المهزلة, عن الجنون.. عن الذعر.. عن العشق.. عن التفكك.. عن التشتت عن الموت الملفّق.. عن الأحلام المعطوبة.. عن الثروات المنهوبة أثناء ذلك بالملايين بين مذبحتين.
    لا تتعب نفسك, لقد سبقتك جزائر الأكاذيب والخوف وكتبتها.
    الحياة هي الروائي الأول في الجزائر. وأنت, أيّها الروائي الذي تملك العالم بالوكالة, وتدير شؤونه في كتاب. الذي يكتب قطعاً ليس أنت. ما دمت تكتب بقلم قصصاً يشاركك القدر في كتابتها بالدم.
    كنا نحلم بوطن نموت من أجله.. فأصبح لنا وطن نموت على يده.
    فلماذا تكتب؟ ولمن؟ وكيف يمكن فضّ الاشتباك بينك ككاتب والوطن؟ وهل المنفى هو المكان الأمثل لطرح تلك الأسئلة الموجعة أكثر من أجوبتها.
    أراغون الذي قال صدقتها "الرواية أي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" لم يكن عربياً. وإلا لكان قال "إن الرواية هي مفتاح الأوطان المغلقة في وجهنا.
    إنه التعريف الأنسب للرواية المعاصرة, التي منذ جيلين أكثر تولد في المنافي القسرية أو الإختيارية. موزعة على الخرائط العربية والغربية. هناك حيث ينتظر عشرات المبدعين العرب موتهم. حالمين أن يثأروا يوماً لغربتهم بالعودة في صناديق مفخخة بالكتب, فيحدثوا أخيراً ذلك الدوي الذي عاشوا دون أن يسمعوه: دويّ ارتطامهم بالوطن.
    إنه زمن الشتات الجزائري إذن. وطن يفرغ ليتبعثر كتّابه ومثقفوه بين المقابر والمنافي ليواصلوا الميراث التراجيدي للكتابة العربية, وينضمّوا للشتات الفلسطيني وللشتات العراقي.. والشتات غير المعلن لأكثر من بلد عربي, تنفى منه شعوب بأكملها, وتنكسر فيه أجيال من الأقلام إكراماً لرجل أو لحفنة من الرجال, يفكرون بطريقة مختلفة ولا يغفرون لك ان تكون مختلفاً.
    ذلك ان الكتابة أصبحت الآن أخطر مهنة. والتفكير أصبح أكبر تهمة, حتى أنه يشترك مع التكفير في كل حروفه ويبدو أمامه مجرد زلة لسان.
    فلماذا نصرّ إذن على التفكير؟ ولماذا نصرّ على الكتابة؟ وهل يستحق أولئك الذين نكتب من أجلهم كل هذه المجازفة؟
    إن وطناً أذلّنا أحياء لا يعنينا أن يكرّمنا امواتاً. ووطناً لا تقوم فيه الدولة سوى بجهد تأمين علم وطني تلف به جثماننا, هو وطن لا تصبح فيه مواطناً إلا عندما تموت.
    يبقى أن الذين يتحملّون جريمة الحبر الجزائري ليسوا القتلة. والذين يحملون على يدهم آثار دم لما يقارب المائة ألف شخص كانوا يعيشون آمنين.. ليسوا التقلة. وإنما أولئك الذين لم تمنعهم كلّ فجائعنا من مواصلة الحياة بالطمأنينة والرخاء نفسه, والذين استرخصوا دمنا.. حتى أصبح الذبح والقتل أمراً عادياً لا يستوقف في بشاعته حتى المثقفين العرب أنفسهم.
    والذين تفرّجوا خلال السنوات الأخيرة بلا مبالاة مدهشة على جثتنا. والذين جعلوننا نصدق ذلك الكاتب الذي قال:
    "لا تخش أعداءك, ففي أسوأ الحالات يمكنهم قتلك
    لاتخش أصدقاءك ففي أسوأ الحالات يمكنهم خيانتك
    إخش اللامبالين فصمتهم يجيز الجريمة والخيانة".
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    أن تكون كاتباً جزائرياً
    " ألقيت هذه الشهادة في مؤتمر الروائيين العرب في القاهرة 1998 "

    عندما تكون كاتباً جزائرياً, وتأتيك الجزائر يومياً بقوافل قتلاها, بين اغتيالاتها الفردية, ومذابحها الجماعية, وأخبار الموت الوحشي في تفاصيله المرعبة, وقصص أناسه البسطاء في مواجهة أقدار ظالمة. لا بد أن تسأل نفسك ما جدوى الكتابة؟ وهل الحياة في حاجة حقاً الى كتّاب وروائيين؟ ما دام ما تكتبه في هذه الحالات ليس سوى اعتذار لمن ماتوا كي تبقى على قيد الحياة.
    وما دامت النصوص الأهم, هي ليست تلك التي توقّعها أنت باسم كبير, بل تلك التي يكتبها بدمهم الكتاب والصحافيون المعرفون منهم والذكرة, الصامدون في الجزائر. والواقفون دون انحناء بين ناري السلطة والإرهاب والذين دفعوا حتى الآن ستين قتيلاً.. مقابل الحقيقة وحفنة من الكلمات.
    عندما تكون كاتباً جزائرياً مغترباً, وتكتب عن الجزائر, لا بد أن تكتب عنها بكثير من الحياء, بكثير من التواضع, حتى لا تتطاول دون قصد على قامة الواقفين هناك. أو على أولئك البسطاء الذين فرشوا بجثثهم سجاداً للوطن. كي تواصل أجيالاً أخرى المشي نحو حلم سميناه الجزائر. والذين على بساطتهم, وعلى أهميتك, لن يرفعك سوى الموت من أجل الجزائر الى مرتبتهم.
    الجزائر التي لم تكن مسقط رأسي بل مسقط قلبي وقلمي, ها هي ذي تصبح مسقط دمي. والأرض التي يقتل عليها بعضي بعضي, فكيف يمكنني مواصلة الكتابة عنها ولها. واقفة على مسافة وسطية بين القاتل والقتيل.
    لقد فقدنا في الجزائر خلال السنوات الأخيرة أكثر من ستين كاتب ومبدع. هم أكثر من نصف ثروتنا الإعلامية. ولم يبق لنا من الروائيين أكثر من عدد أصابع اليدين في بلد يفوق سكانه الثلاثين مليون نسمة, أي انه لا يوجد في مقابل كل مليون جزائري, كاتب واحد ينطق ويكتب ويحلم ويفكر باسم مليون شخص.
    فأي نزيف فكري هو هذا؟.. وأيّة فاجعة وطنية هي هذه! ولذا كلما دعيت الى ملتقى حول الكتابة بدأ لي الجدل حول بعض المواضيع النقدية أو الفنية أمراً يقارب في طرحه مسرح العبث.. عندما يتعلّق الأمر ببلد يشكل فيه الكاتب في حد ذاته نوعاً بشرياً على وشك الإنقراض, وتشكّل فيه الكتابة في حد ذاتها تهمة لم يعد الكاتب يدري كيف يتبرّأ منها.. وذنباً لم يعد يدري كيف يجب أن يعلن توبته عنه أمام الملأ ليتمكن أخيراً من العيش بأمان.
    فما الذي حلّ بنا اليوم؟
    منذ الأزل نكتب وندري أن في آخر كل صفحة ينتظرنا رقيب ينبش بين سطورنا, يراقب صمتنا وأنفاسنا, ويتربص بنا بين جملتين.
    كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه. ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا لا ندري من يراقب من.. وما هي المقاييس الجديدة للكتابة.
    الجديد في الكتابة اليوم, أنّ أحلامنا تواضعت في بضع سنوات. فقد كنا نحلم أن نعيش يوماً بما نكتب.. فأصبحنا نحلم ألا نموت يوماً بسبب ما نكتب.
    كنا نحلم في بدايتنا أن نغادر الوطن ونصبح كتاباً مشهورين في الخارج. اليوم وقد أصبحنا كذلك أصبح حلمنا أن نعود الى وطننا ونعيش فيه نكرات لبضعة أيام.
    كنا نحلم بكتابة كتب جديدة.. أصبحنا نحلم بإعادة طبع كتبنا القديمة ليس أكثر .. فالذي كتبناه منذ عشرين سنة لم نعد نجرؤ على كتابته اليوم.
    عندما تكون كاتباً جزائرياً. كيف لك اليوم أن تجلس لتكتب شيئاً في أي موضوع كان دون أن تسند ظهرك الى قبر.
    في زمن العنف العدميّ, والموت العبثي, كم مرة تسأل نفسك. ماذا تكتب؟ ولمن؟ داخلاً في كل موت في حالة صمت حتى تكاد تصدّق أنّ في صمت الكاتب عنفاً أيضاً.
    ماذا تكتب أيّها الروائي المتذاكي.. ما دام أيّ مجرم صغير هو أكثر خيالاً منك. وما دامت الروايات اكثر عجائبية وإدهاشاً تكتبها الحياة.. هناك.
    سواء أكانت تريد أن تكتب قصة تاريخية, أم عاطفية أو بوليسية. رواية عن الرعب أ عن المنفى. عن الخيبة, عن المهزلة, عن الجنون.. عن الذعر.. عن العشق.. عن التفكك.. عن التشتت عن الموت الملفّق.. عن الأحلام المعطوبة.. عن الثروات المنهوبة أثناء ذلك بالملايين بين مذبحتين.
    لا تتعب نفسك, لقد سبقتك جزائر الأكاذيب والخوف وكتبتها.
    الحياة هي الروائي الأول في الجزائر. وأنت, أيّها الروائي الذي تملك العالم بالوكالة, وتدير شؤونه في كتاب. الذي يكتب قطعاً ليس أنت. ما دمت تكتب بقلم قصصاً يشاركك القدر في كتابتها بالدم.
    كنا نحلم بوطن نموت من أجله.. فأصبح لنا وطن نموت على يده.
    فلماذا تكتب؟ ولمن؟ وكيف يمكن فضّ الاشتباك بينك ككاتب والوطن؟ وهل المنفى هو المكان الأمثل لطرح تلك الأسئلة الموجعة أكثر من أجوبتها.
    أراغون الذي قال صدقتها "الرواية أي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" لم يكن عربياً. وإلا لكان قال "إن الرواية هي مفتاح الأوطان المغلقة في وجهنا.
    إنه التعريف الأنسب للرواية المعاصرة, التي منذ جيلين أكثر تولد في المنافي القسرية أو الإختيارية. موزعة على الخرائط العربية والغربية. هناك حيث ينتظر عشرات المبدعين العرب موتهم. حالمين أن يثأروا يوماً لغربتهم بالعودة في صناديق مفخخة بالكتب, فيحدثوا أخيراً ذلك الدوي الذي عاشوا دون أن يسمعوه: دويّ ارتطامهم بالوطن.
    إنه زمن الشتات الجزائري إذن. وطن يفرغ ليتبعثر كتّابه ومثقفوه بين المقابر والمنافي ليواصلوا الميراث التراجيدي للكتابة العربية, وينضمّوا للشتات الفلسطيني وللشتات العراقي.. والشتات غير المعلن لأكثر من بلد عربي, تنفى منه شعوب بأكملها, وتنكسر فيه أجيال من الأقلام إكراماً لرجل أو لحفنة من الرجال, يفكرون بطريقة مختلفة ولا يغفرون لك ان تكون مختلفاً.
    ذلك ان الكتابة أصبحت الآن أخطر مهنة. والتفكير أصبح أكبر تهمة, حتى أنه يشترك مع التكفير في كل حروفه ويبدو أمامه مجرد زلة لسان.
    فلماذا نصرّ إذن على التفكير؟ ولماذا نصرّ على الكتابة؟ وهل يستحق أولئك الذين نكتب من أجلهم كل هذه المجازفة؟
    إن وطناً أذلّنا أحياء لا يعنينا أن يكرّمنا امواتاً. ووطناً لا تقوم فيه الدولة سوى بجهد تأمين علم وطني تلف به جثماننا, هو وطن لا تصبح فيه مواطناً إلا عندما تموت.
    يبقى أن الذين يتحملّون جريمة الحبر الجزائري ليسوا القتلة. والذين يحملون على يدهم آثار دم لما يقارب المائة ألف شخص كانوا يعيشون آمنين.. ليسوا التقلة. وإنما أولئك الذين لم تمنعهم كلّ فجائعنا من مواصلة الحياة بالطمأنينة والرخاء نفسه, والذين استرخصوا دمنا.. حتى أصبح الذبح والقتل أمراً عادياً لا يستوقف في بشاعته حتى المثقفين العرب أنفسهم.
    والذين تفرّجوا خلال السنوات الأخيرة بلا مبالاة مدهشة على جثتنا. والذين جعلوننا نصدق ذلك الكاتب الذي قال:
    "لا تخش أعداءك, ففي أسوأ الحالات يمكنهم قتلك
    لاتخش أصدقاءك ففي أسوأ الحالات يمكنهم خيانتك
    إخش اللامبالين فصمتهم يجيز الجريمة والخيانة".
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    أنا في المطبخ.. هل من مُنازل؟

    مــذ التحقت بوظيفتي كـ"ست بيت" وأنا أُحاول أن أجد في قصاص الأشغال المنزلية متعة ما، تخفّف من عصبيتي الجزائرية في التعامل مع الأشياء. قبل أن أعثر على طريقة ذكيّة لخوض المعارك القوميّة والأدبيّة أثناء قيامي بمهامي اليوميّة.
    وهكـــذا، كنت أتحارب مع الإسرائيليين أثناء نفض السجّاد وضربه، وأرشّ الإرهابيين بالمبيدات أثناء رشِّي زجاج النوافذ بسائل التنظيف، و"أمسح الأرض" بناقد أو صحافي أثناء مسحي البلاط وتنظيفه، وأتشاجر مع قراصنة كتبي ومع المحامين والناشرين أثناء غسل الطناجر وحكّها بالليفة الحديديّة، وأكوي "عذّالي" وأكيد لهم أثناء كيّ قمصان زوجي، وأرفع الكراسي وأرمي بها مقلوبة على الطاولات كما لو كنتُ أرفع بائعاً غشّني من عنقه.
    أمّا أبطال رواياتي، فيحدث أن أُفكِّر في مصيرهم وأدير شؤونهم أثناء قيامي بتلك الأعمال اليدوية البسيطة التي تسرق وقتي، من دون أن تستدعي جهدي، وفي إمكاني أن أحل كلّ المعضلات الفلسفية وأنا أقوم بها، من نوع تنظيف اللوبياء، وحفر الكوسة، وتنقية العدس من الحصى، أو غسل الملوخيّة وتجفيفها. حتى إنني، بعد عشرين سنة من الكتابة المسروقة من شؤون البيت، أصبحت لديّ قناعة بأنه لا يمكن لامرأة عربيّة أن تزعم أنها كاتبة ما لم تكن قد أهدرت نصف عمرها في الأشغال المنزلية وتربية الأولاد، ولا أن تدّعي أنها مناضلة، إن لم تكن حاربت أعداء الأُمّة العربية بكلّ ما وقعت عليه يدها من لوازم المطبخ، كما في نداء كليمنصو، وزير دفاع فرنسا أثناء الحرب العالمية الأُولى، عندما صاح: "سنُدافع عن فرنسا، ونُدافع عن شرفها، بأدوات المطبخ والسكاكين.. بالشوك بالطناجر، إذا لزم الأمر"!
    كليمنصو، هو الرجل الوحيد في العالم الذي دُفن واقفاً حسب وصيّته، ولا أدري إذا كان يجب أن أجاريه في هذه الوصيّة لأُثبت أنني عشت ومتّ واقفة في ساحة الوغى المنزلية، خلف الْمَجلَى وخلف الفرن، بسبب "الزائدة القوميّة" التي لم أستطع استئصالها يوماً، ولا زائدة الأُمومة التي عانيتها.
    يشهد اللّه أنني دافعت عن هذه الأُمة بكلّ طنجرة ضغط، وكلّ مقلاة، وكلّ مشواة، وكلّ تشكيلة سكاكين اشتريتها في حياتي، من دون أن يُقدِّم ذلك شيئاً في قضيّة الشرق الأوسط.
    وكنت قبل اليوم أستحي أن أعترف لسيدات المجتمع، اللائي يستقبلنني في كلّ أناقتهن ووجاهتهنّ، بأنني أعمل بين كتابين شغالة وخادمة، كي أستعيد الشعور بالعبوديّة الذي عرفته في فرنسا أيام "التعتير"، الذي بسببه كنت أنفجر إبداعاً على الورق، حتى قرأت أنّ سفير تشيكيا في بريطانيا، وهو محاضر جامعي سابق، قدَّم طلباً لعمل إضافيّ، هو تنظيف النوافذ الخارجيّة في برج "كاناري وورف" المشهور شرق لندن، لا كسباً للنقود، وإنّما لأنه عمل في هذه المهنة في الستينات، ويُريد أن يستعيد "الشعور بالحريّة"، الذي كان يحسّ به وهو مُتدلٍّ خارج النوافذ، مُعلَّقاً في الهواء، يحمل دلواً وإسفنجة.
    غير أنّ خبراً قرأته في مجلة سويسرية أفسد عليّ فرحتي بتلك المعارك المنزلية، التي كنت أستمدّ منها زهوي. فقد نجحت سيدة سويسرية في تحويل المكنسة ودلو التنظيف إلى أدوات فرح، بعد أن تحوّلت هي نفسها من مُنظِّفة بيوت إلى سيدة أعمال، تعطي دروساً في سويسرا والنمسا وألمانيا حول أساليب التمتُّع بعذاب الأشغال المنزلية، بالاستعانة بالموسيقى والغناء ودروس الرقص الشرقي وتنظيم التنفُّس.
    أمّـا وقد أصبح الجلي والتكنيس والتشطيف يُعلَّم في دروس خصوصية في جنيف وفيينا على وقع موسيقى الرقص الشرقي، فحتماً ستجرّدني بعض النساء من زهوي باحتراف هذه المهنة. بل أتوقّع أن يحضرن بعد الآن إلى الصبحيات وهنّ بالمريول ("السينييه" طبعاً) خاصة أنّ هيفاء وهبي وهي تتنقّل بمريولها الْمُثير في ذلك "الكليب" بين الطناجر والخضار، نبّهت النساء إلى أنّ المعارك الأشهى والحاسمة تُدار في المطابخ!
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12  
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    736
    معدل تقييم المستوى
    19
    ابتسم أنت في امريكا

    يدهشك حقا ويعنيك أهمية الجامعات في تأسيس أمريكا ، انها تنب كالجزر والواحات في الولايات وتصنع فخر الأمريكي الذي تخرج منها والذي يدين لها بولاء يبخل به حتى على عائلته ، أحدهم جاء من المكسيك كان مزارعا تابع دروسه الليلية في جامعة ميريلاند وعاد منذ مدة وقد اصبح مهندسا كبيرا ليدفع 5 ملايين دولار مساعدة منه للجامعة ولمن يتعلم بعده فيها

    ولانك لاتمنع نفسك من المقارنه فستتذكر ذلك السفير الجزائري الذي كان يحتفظ بمنح الطلبة في الخارج لعدة اشهر في حسابه الخاص للاستفادة من فوائدها ولا يحولها لهم الا عندما يشارفون على التسول

    وعندما تتجول بعد ذلك في المباني الجامعية والمتشابهة بجامعة ميريلاند ستكتشف ان معظمها بنيت بهبات خريجي الجامعة الأثرياء ، وفي نزل ماريوت الذي تقيم فيه سيقع نظرك حيث ذهبت على لوحات جميلة وثمينة تزين الممرات والقاعات وستلحظ اسفلها صفيحة من البرونز وبخط صغير اسم واهبها الذي هو أحد خريجي الجامعة فتتذكر قصة معروفة لمدير سابق لإحدى الكليات اللبنانية الذي نهب نصف ميزانية الكلية أثناء الحرب بابتكاره فواتير مزورة لتجهيزات وهمية لم تحصل عليها الكلية ، ثم غادر الى وظيفة اكثر ربحا وقد ترك الكلية عارية من كل شئ

    وبعد قليل يأتي نادل لخدمتك في المطعم ويخبرك أحدهم انك قد تعود في المرة المقبلة وتجده موظفا في الطوابق العليا لان الجميع هنا يدرس ليتقدم ولا احد يشغل الوظيفة نفسها طوال حياته والفرص متاحة بالتساوي للجميع

    يحكى الأستاذ سهيل بشوئي احد عمدة أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت في الستينات والسبعينات انه استطاع برسالة الى رئيس لجنة الهجرة في أمريكا ان يوقف إجراء بطرد طبيبة عربية لم يستطع المحامي ان يفعل لها شي قبل ان يسألها يائسا أتعرفين أستاذا في الجامعة يمكن ان يقدم شهادة لصالحك اما في بلادنا فكان سيسألها اتعرفين ظابطا كبيرا ام وزيرا او أي زعيم يتوسط لك عند القضاء ولكن في امريكا كل هؤلاء لا يضاهون وجاهة الاستاذ ولا هيبته

    البيت الابيض لايثير في نفسك شيئا مما توقعت من انبهار وانت ترى حديقته المفتوحة على الطريق وداخلها عدد من السياح الفضوليين ولكن هذا المشهد بالذات هو الذي سيوقظ المك ويذكرك بتلك القصور المسيجة لحكام لايمكن الاقتراب من بيوتهم بالعين المجردة
    قد تهزم الجيوش لكن لن تهزم الأفكار إذا آن أوانها
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ما النصرُ إلا للدماء زكيَّةً 00شعر : سكينة جوهر
    بواسطة سكينة جوهر في المنتدى الشعر
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 09/06/2010, 09:08 PM
  2. «نسيان.com» نصائح أحلام مستغانمي الثمينة
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 30/08/2009, 01:41 PM
  3. أمسيةشعريةفي نادي الرياض الأدبي لأحلام الحميد
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 22/01/2009, 02:31 AM
  4. جريدة الخبر في ضيافة أحلام مستغانمي
    بواسطة رياض بن يوسف في المنتدى الواحة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18/09/2008, 04:43 PM
  5. قراءة سيكولوجية في: " ذاكرة الجسد " لأحلام مستغانمي .
    بواسطة بنور عائشة في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30/06/2007, 05:12 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •