صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 46

الموضوع: السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1 ملف عن السيرة الذاتية 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

    كثيرون استبعدوا إمكانية تحقيق و إنتاج سير ذاتية شعرية، وزعموا أن أدب السيرة الذاتية يعتمد الحقيقة والصدق في نقل تجارب الحياة الفردية، وأن الشعر يقوم بخلاف ذلك على التصور، والتخيل، والمبالغة، وعلى الصدق الفني إن لم نقل الكذب ، شأنه في هذا المنحى أقوى من شأن الرواية و القصة ، وطائفة ثانية تجاهلت أمر تلك الإمكانية، ولم تكلف نفسها عناء التفكير في مسألة السيرة الذاتية الشعرية، في حين نبهت طائفة ثالثة إلى و جود نماذج و جذور للسيرة الذاتية الشعرية في تراث الأدب العربي الإسلامي .

    و قد أثيرت مسألة السيرة الذاتية الشعرية كذلك داخل الأوساط الأدبية و النقدية الغربية ، بحيث أبدى فيليب لوجون (Philippe Lejeune ) في هذا الشأن ملاحظة خلاصتها أن أدب السير الذاتية النثرية يعرف كثرة في الإنتاج بخلاف أدب السيرة الذاتية الشعرية الذي لا تتجاوز الأعمال المنضوية تحته عدد الأصابع، وبالعودة إلى كتابات الناقد الفرنسي (Lejeune ) في موضوع تعريف السيرة الذاتية ، سنجد أنه قد حاول واجتهد مرتين في وضع حد أو تعريف لهذا الجنس الأدبي ، لكنه خلص في النهاية إلى صياغة حدود تعريفية تتجاهل الحد الشعري في هوية أدب السيرة الذاتية وتعريفه ، مع أنه أدرك عدم وجود أي مانع يحول دون توظيف و إدراج أبيات شعرية في السيرة الذاتية .

    والملاحظ أن معظم النقاد و الباحثين العرب اعتمدوا في كتاباتهم ما وضعه الناقد الفرنسي من تعريف للسيرة الذاتية واكتفوا به، و اعتبروه على ما يبدو معيارا و تعريفا شبه ثابت خاص بأدب السيرة الذاتية ، يستند إلى ثلاثة مرتكزات تقيم بناءه ، أما جورج ماي ( Georges May ) فيناقش مسألة السيرة الذاتية الشعرية بقسط من الحذر، بحيث إذا ما تفحصنا ما جاء به في هذا الشأن ، فإننا نلمس لديه نزوعا إلى إقرار الحد الشعري في تعريف السيرة الذاتية، وإن كان ميل الكتاب إلى النثر في تأليف سيرهم الذاتية أقوى من ميلهم إلى إنشائها شعرا .

    وإن كان جورج ماي ( Georges May ) لم يضع حدودا تعريفية دقيقة لأدب السيرة الذاتية ، كما حاول ذلك فيليب لوجون ( Philippe Lejeune )، فذلك لأنه أدرك بأن حدود التعريف النثرية عاجزة عن الإحاطة بجوهر وهوية السيرة الذاتية، ورأى من الأحسن أن يتخذ مفهوم النزوع المتسم بالمرونة عوضا عن مفهوم التعريف في شأن تحديد ماهية هذا الجنس الأدبي ، و ذلك تفاديا لما ينطوي عليه التعريف من تصلب وجزم، فهل نسلم بالتعريف الذي وضعه لوجون ( Lejeune ) للسيرة الذاتية ، المتمثل في كون هذا الجنس الأدبي، تبعا لحد من حدوده التعريفية ، حكي أو سرد استعادي نثري ؟ و أنه أدب ينتمي إلى النثر الخالص و لا علاقة له بالشعر ؟

    هل الحد الشعري الذي غيبه لوجون ( Lejeune ) أثناء تنظيره لأدب السيرة الذاتية قد أفقد التعريف الذي وضعه لهذا الأدب الكثير من مصداقيته ؟ ثم لو تم إدراج هذا الحد و الإقرار به في دائرة تحديد هوية السيرة الذاتية أكان سيكسب تعريف هذا اللون الأدبي مصداقية كبيرة ؟ للإجابة على هذه الأسئلة ، لا بد أن نتحرى عن حقيقة " السرد " أهو بالفعل قاسم مشترك بين مختلف الأجناس الأدبية النثرية فقط ؟ و إلى أي مدى يمكن أن نوظف " الشعر " في تأليف السيرة الذاتية ؟ .

    صحيح أن " السرد " أداة مخالفة لعنصر " الوصف " ، و خطاب يعتمد الحكي و القص الأدبي، لكن حدوده مفتوحة على الشعر ، بقدر ما هي مفتوحة على النثر، مما يدل على أن العملية السردية هي قاسم مشترك بين جميع الفنون الأدبية ، فليس كل الشعر وصفا حتى يتعارض مع السرد ؛ بل إن فيه من أثر هذه الأداة الحكائية و القصصية ما لا سبيل إلى تجاهله أو إنكاره، وليس كذلك كل النثر سردا حتى يتعارض مع الوصف ، ثم ليس كل الشعر العربي سردا حتى يتجرد من الوصف، فلا الشعر ولا النثر بإمكانهما الاستغناء أو التجرد عن أداتي: السرد و الوصف ، و الشعر لا ينطوي فقط على التخييل، والمبالغة، و الصدق الفني ، و إنما فيه من صدق الحديث، وحرارة العاطفة و الوجدان فيضا خالصا من كل زيف أو كذب، قد لا نعثر عليه في بعض الكتابات النثرية .

    لا شيء ، حسبما نرى ، يمنع السرد من الاقتران بالشعر ، إذ لا يحق لنا أن نحكم على عنصر السرد بأحادية انتمائه إلى النثر ، و لا أن نزعم و ندعي انعدام العلاقة التي تجمعه بالشعر عموما ، أو بالقصص الشعري الذاتي بوجه خاص ، فما قانون " السرد " إلا كل ما هو محكوم بمنطق الحكي و القص الأدبي، ثم إنه من العسير علينا أن نبرهن أو نجزم بصفاء السير الذاتية النثرية و براءتها من التخييل، والتمويه، والمبالغة، والكذب، لأن من يكتب سيرته الذاتية غير معصوم من الانحراف و الميل إلى مثل هذه العوارض و العثرات، سواء عن قصد أم عن غير قصد ، فقد يلجأ إلى مخيلته ليصل بين أجزاء و تفاصيل ذكرى معينة خلت و عفا عليها الزمن ، ثم إن الحياة الإنسانية هي أصلا مزيج من الحلم و الحقيقة، والواقع و الخيال .

    إننا نعثر في الشعر الجاهلي مثلا على حس ذاتي عميق ، انطوت عليه معلقات عدد من الشعراء، ويكفي أن نقرأ معلقة طرفة بن العبد المتوفى عام 70 قبل الهجرة / 550 للميلاد ، أو معلقة امرئ القيس المتوفى عام 80 قبل الهجرة / 565 للميلاد ، أو معلقة عنترة بن شداد المتوفى عام 22 قبل الهجرة / 600 للميلاد ن لنقف بجلاء على تجارب ذاتية في الحياة صاغها أصحابها شعرا، ولقد أتاح الشعر لهؤلاء الشعراء إنشاء سيرهم الذاتية تبعا للتقليد الأدبي السائد في عصرهم ، فهم بالفعل قد خلفوا للأجيال التي جاءت من بعدهم تواريخ فردية خاصة تعكس تفردهم بمقومات شخصية، وتجارب، وأذواق، ومواقف، وقناعات، وانشغالات .

    ثم إن بإمكان الشاعر أن لا يسكب تجاربه الذاتية أو قصة حياته في فضاء تخييلي مغرق في المبالغة وإسراف القول، على الرغم من كونه يدرك جيدا بأنه في مقام شعر ، يسمح له بنسج ما شاء من الصور الشعرية المنحوتة بالخيال ، و هذا يعني أن الأنا الشاعرة بإمكانها أن تلتزم مبدأي :"الصدق " و " الحقيقة " ، و عنصر الواقعية في سرد تاريخ حياتها شعرا، ونحن من هذا المنطلق نتساءل مع نبيل سليمان قائلين : هل بالإمكان التحدث عن شعر سردي، أو عن سردية شعرية، خاصة عندما يتم تشخيص معالم سردية في قصيدة معينة.

    إن هذه الملاحظة تزكي ما تناولناه بالحديث سلفا ، في مسألة أدب السيرة الذاتية الشعرية ، عندما أقررنا إمكانية توظيف الشعر في تأليف السيرة الذاتية، ومن نماذج السيرة الذاتية الشعرية في الأدب العربي الإسلامي القديم ، نذكر التائية الكبرى لصاحبها شرف الدين بن الفارض ( 576 - 632 هـ / 1181 - 1235 م )، و هي قصيدة سماها : (نظم السلوك ) ، قص فيها تجربته الروحية ، و ما لقيه من شدائد و معاناة في هذه التجربة، و لا شك أن الكم القليل من السير الذاتية الشعرية في تراث الأدب العربي الإسلامي، قد يعود من جهة إلى قوة الجموح الشعري، أو إلى الصعوبة التي تكمن في صياغة السيرة الذاتية شعرا من جهة ثانية، لأن على من يختار هذه الصياغة الأدبية أن يبذل جهدا مضاعفا لسرد تاريخه الخاص، بالمقارنة مع ما تتطلبه الصياغة النثرية في تأليف هذا التاريخ، مما دفع بكثير من الشعراء إلى كتابة سيرهم الذاتية نثرا، لكن هذا لايعني في شيء أن الشعر غير مؤهل لاحتضان السيرة الذاتية .

    وإذا كانت ميزة النثر كامنة في طاقته الاستيعابية لأدق تفاصيل التجارب الإنسانية، وفي بعض الحرية والسرد المتسلسل ، الذي يطمئن إليه مؤلف السيرة الذاتية ، فإن الشعر بدوره يستطيع أن يعكس التاريخ الخاص ، وقد سبق له قديما أن أدى وظيفة السيرة الذاتية ، و للباحث أن يلاحظ ما قد انطوى عليه الشعر العربي القديم من ملامح كثيرة لأدب السيرة الذاتية قبل أن يصير هذا الأدب لونا مستقلا من التعبير .
    فهل سنكون محقين وعلى صواب إن بادرنا إلى إعادة تعريف أدب السيرة الذاتية بقولنا : السيرة الذاتية جنس أدبي سردي، استرجاعي نثري أو شعري، يتولى الكاتب من خلاله تدوين تاريخه الخاص ؟

    د. أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة طارق شفيق حقي ; 22/02/2006 الساعة 10:14 PM
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 السيرة الذاتية والترجمة الذاتية 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    السيرة الذاتية والترجمة الذاتية

    نرى في البداية أن نعرض جملة من الأسئلة والتساؤلات التي نصادفها في متن النصوص النقدية التي عالجت جنس السيرة الذاتية، والتي تتخذ مسألة تعريف هذا الجنس الأدبي محورا لها، وهي كالآتي:
    هل صحيح أن محاولة إعطاء تعريف واضح لجنس السيرة الذاتية مآلها الفشل؟ وهل صحيح أن السيرة الذاتية جنـس أدبي محير؟ وأن ما يظهر على أنه تقـدم في النفاذ إلى جوهر هذا الجنس الأدبي، بقصد وضع حدود تعريفية له ما هـو إلا تجريد وإبهام؟ وأن الإشكالية الرئيسة الخاصة بالسيرة الذاتية منحصرة في تعريف هذا الجنس من الكتابة ؟
    ثم أمن الصواب أن ننطلق من موقف القارئ و منظوره حتى نضع تعريفا للسيرة الذاتية؟ أم أن الوصول إلى تعريف شامل للسيرة الذاتية يعد من قبيل المستحيل؟
    هل السيرة الذاتية غير مرشحة لحمل سمات الجنس الأدبي المستقل، وأن تعريفها جزء من تعريف جنس الرواية، باعتبار أن القارئ يتلقاها كعمل أدبي متخيل؟ أم أن جوهر جنس السيرة الذاتية كامن في المؤلف صاحب التاريخ الفردي الخاص، وفي القارئ المتلقي لهذا التاريخ ؟
    لقد انتهى فيليب لوجون (Philippe Lejeune)في دراسته جنس السيرة الذاتية إلى أنه لم يكن يسعى منذ البداية سوى إلى عقلنة و توضيح معايير قراءته، على الرغم من التعريف الذي خص به هذا الجنس الأدبي في مرحلتين ، أنفهم من هذه الخلاصة أن كل محاولة جادة لتعريف أدب السيرة الذاتية مآلها الفشل حتما ؟ وأن تعريف هذا اللون من الأدب رهين بموقف قارئه ، بحكم أن ليس هناك تعريف واحد يجمع عليه القراء، سواء كانوا متلقين عاديين أم نقادا متخصصين ؛ بل ثمة تعريفات عددها بعدد قراء السيرة الذاتية، وأنه إن كان لا بد من الوصول إلى تعريف دقيق لها، فيجب أن يكون نابعا من تاريخ مواثيق القراءة ، التي يتعاقد عليها كتاب السيرة الذاتية مع قراء هذا اللون من التعبير الأدبي .
    أما جورج ماي (Georges may ) فيرى أن العائق الذي يمنع إجماع الدارسين على تعريف محدد لأدب السيرة الذاتية كامن في كون هذا اللون من التعبير حديث الوجود، ودرجة حداثته لا تمكنه من اكتساب صفة "الجنس الأدبي"، لأنه ليس على درجة من العراقة كباقي الأجناس الأدبية، وأن الأوان لم يحن بعد لتعريفه، ما دام في مرحلة التكون ، ونحن إن كنا نتفق إلى حد معين مع فيليب لوجون (Philippe Lejeune)، في ما ذهب إليه من طرح حول تعريف السيرة الذاتية ، باعتبار أنه رهين بما ينعقد من مواثيق للكتابة والتلقي بين أصحاب السير الذاتية و قراء هذا اللون من الأدب، فإننا ننظر بكثير من الحذر إلى ما جاء به جورج ماي من طرح حول نفس المسألة، إذ هل بالفعل أن أدب السيرة الذاتية حديث العهد؟ وأن مكمن الصعوبة في وضع تعريف له متمثل في هذه الحداثة؟
    ثم إننا نتفق مع عبد القادر الشاوي، لكـن ليس من باب الافتراض؛ بل من باب القنـاعة الراسخة، خاصة و أن الإشكالية الأساسية لأدب السيرة الذاتية منطوية في تعريفه من خلال النصوص الممثلة له ؛ فهل نحن حقا أمام مشروع بحث لا غنى لباحثي ودارسي جنس السيرة الذاتية عنه؟
    إننا نرى على وجه اليقين أن دراسة مختلف السير الذاتية بعمق نظري و منهجي كفيلة بوضع تعريف عام لهذا الجنس من الكتابة الأدبية، ومن باب اليقين كذلك لا من باب الافتراض نستطيع أن نخلص إلى تعريف السيرة الذاتية العربية و الإسلامية إن نحن اعتمدنا في دراسة ما يمثلها من نصوص عمقا نظريا و منهجيا سليما، فهل السيرة الذاتية جنس أدبي يروي الإنسان من خلاله ذكرياته الشخصية ، متحدثا عن حياته أكثر مما يتحدث، بالقدر الضروري لفهم جملة من الأحداث، عن حياة غيره من الناس ؟ ، أم أنها حياة إنسان يكتبها بنفسه ؟، ثم هل بلغ تحديد ماهية السيرة الذاتية هذه الدرجة من الصعوبة، حتى صار تعريف هذا اللون من الأدب من قبيل المستحيل؟
    هل السيرة الذاتية حكي استرجاعي نثري ، يتولى إنجازه شخص واقعي، مركزا على وجوده الخاص وحياته الفردية؟ أم هي كل نص مكتوب، سواء أكان عملا أدبيا أم دراسة فلسفية، يعبر من خلاله الكاتب عن حياته الفردية ؟ أم أن السيرة الذاتية عملية إعادة بناء أدبية لحياة إنسان، يتولى نفسه القيام بها، أم إنها المسار الحيوي الذي عاشه الفرد الكاتب في سياق تسلسلي من التنوع الوجودي و الحياتي المختزن؟
    ثم هل يمكن أن نعتبر أدب السيرة الذاتية الفن الأول للذاكرة، تكشف من خلاله الذات حياتها مسترجعة ماضيها على نحو مباشر وبشكل صريح؟ وأنه سيرة يكتبها الإنسان عن نفسه، ساردا أصداء ما انطوت عليه مختلف أدوار حياته الفردية؟
    أم أنه مؤلف، مختلف من حيث المادة و المنهج عن المذكرات واليوميات، يروي الكاتب في ثناياه حياته بقلمه، أم أنه أدب يضم رأي صاحبه في الحياة وأبرز الأحداث التي عاشها، ويرسم الكاتب، الذي يمثل محور هذا الأدب، في تضاعيفه صورة البيئة الأولى و تحولاته من طور حياتي إلى آخر؟
    وهل تمثل السيرة الذاتية ذلك الأدب الذي ينحصر في تجارب صاحبه، ولا يضاف إليه أي تجربة أو حادثة من الخارج قد تحجب عنا حقائق الذات الكاتبة؟ أم أن هذا اللون من الأدب هو عبارة عن كتابة الإنسان تاريخه الذاتي الشامل و المستوعب لأيام طفولته، و شبابه، و كهولته ؟ وهو حديث ذكي عن النفس و ليس حديثا ساذجا عنها، ولا هو عملية تدوين لمآثرها و مفاخرها ؟ أم أن هذا الأدب تعبير عن أهم تجليات الحياة الفردية لمنشئه، ونتاج لا ينسلخ باطنه عن ظاهره ؟، ووعاء لأصدق حياة ذاتية يستطيع أن يكتبها الإنسان؟
    ثم هل يمثل أدب السيرة الذاتية فن الحديث عـن الذات بحسناتها وسيئاتها، وتفاعلها مع البيئة والوسط الاجتماع؟ وهل يصح النظر إلى هذا الأدب على أنه محكي ذاتي معاش، تتولى الشخصية المعنية به إنجازه عن ذاتها دون وسيط؟ وعلى انه يعتمد في أساسه الفني على الانتقاء والترتيب لإعادة بناء أدبية خاصة بالذات الفردية لصاحب السيرة، مع مراعاة نمو و تطور هذه الذات؟ أم أن السيرة الذاتية تجسيد لما يكتبه الإنسان من تاريخ حياته من خلال تسجيل حوادثها ووقائعها المؤثرة في مسار الحياة، مع تتبع تطورها الطبيعي من الطفولة، مرورا بطور الشباب، ثم انتهاء بمرحلة الكهولة؟ ثم هل السيرة الذاتية شكل أدبي للتاريخ؟
    وهل هذا اللون من الأدب يندرج ضمن الفنون الأدبية الأكثر حرصا على النقل الأمين لحقيقة الإنسان، وعلى تحري الصدق في ما يعكسه من حياته الفردية الخاصة ؟ أم أنه تركيب أدبي مستحدث للذات، وعملية بناء جديدة لشخصية تتجاوز صاحبها؟
    ثم هل من المنهجية العلمية أن نتفادى أي حديث بشأن شكل معين أو أسلوب محدد وحيد ينفرد به جنس السيرة الذاتية ؟ ثم هل السيرة الذاتية هي الأوراق الشخصية والسرية لمؤلفها؟ وأن هذه السمة هي التي مكنتها من تحقيق التميز بين مختلف أجناس الأدب ؟أم أنها تسجيل استعادي صادق ومقصود لعمر من الخبرات، والأفعال، والتفاعلات، وتأثيراتها الفورية والبعيدة المدى على الشخص؟ ثم هل صحيح أن المنطلق الأساس في دراسة أدب السيرة الذاتية ، يتمثل في البحث عن المنظور الذي يتم به استرجاع الوقائع، وتتبين في ضوئه الأحداث الغنية بدلالاتها، ومن خلاله تتعين مواطن الصمت ذات الصلة الوثيقة بما هو مسكوت عنه من الخطاب المقموع، وتتميز فضاءات الحديث بالمباح من الخطاب.
    هذه جملة من الأسئلة و التساؤلات التي تجري في فلك جنس السيرة الذاتية، والتي تحمل في طياتها الكثير من الإجابات والعديد من صفات وملامح هذا الجنس الأدبي بوجه عام، ومما لا شك فيه أن ما ينجز من الأبحاث والدراسات النقدية حول جنس السيرة الذاتية سيؤدي حتما إلى إعادة النظر في ما يحكم هذا الجنس الأدبي من قوانين، بقدر ما سيرتقي به، خاصة و قد غدا جنس السيرة الذاتية ساحة للنقاش النظري الأدبي حول موضوعات لا يخلو أحدها من أهمية.
    لقد سقط عدد من الباحثين و نقاد أدب السيرة الذاتية في خطأ كبير عندما جعلوا "السيرة الذاتية " اصطلاحا مرادفا و مطابقا لمصطلح "الترجمة الذاتية"، ولم يميزوا بين الاصطلاحين، وهذا خلط اصطلاحي واضح لم يعرفه العرب المسلمون قديما، ونحن نتساءل باستغراب عما إذا كان العرب المسلمين القدماء حقا لا يميزون بين لفظ "السيرة " ولفظ "الترجمة" وأنهم كانوا يوظفون كلا اللفظين بمعنى واحد ، هو: (حياة الشخص بصفة عامة) ؟! ؛ إن هذا الاعتقاد الذي لا يقوم على أساس سليم ثغرة في منظومة المفاهيم الخاصة بجنس السيرة الذاتية لا سبيل إلى تجاهلها ، لهذا نرى من الضروري في البداية التذكير بما أورده ابن منظور في معجمه الكبــير (لسان العرب) بخصوص لفظ " السيرة " ولفظ " الترجمة " أما "السيرة " فهي السنة، والطريقة، والهيئة، وأحاديث الأوائل، وهي الميرة، وفي التنزيل العزيز قول الله عز وجل: "سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ "، أي هيئتها الأولى.
    وأما "الترجمة" فهي نقل الكلام من لغة إلى لغة، ثم إن لفظ "الترجمة" دخيل على اللغة العربية، وهو أصلا من اللغة الآرامية، ولم يكن لفظ "الترجمة" من بين الاصطلاحات الأدبية القديمة، المرتبطة بتاريخ الحياة الفردية، إلا في بداية القرن السابع الهجري، وذلك مع أبي عبد الله ياقوت الحموي ( 574 - 626 للهجرة )، في مؤلفه : (معجم الأدباء)، والذي وظفه بمعنى مختصر حياة الفرد وكان أبو الفرج الأصفهاني المتوفى عام 356 للهجرة قد استعمل لفظ "الخبر" بصيغتي الإفراد و الجمع .
    إن المعاجم العربية القديمة لم تتخذ لفظ " الترجمة " مرادفا للفظ " السيرة "، في حين عمدت المعاجم الحديثة، بما فيها المعاصرة، إلى توظيفهما مترادفين وبنفس المعنى، أما القول بأن الذي فصل قديما بين مفهوميهما وحمولتهما الاصطلاحية هو مجرد توظيف اعتباطي حسبما يرى ماهر حسن فهمي، ومحمد عبد الغني حسن، على سبيل المثال، فهو استنتاج نرده على أصحابه ، لأن التمييز بين الاصطلاحين لم يأت دون مراعاة الحمولة الدلالية لكل مصطلح على حدة، أو دون قصد و غاية ؛ بل إن ثمة فوارق بينة و محددة بين لفظي " الترجمة " و" السيرة "، تتجاوز منطق الاستعمال الاعتباطي أو ما جرت عليه العادة، وهي فوارق تم إغفالها من قبل معظم الباحثين ونقاد أدب السيرة الذاتية .
    وإذا كانت هذه المسألة الاصطلاحية في الوقت الراهن قد تبدو لأول وهلة قضية جزئية متجاوزة، فإننا نعتقد، على العكس من ذلك تماما ، بأنها مسألة تستدعي إعادة النظر و المراجعة ، و الظاهر أن العرب المسلمين القدماء قد حسموا في هذا الأمر ، و ذلك عندما استقر رأيهم على ضرورة التمييز بين مفهوم " السيرة " و ما تعنيه " الترجمة " ، أو بالأحرى بين لفظي : "السيرة " و" الترجمة " ، سواء كانا للذات أم للغير ، مع أن المتقدمين من أهل الأدب والنقد العربي الإسلامي ، لم يكونوا يلحقون صفة " الذاتية " أو " الموضوعية " بهذين الاصطلاحين.
    صحيح أن لفظ " الترجمة " لم يعرف بمعنى أو بمفهوم ( المختصر من حياة الفرد ) إلا عند المؤلفين المتأخرين، لكنه لم يكن يدل عند القدماء من الأدباء و النقاد العرب المسلمين على "السيرة الذاتية "، أو " السيرة الموضوعية/ الغيرية "، وإنما قصدوا به " الترجمة الذاتية "، وعنوا به من جهة ثانية " الترجمة الموضوعية / الغيرية "، وذلك باعتبار من يقوم بعملية الترجمة بطبيعة الحال.
    وحتى نبرهن بقسط من الملاحظة و الاستنتاج على ما نعتقده في شأن تمايز و تباين لفظي: " السيرة " و"الترجمة" لغة و اصطلاحا ، نقول : إن انتقال دلالة لفظ " الترجمة " مجازا من أصل معناها ، الذي ارتبط قديما بعالم التأليف و الآثار الأدبية وغيرها، إلى معنى التعريف بالأعلام ، مع احتفاظ اللفظ الدال طبعا بمدلولاته الأصلية ، هو التحول الذي يفيدنا في تمييز حد "الترجمة " عن حد " السيرة "، باعتبار أن مدار الحد الأول (حد الترجمة) هو الاختصار أو الإيجاز، بخلاف مدار الحد الثاني (حد السيرة ) وهو الإسهاب.
    لقد كانت ترجمة الكتاب تعني: التعريف به من خلال عنوان، أو فقرات قصيرة، أو من خلال فاتحة خاصة بالكتاب، وقد جعل المؤلفون القدماء، على سبيل المثال، لفظ " الترجمة " مصطلحا دالا على معنى العنوان إبتداء من القرن الثالث الهجري.
    ولا شك أن القصد من وضع لفظ " الترجمة " اصطلاحا هو الدلالة على : التقديم، والتعريف، والشرح، والتفسير، وإيضاح المبهم، والتعيين، والتسمية، والإفصاح كذلك، وجميع هذه المعاني و المدلولات نصادفها في تراث الأدب العربي الإسلامي ضمن سياقات مختلفة، ثم إن ترجمة الكتاب و ترجمة الكاتب تعني : التعريف بهما، وتقديمهما إلى جمهور القراء دون إطالة أو إسهاب، أو ترك أي معلومة مبهمة و غامضة تشوب هوية الأثر الأدبي أو الشخص ، و من ثم فإن لفظ " الترجمة " قد تمت استعارته من عالم الكتب و المصنفات، حتى يدل كذلك على التعريف بالأحياء و المتوفين من أعلام الأدب ، والتاريخ، والطب، والفكر، والفلسفة، وغيرهم .
    ومن مقاصد اصطلاح " الترجمة " ، سواء كانت ذاتية أم موضوعية، التاريخ المقتضب للأعلام، وبالإضافة إلى عناية المترجم بذكر اسم، وكنية، ولقب، ونسب الذي يترجم له، نجده يعتني كذلك بذكر عقيدته ، ويثبت تاريخ ومكان ولادته، ثم يذكر من أخذ عنهم العلم، ويسرد أهم مراحل حياته، ثم ينتهي إلى ضبط تاريخ وفاته إن كان من المتوفين .
    فهذا ابن أبي أصيبعة في ترجمته لعدد غير قليل من قدماء الأطباء في مؤلفه:(عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، ينهج الخطوات التالية :

    أولا : يذكر اسم المترجم له و نسبه.
    ثانيا : يوجز الحديث عن المجال الذي نبغ فيه.
    ثالثا : يسرد الأسماء التي أخذ عنها المترجم له صناعة الطب، والأماكن التي تلقن فيها هذه الصناعة .
    رابعا : يسرد مزايا المترجم له و صفاته.
    خامسا : يعرض أسماء الذين عاصرهم من ذوي السلطان، والمكانة، والصيت الذائع.
    سادسا : يثبت تاريخ و مكان وفاته.
    سابعا : يذكر بعض أقواله المأثورة.
    ثامنا : يعرض جملة من الآثار التي خلفها المترجم له.

    ونهج ياقوت الحموي مسلكا في ترجمته لقدماء النحويين والأدباء العرب لا يختلف كثيرا عما التزم به ابن أبي أصيبعة من خطوات في تراجمه، بحيث آثر كل من ابن أبي أصيبعة، وياقوت الحموي مبدأ الاختصار والإيجاز في ترجمتهما لكثير من الأعلام، وكان قصدهما من وراء التزام هذا المبدأ، هو أن تجمع كل ترجمة موضوعية بين صغر الحجم وكبر النفع، مما يدل على أن الإيجاز و صغر الحجم هو السمة والقاعدة في كتابة تراجم الأعلام؛ بل هو شرط ملازم في الغالب للترجمة ، ذاتية كانت أم موضوعية ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن كل ترجمة لا بد أن تنطوي على نفع وفائدة كبيرة، وهذا شرط ثاني لا يقل أهمية عن الشرط الأول.
    فجميع هذه الملامح و المعالم تساعد بدون شك على الاقتراب أكثر من مفهوم " الترجمة الموضوعية "، بقدر ما تفيد ضمنا في إيضاح المقصود بالترجمة الذاتية، ونحن لا نتفق مع من يرى بأن من الممكن أن تشغل السيرة الذاتية صفحات معدودة !!، أو أنها قد تكون أشبه بشهادة ميلاد صاحبها !!، فهذه ليست صفة "السيرة الذاتية " على الإطلاق، وإنما هي صفة " الترجمة الذاتية " ، ذلك لأن السيرة ، سواء أكانت ذاتية أم موضوعية ، فإنها من غير الممكن تماما أن تأتي في صفحات معدودة، بحكم أن الإسهاب في السرد يعد من خصائصها الأصلية، بحيث إن وضع الترجمة الذاتية بالنسبة إلى السيرة الذاتية شبيه بوضع الأقصوصة أو القصة بالنسبة إلى الرواية .
    ومما يثير الاستغراب أكثر لدى القارئ الباحث - خاصة لدى ذلك المتلقي الذي قد يلتبس عليه المقصود بلفظي: " الترجمة " و" السيرة " - تلك المصادفة التي تحدث بينه و بين توظيف المصطلحين في غير محلهما، أثناء قراءته بعض الأبحاث أو الدراسات، أو المقالات النقدية حول أدب السيرة الذاتية.
    وكان من الأجدر لتلافي هذا اللبس وسد هذه الثغرة الاصطلاحية، أن تحكم بدلا من ذلك التوظيف الاعتباطي قاعدة دلالية واضحة، وأما الأمثلة الشاهدة على سوء توظيف المصطلحين فكثيرة جدا، بدءا من عناوين الأبحاث، والدراسات، والمؤلفات، والمقالات النقدية، وانتهاء بالمتون الواصفة لأدب السيرة الذاتية ، وجميع تلك التوظيفات يخلط فيها أصحابها بين " الترجمة الذاتية " و" السيرة الذاتية "، وشتان بين ما تعنيه الأولى وما يراد بالثانية .
    وجميع النماذج التي نستطيع أن نعثر عليها دون عناء في العديد من الكتابات تكشف بجلاء عن مظاهر الخلل على مستوى الاصطلاح، وعن مدى الخلط الحاصل في الذهنية الأدبية والنقدية العربية، وإذا كان أكثر الباحثين الدارسين في مجال أدب السيرة الذاتية قد نظروا إلى مسألة الخلط بين لفظي: " السيرة " و" الترجمة " وكأنها قضية مسلم بها، ووقفوا منها موقف الحياد السلبي، فإننا نجد من النقاد من آثروا توظيف لفظ " السيرة " عند تحدثهم عن تاريخ الفرد المسهب، واستعملوا لفظ " الترجمة " عند تناولهم بالحديث التاريخ الموجز للفرد، كما نلمس عند بعضهم قدرا من الحذر في تعاملهم مع الاصطلاحين معا ، و عيا منهم بأن ثمة تمايزا بينا و فرقا جليا بينهما .
    لا يوجد إذن أي مبرر لدمج الاصطلاحين معا في معنى واحد ، وقد حان الوقت لنضع كل مصطلح في سياقه الطبيعي والمناسب، وليتخذا وضعهما الأصلي في الحقلين : الأدبي و النقدي العربي الإسلامي، لأن الترادف المزعوم بينهما، كما ذكرنا، في الدلالة الاصطلاحية لا يستند إلى دعامة صلبة أو ركن شديد، ومن ثم فنحن لا نتفق مع من يرى بأن التمييز بين اصطلاحي: " السيرة " و"الترجمة " ما هو إلا تفريق سطحي، سرعان ما يتلاشى عند تعريضه لأدنى تمحيص.
    ثم لأن ثمة شواهد ومعالم تبرز ضرورته، ثم إن " الترجمة الذاتية " أدب نثري له من الشروط، والخصائص، والأغراض ما يميزه عن " السيرة الذاتية "، وكلا اللونين ينتميان إلى الأدب الذاتي أو الخاص، ويكتبان من طرف المعني بهما، كذلك " الترجمة الموضوعية " ليست هي "السيرة الموضوعية "، إذ لكل منهما شروط و مبادئ خاصة، على الرغم من كونهما ينتسبان إلى الأدب الموضوعي أو الغيري، ويؤلفان من قبل شخص آخر غير معني بهما.
    أما "الترجمة الذاتية "، فستظل على الدوام غير مؤهلة إطلاقا لتقوم بدلا عن "السيرة الذاتية" أو لتشغل مكانها، ذلك لأن كاتب السيرة الذاتية ملزم بأن يعكس للقراء وجه حياته الشخصية بتفاصيلها ودقائقها، قدر الإمكان طبعا، على مرآة التعبير الأدبي، مع العلم بأن السيرة الذاتية تهدف إلى الاشتمال على جزء من حياة صاحبها، إذ يتعذر عليها أن تحيط بسائر ما مضى من حياته الشخصية، ومؤلفها مطالب بالاقتراب أكثر من ذاته بالوصف، والتفسير، والتحليل، والتعليق، والنقد أيضا، وجميع هذه الأفعال الخطابية يجب أن يمارسها بإسهاب وليس باقتضاب، وإن كان من غير الهين على الإطلاق أن يتخذ الكاتب من ذاته وذاكرته موضوعا للسرد.
    كانت هذه إطلالة سريعة على ما تعنيه الترجمة الذاتية وما تدل عليه السيرة الذاتية، ونأمل أن نكون قد أسهمنا بهذه المقالة في دعوة الباحثين والمهتمين بأدب السيرة الذاتية إلى إيضاح قدر الإمكان ما يمكن إيضاحه في هذا الباب.

    د. أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 28/02/2006 الساعة 05:33 PM
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي

    (الجزء الأول)
    عندما تصير الذات ثمرة عصرها، و حكاية في حد ذاتها، و عندما تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي و نزوعها الموضوعي؛ إنها بؤرة آثار عميقة، و ساحة كشف واكتشاف لمجاهل الإنسان، و في شعابها انطوت هويتها و خفاياها.

    إنها وجود قلق مضطرب، لا يدرك نفسه في يسر أو بكيفية مطلقة ، ولا يحيط بذاته تمام الإحاطة، تتجاذبه قوى العقل، و النفس ، والروح، بين مد الشعور و الوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور تارة أخرى، ومع ذلك فقد سخر للذات الإنسانية الفهم والإدراك ، بقصد أن تسعى إلى الإلمام بحقيقتها المادية و الروحية، ثم إن الأنا تشرع في تمثل نفسها، والاستفهام حول ماهيتها و معنى حياتها بقوة الوعي الكامن فيها ، فنراها تستنجد بالماضي المختزن في ذاكرتها، فهي مسكونة بموروثات وحياة نابضة بصور الزمان والمكان، وبحرارة اللقاء الإنساني، وبالتربية والثقافة المكتسبة، وبالمبادئ والقيم المختلفة، وكذلك بالمعتقد الديني.

    فما من شك في كون معرفة الذات البشرية هي نتيجة استفهام عن ماهية الإنسان، و منطلقه، و مآله، خاصة وأن هذا الكائن العاقل يجد ذاته على امتداد أطوار حياته في تغير مستمر، ثم إنه من المؤكد أن كاتب السيرة الذاتية عندما يستشعر دنو أجله ، يطرح على نفسه سؤالا دقيقا هو : هل عشت بالفعل حياتي بالكيفية التي أردتها أم لا ؟ .

    فإذا رأينا الذات تتفحص حاضرها، فذلك لأنه حصيلة ماضيها بكل الذي زخر به من تجارب حياتية، ولأن الحاضر واقع لا بد لها منه، لتظفر بحس مستقبلي، ورغبة في المضي إلى الأمام ، فما احتفال الأنا بذاتيتها في النهاية إلا تمثل لهذا الحس التاريخي، أو تلك القوة الخفية التي تحمل الإنسان على الشعور بأنه عين الشخص ، الذي كان له حضور في الماضي القريب و البعيد، على الرغم من الأحداث المتضاربة ، والتغييرات المتلاحقة التي توالت على ذاته الباطنية ، ثم إن الذات التي كانت طفلا ، فصبيا ، ففتى ، ثم عاشت ربيع عمرها ، فغدت بعد ذلك رجلا ، و كهلا ، ثم انتهت في مسيرة حياتها إلى خريف العمر مرتقبة ذروة الشيخوخة ، هي واحدة في جميع هذه الأطوار ، لكن هل السيرة الذاتية هي كتابة الفرد لحياته بناء على تسلسل زمني منطقي ؟ أم أنها كتابة لذاته الفردية، بحكم أن هذه الذات مفككة لا تخضع لأي تسلسل زمني؟

    لا شك أن الإنسان ، كان و سيظل ، عالما انطوى فيه كثير من الأسرار، وشبكة من العناصر، التي تجمعها علاقات جد معقدة ، تنشأ وتتطور في بيئة و حقبة زمنية ذات معالم وخصائص معينة، والأنا منذ وجدت و هي تطمح إلى اكتساب قيم إنسانية ، تميل إليها إما عن هوى ونزوة، أو تنتقيها عن قناعة خاصة، أو تستقطبها تبعا لعقيدة معلومة، في حين تبذل كل ما في وسعها لطرد قيم أخرى، لم تعد ترغب فيها .

    إن الكائن الاجتماعي يحلم دائما برؤية عالم يعثر فيه على الاستقرار والسعادة، ويشعر في أكنافه بوجود منسجم مع جميع الموجودات حوله، ثم يطمئن إلى طور من حياته دون باقي الأطوار، فيحياه باستمرار في ذاكرته؛ إنه يصارع قوى معينة من أجل غاية محددة، ويعاني سلبا أو إيجابا في سبيل ما ينشده بقناعة وإيمان، وعن هدى أو ضلال، بحكم انه كائن فاعل في حدود، وعاقل مدرك في حدود كذلك .

    فهذا الإنسان كثيرا ما يشقى بأفعاله و ممارساته، و اختياراته و توجهاته، و قليلا ما يسعد بأعماله في الحياة الدنيا، وقد يزداد أحيانا قوة و إرادة ، عندما يتحول لديه الألم و المكابدة إلى ابتلاء في طيه النعمة، و في قلبه بذرة التغيير نحو الاستقامة والصلاح، بحكم أن الذات المسلمة الجادة في نهج طريق الاستقامة لا تشقى بما تجده من معاناة، وما ينزل بها من ابتلاءات؛ بل إنها تعمل على تحويل هذه المعاناة والإبتلاءات إلى قوة فاعلة مؤثرة، وجهد إبداعي متميز، إذ من المؤكد أن التجارب الحياتية، الفردية والجماعية، فاعلة في الذات المبدعة، بقدر ما أن هذه الذات منفعلة بها، فضلا عن كونها تستمد شحناتها الإبداعية من كل تجربة تعيشها.

    إن ذروة الإحساس بالذات ، تنكشف بكل أبعادها الإنسانية في الحقب التاريخية التي تشهد انتقالات من أوضاع معينة إلى أخرى ، أو تعرف اضطرابات و هزات اجتماعية ، أو سياسية، أو فكرية و غيرها ، إذ في هذه الظروف الزمانية وأمثالها تجد الذات البشرية نفسها في حاجة ملحة إلى التوفيق بين نفسها و الأحداث الجارية في محيطها، ثم إن الذات الإنسانية تطمح إلى التعرف على هويتها وجوهرها، و تجتهد في استقراء باطنها ؛ لكن هل صحيح أن ثمة إقبالا على كتابة التاريخ الخاص، و أن أدب السيرة الذاتية صار إحدى السمات التي تسم العصر الحديث؟
    إننا في ظل ما يحفل به تاريخ الأدب العربي والإسلامي الحديث من آثار أدبية تشهد على نزوع ملحوظ إلى كتابة السيرة الذاتية ، و باعتبار المنحى الذي سار فيه التأليف الأدبي في الشرق والغرب عموما، نستطيع أن نرجح صحة الامتياز الذي اكتسبه أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث، ثم إن هذه سمة لها دلالتها الخاصة على ما ساد العصر من حياة اجتماعية، و فكرية، وروحية وغيرها، مما سيساعد المهتم بالبحث في أدب السيرة الذاتية الحديثة على معرفة خط سير هذا اللون من التعبير، وما يكمن وراءه من بواعث، ثم الغاية من إنتاجه، لكن هل صحيح أن المفكرين والعلماء هم الأكثر احتفالا بذواتهم والأكثر ميلا إلى إعمال النظر فيها من الشعراء والأدباء؟
    كثيرا ما يعرض نقاد الأدب ودارسوه لمحوري: الفردية أو الذاتية، والجماعية أو الموضوعية، لكنهم قليلا ما يتحرون حقيقة ومدى تلك الذاتية الفردية، وهذه الموضوعية الجماعية؛ بل إن معظمهم ينسون ما للذاتية والموضوعية من قيمة، حتى إن الرهبة تأخذهم من البعد الذاتي في الأدب عموما، فهم ينظرون إلى الذاتية على أنها نقيضة للواقعية؛ بل إن الأمر بلغ ببعضهم إلى توظيفها في موضع الذم.

    أما الرأي الراجح عندنا، فهو انعدام وجود فردية ذاتية أو جماعية موضوعية بحتة، بمعنى أن كل ذات فردية تنطوي على ذات جماعية، وكل ذات جماعية تتضمن ذاتا فردية، مع العلم بأن الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العملية الإبداعية، لا يعني تهميش السمة الفردية للإبداع الأدبي، إذ أن لكل أديب ذاتية خاصة به، تتفاعل سلبا أو إيجابا مع واقعه الاجتماعي، ثم إن الذاتين : الفردية والجماعية تخضعان معا لحكم النسبية، نظرا لارتباط إحداهما بالثانية، فالأنا الفردية ذاتية في حدود عالمها الداخلي، لكنها تتراجع عندما تصطدم بالعالم الخارجي ، وذلك حتى تفسح المجال للذات الجماعية، التي بدورها ينحسر مدها على عتبة الأنا الفردية، باعتبار أن توازن الفرد في حال اضطرابه يمكن تحقيقه في قلب هذا الكيان الأكثر قربا من الذات الإنسانية.

    ومن المؤكد أن الذات تعتبر الركن الأساس في شخصية الإنسان، إذ أنها ليست سوى ذلك الشعور والوعي بكيان الفرد المتنامي باستمرار، على قدر النضج والتعلم، والاكتساب، وللذات الفردية مفهوم يمكن اختزاله في ذلك التكوين المعرفي المنظم، والموحد، والمكتسب في آن واحد لمجموع المدركات الشعورية والتصورات الخاصة بالذات، وانطلاقا من هذا المبدأ، سيظل مفهوم الذات الفردية و الجماعية مقيدا غير مطلق، باعتبار أن إمكانية العثور على ذات مجردة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تعد من قبيل الأوهام الشائعة لا اقل و لا أكثر، وهذا لا يعني في شيء أن الأثر الأدبي هو نتيجة لواقع الأوضاع الثقافية والاجتماعية ، دون اعتبار ما للذات المبدعة من إسهام وفعل، وما لها من تكوين ذهني و نفسي.

    وإذا كانت الذات الفردية تشغل العالم الداخلي و تنشط فيه ، بينما تتمثل الذات الجماعية أكثر في العالم الخارجي، فهذا لا يعني في شيء كذلك وجود انفصال أو قطيعة بين الفرد والجماعة الإنسانية ؛ بل على العكس ثمة تفاعل و لقاء مستمر ، و تأثيرات متبادلة بين الذاتين و العالمين، وثمة أيضا تجارب إنسانية مشتركة كثيرة، ولاشك أن العلاقة بين الداخل و الخارج وثيقة في أدب السيرة الذاتية ، الذي يتجاوز ما تعيشه الأنا من عزلة ووحدة .

    إن ما قمنا بإثارته في هذا المحور ، ينطبق بتمامه على الذاكرة الإسلامية، فضلا عن الذات المسلمة، ما دام أن ذاكرة الفرد جزء من الذاكرة الجماعية، كما أن الذات الفردية بعض لا يتجزأ من الذات الجماعية، ويبدو أن هذه الحقيقة ماثلة في السيرة الذاتية الإسـلامية الحديثة، العربية والأجنبية على حد سواء، وإن كان للذات و الذاكرة العربية الإسلامية ملامح وخصوصيات معـينة، مثل ما للذاكرة و الذات الأجنبية المسلمة، بشقيها: الفردي والجماعي، ملامـح وخصوصيات محددة، ثم إن الفرد قد ينوب عن الآخرين من بني عصره وبيئته في كتابة سيرهم الموضوعية، انطلاقا من قراءة ذاته، ومن خلال تجاربه الفردية والمشتركة، ما دام أن القاسم المشترك بين أفراد الجماعة البشرية، يتحول إلى تعبير موضوعي بين طيات السيرة الفردية، ومن ثم تصير الذات الواحدة موضوعا في سياق السيرة الجماعية أو التاريخ الموضوعي .

    من هنا نخلص، إذا صح هذا الافتراض، إلى أن تجربة الذات المسلمة تختزل تجربة الجماعة الإنسانية المسلمة في الحياة، خاصة و أننا لا نعثر في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على تلك النزعة الفردية ، التي يتخذ أصحابها من أدب السيرة الذاتية نصبا تذكاريا لها ، و هي نزعة غير مسؤولة أو ملتزمة، ثم إننا على النقيض نصادف في مجموع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تلك " الأنا " المسؤولة ، والغاية الموحدة، التي لا سلطان للعبث، والأهواء، واللذة العابرة عليها، هذا بالإضافة إلى كون الذات الفردية المسلمة تتشكل انطلاقا من المفهوم الجماعي، الذي يختزن الانتماء العقدي ، و الحضاري .

    إن لكاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رؤية يتكامل من خلالها البعدان : الفردي والجماعي، إذ أن شعور الأنا الفردي يتطلب وجود الآخر، وتتحول فيها المعاناة إلى باعث قوي على التعبير، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى بواطن الأمور و جوهر التجارب، فكل إنتاج الكاتب هو عبارة عن محاولات متكررة بقصد العثور على حقيقة الحياة وعمقها، وإن كانت ذاتية من يكتب سيرته لا تتمثل في اختلاف تجربته الحياتية عن تجارب غيره من أهل عصره، فإنها تمتاز عن ذوات الآخرين بكونها تنطوي على إحساس ووعي عميقين ، وإدراك دقيق للبعد الجماعي الكامن في التجربة الذاتية .

    د.أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي

    (الجزء الثاني)
    الظاهر أن الإنسان من خلال سرد تاريخه الخاص، يكتشف أناه الثانية، أي الذات الجماعية، التي قد يتوهم الفرد أحيانا عدم وجودها، بينما هي قابعة في الظل، لكنها نامية بموازاة مع الأنا الفردية، حتى إذا انخرط الكاتب في تأليف سيرته الذاتية ، تلمس بوضوح انحسار ظل حسه الفردي الأحادي، واستشعر ذلك الزحف الخفي لكل ما له سمة جماعية مقرونا بذاته، ثم إن من يكتب سيرته الذاتية ، بحكم انتمائه إلى جماعة إنسانية، مرتبطة بقيم معينة تشكل وعيها، يجد نفسه مطالبا باتخاذ ذاته جسرا للعبور إلى الذات الجماعية وإلى ما هو كوني، ومؤكد أن ثمة عبورا نوعيا بالبداهة بين الذاتين: الفردية والجماعية من جهة، وبين ما هو ذاتي وما هو جماعي ، بحكم أن الشخصية الفردية لكاتب السيرة الذاتية، ما هي إلا صورة مصغرة من شخصية الجماعة الإنسانية الكبرى .

    ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية عندما يصير في أوج فرديته ، يكون قد تجاوز الحدود الضيقة لتجاربه الخاصة، فنراه يتجاوز الخاص إلى العام، ويستعين بالحس الموضوعي ليتمثل ذاته، مما يدل على أن خطاب السيرة الذاتية ليس مغلقا أو معزولا عن عالم وفضاءات التواصل الإنساني ؛ بل هو خطاب منفتح على الحياة الجماعية، إذ يجسد على مستوى البعد الوظيفي ذلك الانتقال من طور الاهتمام بالأنا و العزلة الذاتية إلى مرحلة التواصل مع الآخر و الانفتاح على الجماعة .

    إن الفرد عندما يفكر في كتابة تاريخه الخاص، يعي جيدا أن المقاصد الذاتية الضيقة هي أول ما سيتم تجاوزه في إنتاجه الأدبي، وأن كثيرين سيشاركونه تعبيره عن تجاربه الفردية، ومن هذا المنطلق يحاول الكاتب أن يعرض قصة حياته أو بعضا من تجاربه على جمهور القراء، رغبة منه في أن يكون ذاتا مقروءة، يجد فيها كل قارئ ملامح من نفسه، وبعضا من تاريخه، ولا شك أن أدب السيرة الذاتية يجلي (الأنا)، وينبه المتلقي إلى حضوره وتفرده، ثم إن الكتابة عن الذات تقتضي حدا أدنى من تقدير صاحب السيرة الذاتية لنفسه ، وبدون هذا الحد من التقدير الذاتي تتعذر الكتابة عن الذات، ومن ثم لا بد للذي يختار الكتابة في دائرة هذا اللون من التعبير أن تكون لديه قناعة تامة بما تمثله حياته من معنى، وما يشتمل عليه تاريخه الخاص من قيمة معرفية.

    ومن المؤكد أن أي الأفعال التي يبادر إليها الإنسان في هذا الوجود، ومنها فعل الكتابة عن الذات، هو محاولة لتحطيم القيود التي تمنعه من اكتشاف جديد أو اكتساب معرفة، باعتبار أن الإنسان سجين، وبالأفعال يسعى إلى الخلاص من سجنه، المتمثل في جهله الأشياء، ولا سبيل إلى تجاهل حقيقة يمكن اختزالها في كون حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها، إذ أن وعي الإنسان قاصر، إذا ما تمت مقارنته بما تنطوي عليه حياته من خفايا وأسرار، ومن ثم فان وعي الفرد بكونه إنسانا، كفيل بأن يستشعر نقصه، وعجزه، وقصوره في هذا الوجود
    ومما لا يقبل الجدل كون الغوص العميق الذي يحرص كثير من الكتاب على تحقيقه في ذواتهم ، ما هو في واقع الحال إلا غوص في الذات الإنسانية، التي تجسد الكائن الكامن في أعماق كل فرد، والمتصف بالطباع المشتركة الذي يتقاسمها الأحياء من بني البشر، ومن ثم فان كاتب السيرة الذاتية يتحول بامتياز إلى كائن نشيط وفاعل يلتقي في عالمه الباطن الإحساسان : الذاتي والجماعي ويتفاعلان ، إلى درجة التماهي الضمني بين "الأنا" و"الجماعة ".
    إن كاتب السيرة الذاتية بمجرد ما ينتهي من كتابة تاريخه الفردي ، يكون قد تغلب على عزلته ، وفك قيود أنانيته، ومد جسرا بينه وبين الآخرين، وفي هذه الإشارة دليل على أن سيرة الكاتب ليست حكرا و وقفا عليه وحده؛ بل إنها ملك وحق مشاع بين الناس، مع أن الاستقراء الأول لهذه المسالة، قد يوحي بكون ما يبسطه الكاتب من حياته الباطنية أمام القراء، هي ملك له دون غيره، وليست حقا جماعيا، وهذا غير صحيح، خاصة وأن محاولة تحديد ما هو فردي وتمييزه عما هو جماعي في الحياة البشرية أمر صعب.

    ومما يثير الانتباه أن ضمير "الأنا" المتمثل في الشخصية الفردية، والذي يعتقد البعض في دلالته على التوحد، والاستقلالية، والتميز عن غيره داخل الجماعة الإنسانية، ما هو إلا دال يحيل على الآخرين الحاضرين باستمرار في وجود الذات الفردية، التي هي في أمس الحاجة إلى الآخر، الذي يمكنها من رؤية نفسها، واستقراء جوهرها، باعتباره وسيطا واصفا بين الذات ونفسها، وإن كانت كل ذات فردية لها صفات وهوية تسمها بطابع خاص، مما يرسخ في ذهن صاحب السيرة الذاتية ذلك الاعتقاد في كونه شخص مغاير لباقي الأشخاص على وجه الأرض .

    وإذا كان الإنسان يقضي حياته باحثا عن ذاته، وطامحا إلى تحقيقها في هذا الوجود، مجتهدا في العثور عليها والاهتداء إلى حقيقتها، خاصة وان حياته تتجسد في العمق والجوهر في عملية تكوين ذاتية ، فان السبيل الذي سيسلكه لبلوغ غايته يلزمه باكتشاف غيره من بني جنسه، ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية له تجارب فردية عميقة، تعكس حياته الخاصة وتميزه عن باقي الأفراد، وهذه الخاصية في حد ذاتها تشكل باعثا له على إشراك الآخرين في اكتشافها، لأنه يعتقد في كونها تنطوي على إضافة مثيرة للفضول العلمي، وإضاءة لجوانب إنسانية خفية .

    إن حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها ، إذ أن وعي الكائن البشري قاصر ، إذا ما قورن بما تنطوي عليه حياته من خفايا و أسرار ، و هذا ما يفسر تلك الحاجة البالغة التي يفصح عنها كاتب السيرة الذاتية، تصريحا أو تلميحا، إلى وصف ذاته و عرضها ملتحمة مع الآخرين ، منعكسة على مرآتهم، بقصد التعرف على شخصيته، واستقراء أعماقه، وذلك تعبيرا عن فرديته ، و هو أمر غير هين على الإطلاق، ثم إن ثمة جملة من الأسئلة الحاسمة ، التي يطرحها الإنسان حيثما كان ، لكونها مرتبطة بذاته ووجوده فهو يسعى جاهدا إلى العثور على إجابتها ، الكفيلة بتمكينه من الشعور بمعنى حياته ؛ إنها استفهامات تدل على أن ذاتية الإنسان ليست مطلقة ، و إنما هي محكومة بالطابع النسبي، ومن خلال تعدد الشخصية الواحدة ، نستطيع أن نفهم كيف تتحول الذات من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي .

    فهل صحيح أن لكل إنسان شخصيتان أو شخصيات متعددة : الإنسان الذي يعرف نفسه ، والإنسان الذي يعرفه الناس، و الإنسان الذي لا يعرف نفسه و لا يعرفه الناس، والإنسان الذي لا يعرفه إلا خالقه ؟

    يبدو أن الإقرار بصحة ما يشتمل عليه هذا الاستفهام لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله ، لأن من مميزات الكتابة عن الذات أنها تعكس لنا الجهد الذي يبذله صاحب السيرة الذاتية ، عندما يحاول أن يضفي معنى معينا على تاريخه الخاص؛ فهل يعني هذا أن الكتابة عن الذات تجسد الرغبة في كشف صاحب السيرة الذاتية عن هويته والحفاظ عليها في آن واحد؟، وقد شغل كثير من الباحثين ذلك الاستفهام عن إمكانية تسمية الكائن البشري، المتغير باستمرار ، نفس الشخص والذات ؟ علما بأن للزمان مغزى متميزا بالنسبة إلى الإنسان ، لأنه لا ينفصل عن الذات، وعلما كذلك بأن هذا الكائن يعي جيدا بأن نفسه مختلفة متحولة على الدوام ، ثم إن الذات تنقسم على نفسها في أدب السيرة الذاتية، فهي التي تكتب و تؤرخ لنفسها، وحتى يحقق الكاتب هذه الغاية نراه يحاول الابتعاد عن ذاته ليعرفها أكثر، وينأى عنها بقصد الاقتراب منها ، وفي بذل هذا الجهد دليل على أن الإحاطة الشاملة بالنفس البشرية غاية عزيزة المنال.

    ثم ليست الذات الفردية مجرد وعاء لاستقبال وتخزين المنبهات الخارجية والداخلية؛ بل هي قطب فاعل قدر ما هي مركز متفاعل، تسود سيطرته مختلف المنبهات، فضلا عن كونه يسهر على تعديلها، وتنظيمها والجمع فيما بينها، ثم إن من الصعب على من يكتب سيرته الذاتية أن يقر لنفسه بتلك " الأنا " الأحادية ، بحكم ما يحياه من تحول دائب، لأنه يجد نفسه وجها لوجه مع " أناه " وقد اتخذت مظاهر متعددة ، و هي تنحو كل صوب ودلالة ، بحيث يصادف في كل مرة ذاتا معينة ، ومن ثم كان من الأساس العلمي اعتبار ذات الكاتب على مستويات مختلفة لكنها متكاملة في آن واحد، منها النفسي، والديني، و الخلقي، والاجتماعي و غيرها.

    لكن الذي لا يجب إغفاله ، هو أن السيرة الذاتية جنس أدبي ، يقوم على مبدأ التنامي الأحادي للأنا الساردة أو الشخصية الرئيسة، بخلاف ما نجده في جنس الرواية والقصة، من شخصيات متعددة نامية، أما الشخصيات غير النامية، تبعا لمنطق السرد الأدبي، فتعد قاسما مشتركا بين الأجناس الأدبية الثلاثة، لكن بفارق جوهري، هو أن شخوص السيرة الذاتية حقيقية واقعية، بينما شخوص الرواية والقصة متخيلة، ثم إن مبدأ التنامي الأحادي يشمل بكيفية موازية كلا من الذات المسلمة، وذاكرتها الإسلامية، على المستويين : الأفقي الزمني، الذي تتدرج فيه الذات والذاكرة عبر مختلف مراحل العمر والحياة، ثم العمودي النفسي، و الفكري، والروحي، الذي تنمو فيه الشخصية بذاكرة ثقافية عقدية، وسياسية، واجتماعية، باعتبار قطب التوافق بين أبعادها الثلاثة في قلب الخطاب الموجه، فهي شخصية كاتبة، وساردة، ورئيسة.

    ثم إن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، بوجه خاص، ستظل منطوية على الحس الموضوعي الجماعي كيفما صيغت، و مهما تعددت أشكالها ، وليس بإمكان الذات الفردية الانسلاخ والانفصال عن الذات الجماعية، بحكم أن الأدب الإسلامي لم يهتم في أي حقبة تاريخية من وجوده بفكرة الرجل العظيم، ولم يجار الأدبين : اليوناني و الروماني في هذا النوع من الاهتمام، في حين احتفل بالأمة المسلمة المشبعة بروح الإسلام.
    إن الذات المسلمة ترى في العلم خلاصها وخلاص مجتمعها وأمتها، فبالعلم وحده يستطيع الإنسان المسلم أن يشخص الداء الذي يعانيه أفراد أمته ويصف الدواء، والعلم وحده يعتقد بقوة انه سيخرج أناه الجماعية من دوامة الجهل والشقاء، خاصة و انه يشعر بكون ذاته الفردية هي طرف مسؤول عن إنقاذ المجتمع المسلم .
    وفي هذه الحال، يتحتم على الإنسان المسلم أن يتجاوز نوازعه وأحلامه الفردية، ويكرس كل جهوده لخدمة الذات الجماعية المسلمة، بحيث لم يعد له أي أفق انتظار في حدود ذاته؛ بل صار مضطرا إلى تحقيق كل غاية لصالح الجماعة، فهي أفق انتظاره الجديد، والبديل الذي سيسخر له كل أفعاله الإصلاحية من اجل التغيير نحو الأفضل، ولا شك أن التاريخ، والعقيدة الإسلامية، والموروثات الثقافية والاجتماعية، تشكل قوة فاعلة في الذات المسلمة وعاملا محفزا لها على نهج سنة معينة في الحياة، خاصة إذا كان لتلك الحصيلة المأخوذة عن السلف وزن حضاري، وخصائص ومعالم مؤثرة، مما يجعل عامل الشعور بثقل المسؤولية يزداد حدة، ومن ثم تصير الذات صدى لارتدادات قوية، تنشط على إثرها انفعالات وهواجس مختلفة، يظل يغذيها القلق، والشك، والإحساس بالذنب في حال التقصير أو الزيغ عن سيرة الأسلاف، وهذا من شانه أن يلقي بالإنسان في دوامة من المعاناة النفسية .

    لقد أصبحت الذات المسلمة لا تجد سبيلا إلى الانسلاخ عن ذاكرتها الجماعية ، لأنها مرتبطة بإرث قوي مشبع بالمعاناة والتوتر؛ إنه بالفعل ألم مفترس يلاحق الإنسان العربي المسلم حيثما ولى تفكيره، فالألم والمعاناة جزء من ذاكرته الجريحة، وعندما يتقد الحس والشعور التاريخي الجماعي داخل الإنسان، فإن الاهتداء إلى عمق الرسالة الإنسانية، ومنارة الخلاص والنجاة يصير أمرا محتوما، وأرادت القوى المعاكسة والمضادة للحياة الإسلامية الأفول والاندثار، إذ سعت منذ زمن بعيد إلى استنـزافها، وطمس معالمها وجوهر قوتها، لكن الأجيال المسلمة ، التي تناقلت رسالة الحياة الإسلامية ، حالت دون ما قد يلحق هذه الحياة الخالدة من تهميش، لأن الإسلام قوة و حياة إنسانية قائمة بالذات الجماعية المسلمة .

    إن مدار اهتمام الذات المسلمة هو العثور على هويتها، أو التمكن من معرفة الأصول والجذور الحضارية التي تنتمي إليها، لان هذه المعرفة وحدها هي الغاية التي تساعد الإنسان على تمثل حسه الفردي ووعيه الجماعي، وبدونها لن يستطيع أن يعرف وجهته، أو القيام بأداء رسالته على الوجه المطلوب في حاضره ومستقبله، ومن الواضح أن الذات الإنسانية المسلمة كانت وما زالت في حاجة ملحة إلى قراءة إرثها الحضاري بكل مكوناته، ذلك لأن هذا الإرث هو عبارة عن حلقة حيوية ورئيسة من التاريخ الإسلامي لتبين الوجهة وإيضاح الهوية، ثم إن الذات المسلمة تعيش في محيطها الاجتماعي تحولا دائما، وتنتقل عبر مستويات إدراك مثيرة، فهي دائمة البحث عن فضاءات وعي جديد بنفسها، وهو فعل ذاتي يحثها عليه هاجس المعرفة الطبيعي الكامن في عمقها باستمرار.

    وفي مقام ختم هذا المقال، نأمل أن يكون جماع ما أتينا به في جزءيه، الأول والثاني، مجرد عتبة لوقوف الدارسين والباحثين على بعض ما يزخر به أدب السيرة الذاتية الإسلامية من ثمار معرفية، وجواهر إنسانية ...

    د.أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

    من بين المعايير المعتمدة في تحديد مقومات أي جنس أدبي، ثم ضبط هويته و موقعه بين باقي الأجناس الأدبية، هناك: مستوى الصياغة التي تهتم بتشكيل الخطاب، وطبيعة المضامين التي تتقيد بالدلالة المقصودة، بالإضافة إلى كيفية تقديمها، ونوعية التركيب الذي يسم أسلوب الكتابة، ويهدف به الكاتب إلى تبليغ ورسم أبعاد خطابه، ثم الوظائف الخطابية التي تدل على آثار الخطاب وتكشف عن آفاقه.

    فجميع هذه المعايير وغيرها تقتسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وتجعل منه في النهاية شبكة من الموضوعات الأساسية والفرعية ، تقوم بالحفاظ على توازنه الإبداعي، بحكم أن كل موضوعة تمثل مركز ثقل خطابي، وقطبا يختزل شحنات دلالية، تنتظم بدورها نسيج العلاقات الداخلية للخطاب، وسنحاول في هذا المقال أن نكشف بإيجاز شديد مظاهر خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وأن نبحث في مكوناته الكبرى، وفي طبيعة حمولته المتنوعة، اقتناعا منا بأن الخطاب الأدبي ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو مظاهر ومكونات أكثر تشعبا، وكائن ينطوي على خفايا و أسرار، ويتشرب عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته .

    ثم إن الحديث بالدرس والتحليل عن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يعني كذلك البحث في بواعثه ودرجة الصدق التي ينطوي عليها، ونحن نطمح في هذا الفصل من الأطروحة إلى أن نحيط أكثر بهذه المحاور، وإلى أن نوسعها نقدا و توضيحا، على أن نتخذ هذه الخطوة ـ التي تقتضيها الضرورة المنهجية ـ تمهيدا مفصلا في مدارات، قبل الانتقال إلى معالجة ميثاق قراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وبواعث تلقي هذا الضرب من الأدب الإسلامي.

    ونحن عندما نتناول بالفحص متن هذا الفرع الأدبي الإسلامي الحديث، لا نجد أنفسنا أمام مادة أدبية يستعصي فهمها وتأويلها، أو إزاء خطاب أدبي يتعذر علينا الوصول إلى معرفة تامة به، ذلك لأننا لسنا بصدد خطاب أدبي تخييلي، تتداخل وتتلاحم فيه العناصر الواقعية بالعناصر الخيالية، وإنما نحن نطرق باب خطاب لا يقترح عوالم تخييلية، سواء من داخله أم من خارجه، وبالتالي يعرض تجارب ذاتية إنسانية واقعية.

    ثم إننا نرى أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يتمتع بحياة متعددة، بحكم ارتباطه بالأزمنة الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، مما يؤهله ليكون إشارة مفتوحة على كثير من المعاني والدلالات، على الرغم من التباين المبدئي القائم بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية التخييلية.

    فلا سبيل إذن إلى إسقاط طبيعة الخطاب الأدبي التخييلي على الطبيعة الخاصة بخطاب السيرة الذاتية المعتمدة على التجربة الواقعية، ثم لا يحق لنا أن نبرر عملية الإسقاط باحتمال اتفاق الهدف، وبكون باب التأثير المتبادل بينهما سيظل مفتوحا، و ناء على ما تقدم ذكره، نجد أنفسنا لا نشاطر رأي جورج ماي (GEORGES MAY) في هذه المسألة، إذ عوض أن يفضي به البحث إلى رسم حدود صارمة، تفصل ما بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها، نراه يؤكد على عدم وجود أي حد فاصل بين أدب السيرة الذاتية و أدب الرواية.

    ويكفي أن ندفع هذا الرأي بالتنبيه إلى ما يتفرد به خطاب السيرة الذاتية من قراءات متميزة ، سواء كانت عادية أم نقدية أم إبداعية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي سيتعامل بها القارئ مع هذا النص أو الخطاب الأدبي، وهي بداهة ليست نفس الكيفية التي سيتعامل بها نفس القارئ مع نص قصصي، أو نص روائي، أو نص شعري على سبيل المثال .

    ثم إن من الخصائص الجوهرية للسيرة الذاتية كون صاحبها عاجز عن بلوغ الغاية المتمثلة في "الموت"، وقول الكلمة الأخيرة في حياته، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية هو رحلة تبدأ من حاضر الكتابة وتنتهي إليه، وهي الرحلة التي تتم في حركة دائرية ببعديها الزماني والمكاني، لكن هل صحيح أن خطاب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتجاوز أحادية رجع الصوت الواحد؟ وأنه يفتقر إلى إمكانات الرواية الإبداعية ؟!

    ونحن لا نتفق مع من يرى هذا الاعتقاد، لأن ما نصادقه للوهلة الأولى من رجع الصوت الواحد في خطاب السيرة الذاتية، ليس في الواقع وجوهر الأمر إلا مرآة تتراءى على صفحتها عدة أصوات، ومدخل إلى عالم يحفل بتعدد أصوات قراءة أدب السيرة الذاتية.

    إن قراءة خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يجب أن تتم بحس واقعي، بخلاف باقي الخطابات الروائية وغيرها، مما ينتمي إلى الأجناس الأدبية التخييلية، التي ستقرأ بحس تخييلي، لكن هذا لا يعني أن هذه الخطابات لا علاقة لها بالواقع، أو أنها ذات مضامين جوفاء؛ بل إنها في الحقيقة عبارة عن منافذ تفضي في أغلبها بالمتلقي إلى الحياة الواقعية بأدق تفاصيلها.

    فما أدب السيرة الذاتية إلا جزء من الظاهرة الإبداعية على المستوى العام، وهذا شأن كل الخطابات الأدبية التي تحكي التجارب الواقعية، وكل من يلقي نظرة متأملة على مختلف الاتجاهات الأدبية في مختلف المراحل التاريخية، يعثر على ذلك التجاوب القائم بينها وبين جميع مناحي الحياة الاجتماعية الواقعية، وهي اتجاهات تعكس نبض المجتمعات وما يسودها من مفاهيم وقيم.

    ثم إن غزارة وغنى المضامين والقضايا، وكثافة الموضوعات والأحداث التي نصادفها بوجه خاص في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، هي من بين المعطيات التي نادرا ما نعثر عليها في الأدب العالمي الحديث، شعره ونثره، ومن ثم ستبقى هذه المعالم من أبرز سمات الخطاب الأدبي الإسلامي، الأكثر تميزا واغترابا في هذا العصر، على الرغم من أنه عمل على ملء فراغ كبير، وحرص على تقريب المسافة بين الذات الإنسانية ـ العربية والأعجمية ـ والإسلام.

    وقد استطاع الخطاب الأدبي الإسلامي أن يجلي كثيرا من الحقائق التاريخية، التي أفرزها مجرى التحولات والاضطرابات في العالم العربي الإسلامي الحديث، حتى إنه يمتلك من خلال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من الخصب والتنوع، ما قد لا تمتلكه السيرة الذاتية، وهي الجنس الأدبي المنفتح على المضامين الأكثر تشعبا .

    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة نتيجة نهائية لتراكيب ومناهج معينة؛ إنه من جملة الخطابات الأدبية الإسلامية المرتبطة أصلا بذات مسلمة فاعلة، وذاكرة إسلامية حافظة، ثم إن هذا الخطاب الأدبي الإسلامي ينفرد بخاصية جوهرية، وهي أن الذات المنتجة له ليست أحادية، وإنما هي ثنائية: عربية وأجنبية، كما أنه خطاب ذو قواسم مشتركة يكمل بعضها بعضا، على الرغم من اختلاف المعطيات البيئية، والثقافية، والاجتماعية و غيرها بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الأجنبية.

    ثم إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، دورا كبيرا وفعالية لا تقل أهمية عن باقي خطابات الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بكثير من الإنتاجات الأدبية الغربية، التي لا صلة لها بواقع الحضارة الإسلامية، وأخلاق المسلمين، وثقافتهم، وعقيدتهم .

    ونحن موقنون بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة سيظل أحد أبرز مظاهر الأدب الإسلامي المتميزة في العصر الحديث، وأداة خطابية مؤهلة لتحقيق تواصل أدبي فاعل ومثمر، فضلا عن اعتباره مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ومعينا لا ينضب من المواد التاريخية، والاجتماعية، والنفسية الموحية، ومن العناصر الفنية التي تبعث على الإبداع الأدبي، إذ باستطاعة كل أشكال التجارب الذاتية، والمعاناة، والأفكار، والرؤى، والمواقف، والمشاهد المسترجعة، وكذلك الفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا فنيا وحدسا جماليا رفيعا.
    د. أبو شامة المغربي
    الرباط ..المملكة المغربية
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 07:16 PM سبب آخر: ضبط وضع العنوان
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 بواعث كتابة أدب السيرة الذاتية الإسلامية قديما 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    بواعث كتابة أدب السيرة الذاتية الإسلامية قديما

    لقد ترك لنا العرب المسلمون القدماء سيرا ذاتية كثيرة، حفزتهم عوامل أو بواعث ذاتية وموضوعية مختلفة ومتشعبة، فضلا عن كونها تضيق بحصرها عدا، وقد ذكر غير واحد من الباحثين و النقاد بعضا منها ومن خصائصها ، التي تميزها عن غيرها ولم يختلفوا في شانها، ونحن في سياق هذا المحور سنحاول الكشف عن المزيد من البواعث والخصائص التي ارتبطت بالسير الذاتية الإسلامية قديما، مع التذكير بما سبق و كشفت عنه الأبحاث والدراسات السابقة من بواعث وخصائص.
    من الممكن أن نصنف مختلف بواعث كتابة السيرة الذاتية الإسلامية القديمة إلى ثلاثة أنماط هي:
    أولا: البواعث الإخبارية، أو البواعث التاريخية، أو الصنف الإخباري البحت، وهي مجموع البواعث التي تنحو بأصحاب السير الذاتية إلى تحقيق منفعة خارجة، و تدفع بهم إلى تسجيل تجاربهم، و أخبارهم، وذكرياتهم، بالإضافة إلى ما عاينوه من مشاهد، وعاشوه من مواقف دون النفاذ إلى عمقها، و هي بالتالي عبارة عن حوافز على التأليف، تلزم الكاتب بفعل الأخبار فقط، ونقل معلومات معينة، أو تدوين وقائع تاريخية.
    ومن الأعمال القديمة التي تندرج في دائرة هذا النمط الإخباري التاريخي، نذكر ما خلفه كل من ابن سينا، وعبد اللطيف البغدادي، وعلي بن رضوان المصري من حديث حول ذواتهم، ومثل هذا الضرب من الكتابة كثير في المعجم الذي ألفه ياقوت الحموي، وخص به الأدباء والنحويين.
    ثانيا: البواعث النفسية و الروحية، وهي ملتقى الأبعاد الإنسانية الثلاثة، ونقصد بها: النفس، والروح، والفكر، وقد نختزل هذا اللون من البواعث في ظاهرة النزوع إلى تصوير الصراع الروحي، من خلال الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة، وتصوير الحياة المثالية والفكرية.

    ومن النماذج التراثية التي تنطبق عليها مواصفات هذا النوع من البواعث، نذكر: "السيرة الفلسفية" التي كتبها محمد زكريا الرازي، وأراد من خلالها التعبير عن اتخاذه موقفا ذاتيا من الحياة، ونذكر كذلك رسالة لابن الهيثم، المتوفى سنة 430 هجرية، في تصوير حياته الفكرية.

    ثم إننا نستحضر في ذات السياق كتاب"الاعتبار" لصاحبه أسامة بن منقذ، المتوفى سنة 574 هجرية، و الذي سخره لاسترجاع الذكريات، ولتمكين قرائه من أخذ العبرة، كما نخص بالذكر أيضا كتابي: "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، لصاحبه علي بن حزم، المتوفى عام 454 هجرية، وقد روى فيه ما عاناه في شبابه من تأثير الحب والعشق وما خلفاه في نفسه من آثار، وأراد من خلال ذاته أن يحيط عن طريق التجربة، والملاحظة، والاستقراء بظاهر وباطن العاطفة التي تنشأ بين الجنسين من بني الإنسان.

    ولابن حزم مؤلف آخر يحمل عنوان "الأخلاق والسير في مداواة النفوس"، ومن الأعمال القديمة التي ضمنها أصحابها التعبير عن الثورة، والصراع الروحي، ومناجاة النفس، نستحضر ما تركه أبو حيان التوحيدي محفوظا في رسالته "الصداقة والصديق"، التي عبر فيها عن ثورته ومعاناته مع الفقر والاغتراب بين الناس، ونذكر أيضا ما خلفه أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هجرية، وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 من الهجرة ، وأبو بكر الخوارزمي المتوفى سنة 232 في بعض رسائلهم.

    ودائما في سياق النمط الثاني من بواعث الكتابة، نذكر مؤلف " الفتوحات المكية" لمحي الدين ابن عربي المتوفى سنة 638 من الهجرية، الذي يعتبر إلى جانب رسالته في مناصحة النفس نموذجا للحديث الدقيق والعميق مع النفس، ونستحضر كذلك كتاب "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة و الجلال" لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 من الهجرية، وفيه اجتهد المؤلف في عرض و تحليل صراعه الروحي، ومحاسبته لنفسه عما اقترفته من آثام، وما بذله من جهد وسلكه من سبيل لتطهيرها والسمو بها، ويعد هذا الأثر من بين السير الذاتية التي كان القصد من تأليفها ـ نزولا عند طلب الغير، كما رأينا مع ابن حزم الأندلسي ـ أن تكون تجربة، ووثيقة روحية وفكرية تعرض على جمهور القراء لينظروا فيها طلبا للاهتداء إلى مجاهل النفس، والاستفادة من تجارب الغير.

    ثم نذكر شمس الدين محمد بن طولون ، الذي تحدث عن نفسه في رسالة مستقلة ، سماها " الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون "، ويظهر أن إحساسه بكون حياته قد أشرفت على النهاية، كان باعثا له في الأصل على كتابة رسالته، وثمة ضرب آخر من السير الذاتية ينتسب إلى النمط الثاني من بواعث الكتابة، ونعني به السير الذاتية التي يهدف أصحابها إلى ذكر الأسباب التي جعلتهم يعتنقون الإسلام، ويتركون ما كانوا عليه من دين في السابق من حياتهم، وممن كتبوا في هذا الباب نذكر السموأل بن يحيى المغربي ، المتوفى عام 570 من الهجرة، الذي ألف كتابا سماه: "بذل المجهود في إفحام اليهود "، بسط في فصل منه تجربته الروحية تحت عنوان: " إسلام السموأل بن يحيى المغربي و قصة رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم"، والأشواط التي قطعها وهو في طريقه إلى اعتناق الإسلام، ويعد من العلماء القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية.

    ونصادف من الآثار الأدبية القديمة ما قصد به مؤلفوه الغاية التعليمية، وإسداء النصح، والتذكير، والتوصية بالحق و بالصبر، أو سعوا به إلى تصوير الحياة المثالية ، والتحدث بنعمة الله عز وجل، مثل كتاب: "لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" لصاحبه عبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة 973 من الهجرة و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" لعبد الرحمان بن الجوزي ، المتوفى سنة 597 من الهجرة، ونستحضر كذلك مؤلف عبد الله بن بلقين ، المسمى " التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة "، والذي كتبه تأريخا للأحداث، ودفعا للتهم، و تفسيرا للسلوك، وتبريرا للمواقف، ثم تحقيقا للتبعة على الوجه الصحيح، وذلك بعد أن فرضت عليه الإقامة الإجبارية في "أغمات" بالمغرب.

    ثم نذكر كتابي الشاعر عمارة اليمني، وهما: "النكت العصرية"، و"سيرة المؤيد داعي الدعاة"، وفيهما تحدث عن نفسه، ثم إن جميع من أقدموا على كتابة تواريخهم الخاصة، بناء على نفس المبدأ و الباعث، وعملا بمقتضى الآية القرآنية الكريمة في سورة الضحى، لم يكونوا راغبين في الإشادة بأنفسهم أو مدحها، و إنما أرادوا بتأليفهم أن يذكروا فضل الله تعالى عليهم، و أن يتحدثوا من خلالهم بنعمه، فنظروا إلى الكتابة في هذا الباب على أنها من جهاد النفس، وأحد أسباب ومناهج العبادة التي تقرب إلى الله عز وجل.
    لقد اتخذوا حديثهم عن أنفسهم لسانا يفصحون به عن جزيل الشكر لخالقهم، وعن منتهى الاعتراف له بالفضل و الجميل ، فلم يتخذ كل واحد من هؤلاء سيرته الذاتية رياء و مباهاة ؛ بل أراد لها أن تكون حمدا لله الذي من عليه بالنعم التي لا تعد و لا تحصى.
    ثالثا : البواعث الاجتماعية: وهي بواعث تبريرية، أو تفسيرية، أو تعليلية، أو اعتذارية، تستمد قوتها من الوسط الاجتماعي، أو بالأحرى من تأثير الجماعة الإنسانية، التي تترقب دفاع المتهم عن نفسه، وتبرير مواقفه، أو تفسير أعماله و أقواله ، أو تعليل آرائه المعلنة.
    وقد كتب حنين بن إسحق ، المتوفى عام 260 من الهجرة، في هذا الباب، متحدثا عن معاناته و مكائد أعدائه، وتعد سيرته نموذجا حيا لمجموع السير الذاتية العربية الإسلامية القديمة، التي هدف بها أصحابها إلى الدفاع عن أنفسهم، نذكر كذلك ما كتبه عبد الرحمان بن خلدون ، المتوفى سنة 808 من الهجرة، عن نفسه في كتاب: (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا و شرقا)، إذ كانت غايته مما كتب مختزلة في الدفاع عن نفسه من خلال التبرير و التفسير، وكثير من السير الذاتية القديمة ألفها أصحابها لهذا الغرض، ولا شك أن باعث الدفاع عن النفس يندرج ضمن أقوى وأبرز بواعث كتابة هذا اللون من الأدب.

    ومن جملة بواعث الكتابة التي نقف عليها في أدب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، ثمة باعث الرد على أعداء الإسلام، ودفع ما يحوم بفعلهم حول العقيدة الإسلامية من شبهات، وأوضح مثال نسوقه في هذا الباب ما كتبه السموأل بن يحيى المغربي، ثم إن بواعث وحوافز تأليف السير الذاتية الإسلامية القديمة كثيرة ومتشعبة، ونادرا ما يكون وراء كتابتها باعث أو حافز واحد فقط.

    أما محاولة تصنيف الأعمال الأدبية العربية الإسلامية، تبعا لتصنيف بواعث الكتابة، وكذا تقسيمها إلى أنماط، فهو عمل واجتهاد نسبي، وحتى إن كان مكن الباحثين والنقاد من الوقوف على أهم البواعث أو الدوافع الرئيسة، فانه لم يحط بعد بأكثر البواعث الفرعية، ثم إن كان ساعدهم على ضبط البواعث الظاهرة، فإنه لم يمكنهم بعد من الإلمام التام بالبواعث الباطنة.
    هذا حظ يسير مما جاد به نشاط الذهن، نسأل الله عز وجل أن يجد فيه كل قارئ بعض الذي كان يترقبه ويستشرفه، وعسى أن يكون ما خطته يمين عبد الله باعثا للباحثين، والدارسين، والمهتمين عموما على إلقاء ولو نظرات معدودة على أدب السيرة الذاتية ...

    د.أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 03/03/2006 الساعة 07:09 AM
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الأول) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الأول)


    يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب، ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.

    ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية ، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها و إدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة و أخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.

    ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.

    وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم ، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس، ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية، تلك المواضعات الأدبية و القيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر و مناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها ومعطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.

    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية و الجماعية ، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.

    ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة و متلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي ، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، و هذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.

    فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.

    ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية ، والوصفية، والحوارية من أسرار ، و مواضيع ، و قضايا ، و من بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة و المراهقة ، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية ، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب ـ باعتباره مؤهلا بامتياز ـ في ما فشل فيه هو.

    ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وإن كانت هذه الملاحظة / الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال ـ تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.

    ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.

    إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية ، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة ، لا تخلو من متعة ذهنية ، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، و غيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية، وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة ، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله ، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره ، و إذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر ، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.

    وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية ، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ؟، والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية.
    ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، و مثيرة أحيانا، و ما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور ، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي :
    الأول : فضول فردي صريح ، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.

    الثاني : فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق و المروءة.

    د.أبو شامة المغربي
    الرباط .. المملكة المغربية
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 06:34 PM سبب آخر: ضبط الإخراج ...
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الأول) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة



    (الجزء الأول)
    إن السرد القصصي كان و لا يزال يهيمن على الحس الإبداعي، وحس المتلقي في العالم العربي الإسلامي، وهو النمط السردي الذي غالبا ما تم نسجه، كما هو الشأن اليوم، حول شخصية محورية غائبة، ربما لأن الذات الكاتبة منذ وجدت وهي تنظر إلى الكائن القصصي المتخيل أحيانا ، على أنه ذات مجهولة، وعالم زاخر بالأسرار و الألغاز، وهي بالتالي تنطلق من هذا المعطى على أساس أن الإنسان كائن يسعى بذكائه وحدسه إلى حل رموز عالمه الداخلي وفتح مغالقه؛ إنه الكائن الوحيد الذي يجد نفسه في بحث دائم، واكتشاف متواصل، بين مد السؤال وجزر الإجابة .


    وبالنظر من زاوية أخرى ، بإمكاننا ملاحظة التميز الذي تنفرد به الأساليب السردية العربية والإسلامية القديمة، التي تتخذها الأنا أو الذات الكاتبة مدارا و فضاء لتجليها بشكل مباشر، و هي نمط سردي، اعتمده معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في حقبة تأسيس الأدب الخاص، يندرج في إطار مزدوج يشمل النثرين: المرسل والمسجوع، والذي يوحي لنا أحيانا بالكيفية التي تصاغ بها الحكم و الأمثال ، و الأقوال المأثورة، وهي أنماط تعبيرية تجمع بين الشحنة الدلالية، و المعاني المركزة ، و العبارات الموجزة .


    ولا يخفى أن هذا المنحى في الكتابة الأدبية كان مألوفا ومطروقا بكثافة، حتى إن منتجي هذا الأدب قديما، كانوا يتهافتون عليه و يجتهدون في إجادته و إتقانه، وهو يعد من السمات البارزة في تراث الأدب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى كون الكثير مما ألفه العرب القدماء حول ذواتهم، قد تمت صياغته بكيفية متميزة تثير فضول القارئ، إذ أن كثيرا من العناصر الفنية التي أسهمت حديثا في بناء أدب السيرة الذاتية الإسلامية من الداخل، قد اشتمل عليها هذا الضرب من الأدب، عندما كان يجتاز طور التأسيس ، مما أهله ليسلك منذ طلائعه الأولى منحى قصصيا.


    ثم إن تجاوب جمهور القراء على امتداد التاريخ مع الإنتاج الأدبي المبني على السرد القصصي، ساعد وشجع على رسوخ أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى استمرار وجوده حتى عصرنا هذا، ومما أسهم كذلك في عدم انقراض هذا الفن الأدبي، ارتكاز مستويات حياة الإنسان التواصلية، خاصة منها الاجتماعية والمعرفية ، على عملية السرد المتبادل.

    ومن بين الملاحظات الأولية التي بالإمكان تسجيلها في معرض هذه القراءة، كوننا نادرا ما نصادف سيرة ذاتية عربية إسلامية قديمة، استطاع صاحبها أن ينفذ بالوصف والتحليل إلى باطن ذاته، بقصد الكشف عما فيها من مظاهر الصراع النفسي والروحي، والوقوف على ما يقبع في أعماق النفس من آثار دفينة، وهذا القصور كان سببا في افتقار أعمال كثيرة إلى المادتين : النفسية، والاجتماعية ، فظلت سجينة المظاهر السطحية للحياة الشخصية، أو استعراضا لبعض الجوانب الخارجية .


    ولعل من بين الأسباب في توجه المؤلفين العرب القدماء نحو العالم الخارجي، واهتمامهم بالانشغالات الموضوعية بالدرجة الأولى، ثم بقاء عالمهم الداخلي متواريا ومغمورا أكثر الأحيان، إنهم لم يفطنوا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التعبير المسهب عن بعض الأطوار الحياتية، وخاصة طور الطفولة والنشأة ، وهذه الخاصية تكاد تكون قاسما مشتركا بين السير الذاتية الإسلامية القديمة.


    وأما الذين اهتدوا من الكتاب العرب قديما إلى عملية الاسترجاع ، فنجدهم ينتقون أطوارا معينة من طفولتهم، ويختزلون الحديث عنها في رغبتهم المبكرة في طلب العلم، إذ كان طور الطفولة والصبا بالنسبة إليهم يجسد المرحلة الأولى التي ألهموا فيها الإقبال على العلم ومناهل المعرفة، والتي عملوا خلالها على ترسيخ الاجتهاد في ذواتهم رغبة في العلم، وتمرين نفوسهم على الصبر في سبيل ذلك؛ إنهم يتذكرون الطور الأول من حياتهم دون غيره من مراحل العمر المتقدمة، لكونهم يرجحون آثاره البعيدة في تكوين شخصيتهم، واختيار وجهتهم وسيرتهم في الحياة .


    إن الانصراف المبكر إلى طلب العلم، وإيثار الجد على اللهو والعبث في سن الطفولة، ظل بين العرب القدماء، وأكثرهم من أهل العلم، والأدب، والطب، والفلسفة، والتاريخ، محط استفهام وإثارة، فهم لم ينسبوه إلى استعدادات فطرية، أو مؤهلات ذاتية وشخصية، وإن كان البعض أرجعه إلى التأثر بالوسط العلمي، وإنما عادوا به في الغالب إلى الإلهام والهداية من الله عز وجل .


    ثم لقد كان هذا المنحى الظاهرة، بالنسبة إليهم، تجربة إنسانية مبكرة، لا ينفرد بخوضها والاهتداء إليها إلا القليل من الناس، ذلك لأنها لا تكتسي طابعا إراديا أو اختياريا؛ فهي فضل من الله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، لكن هذه التجربة لا تعدم أسبابا ذاتية وأخرى موضوعية مساعدة، وإذا كان من النادر أن نعثر في السير العربية القديمة على إشارة، سواء من قريب أم من بعيد، إلى أثر الوراثة وفعلها التكويني المتصل أساسا بطبيعة الشخصية، فإننا نجد في بعضها كشفا عن تأثير البيئة في تكوين ذوات أصحابها .


    إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة كانوا يحاولون إقناع القراء ، تصريحا أو تلميحا، بان تجاربهم الفردية في سن الطفولة، تمثل لحظة وعي مبكر في مجرى حياتهم، وأنها كانت مبدأ نهجهم في الحياة، ومنطلق رسالتهم في الوجود، وكذا مستهل يقظتهم المعرفية، فكانوا يرون في طلب العلم مبكرا ، ومقاطعة أسباب اللهو في سن الصبا دليلا على النبوغ المرتقب ، والمكانة العلمية المنتظرة، بحيث كانت الغاية المرجوة عندهم هي الاقتراب من الذروة أو الكمال في مجالات العلم والمعرفة في مفتتح أعمارهم .


    بناء على هذه الرؤية ، اقتنعت الذات المسلمة في الماضي بأن الإقبال منذ سن مبكرة على طرق أبواب العلوم والمعرفة، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وجب التحدث بها، فكان هذا الإدراك حافزا و باعثا كافيا للقدماء، حتى يسردوا علينا تجاربهم الاجتماعية، والفكرية، والروحية من خلال الأشواط التي قطعوها في سبيل تحصيل العلم ومعرفة النهج الحق في الحياة .


    إن مختلف التجارب الفردية التي نصادفها في السير الذاتية الإسلامية القديمة تفصح بجلاء عن مدى عناية السلف بتطور الحياة الشخصية بشقيها: المادي والروحي، وتبين عن مبلغ التمسك بنشرها وإذاعتها بين القراء، وهي تجارب تم ذكرها للاعتبار واكتساب المعرفة أصلا، وذلك بالإطلاع على مضامينها القوية والمؤثرة أحيانا، فجاءت في مجملها ذات طابع تعليمي، ومنسجمة على مستوى توجهها ومراميها مع روح السيرة النبوية.


    ثم إن الذات المسلمة لم تكن تطلب العلم نزوة واحتكارا، أو تنفق مختلف أطوار حياتها بغير رؤية واضحة وقصد معلوم؛ بل كانت تسعى جادة إلى اكتساب معرفة غزيرة وعلوم شتى، طلبا وسعيا منها إلى التزام الحق والإلمام بالحقائق، وفوق كل هذا كانت تحرص على نهج مسالك العلم رغبة في عبادة الله والتقرب إليه.


    فنحن إذا أمعنا النظر قليلا في عدد من السير الذاتية الإسلامية القديمة، سنلاحظ ميلا لدى أصحابها ونزوعا إلى ذكر تفاصيل دقيقة ليست من قبيل الحشو والإسراف في الحديث، وإنما هي تفاصيل مهمة بالفعل، وقد صيغت بكيفية تضمن تواصلا سليما وفاعلا مع القارئ، بقصد إخباره بأمور معينة، وتقريبه من حقيقة المواقف، والأحداث، والحياة اليومية، والتجارب عموما، وإن سبب التمسك بالخطاب التعليمي، الذي يأخذ في معظم الأحيان صبغة وعظية وإرشادية، يكمن في الاعتقاد الراسخ للذات الكاتبة في الإسلام وتعاليمه، وفي الإيمان القوي بالله عز وجل، ثم في الوعي بالأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان، وارتبطت به دون غيره من المخلوقات، باعتباره كائنا عاقلا وخليفة في الأرض .


    ولعل الظاهرة التعليمية، وتصوير الحياة العلمية، التي هيمنت على خطاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية قديما، خير دليل على أنها كانت باعثا مباشرا وغاية في ذات الوقت، تتدرج الذات الكاتبة في ضوئها بسرد سيرتها، ابتداء من عهد الصبا، ومرورا بزمن الفتوة والشباب، ثم انتهاء إلى مرحلة الكهولة وبعدها طور الشيخوخة.


    ثم إن الغاية التعليمية هي التي حدت بالذات المسلمة إلى رصد أحوالها وأفعالها، وسلوكياتها، بقصد ترجمتها في وضوح ودون تعقيد إلى جانب الأشواط التي قطعتها والتجارب التي خاضتها لأجل طلب العلم، وهذا الفعل التاريخي الهادف هو الذي يحيلنا على مدى عناية هذه الذات بمسألة التكوين العقائدي والفكري، فهي ذات تسعى في الغالب إلى الإحاطة بالجانب الاعتباري دون الجانب الوجداني لتكوينها، ثم إن العرب المسلمين القدامى لم يغفلوا في ما كتبوه عن ذواتهم ذكر شيوخهم، وتلاميذهم، ومصنفاتهم، فهم يحرصون على هذا الذكر أشد الحرص، وذلك باعتباره ركنا أساسيا في حياتهم العلمية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.


    د. أبو شامة المغربي
    الرباط .. المملكة المغربية



    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 07:45 PM سبب آخر: ضبط الإخراج ...
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الثاني)
    لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.

    ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.

    إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
    أولا: إفادة طالب العلم .
    ثانيا: الرياضة الفكرية .
    ثالثا : الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.

    ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري ، المندرجة في هذا الباب ، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة ، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب "، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد " .

    ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم ، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم، ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.

    ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
    وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها ، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" .

    إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.

    وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.

    ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، و مستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.

    إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.

    وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.

    إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.

    إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية، ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.

    ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
    أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
    ثانيا : البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
    التأثير والتأثر.
    ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.

    إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.

    لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، و عالمي : الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.

    ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة و إيثار الحق كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه. لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.

    إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.

    ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.

    وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أعلى هذا المنبر الجميل من أفكار وتأملات متواضعة، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟

    د. أبو شامة المغربي
    الرباط ..المملكة المغربية
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 07:33 PM سبب آخر: ضبط الإخراج
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الثاني)
    وبالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية ، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة، وجميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:

    أولا : باعث المقارنة و البحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.

    ثانيا : باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية : تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة ، و هذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.

    ثالثا : باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها .

    ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية ، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة .

    فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟

    في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة ، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم و تواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري : اللغة والدين أربع طوائف:
    أولا: طائفة القراء العرب
    ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
    ثالثا: طائفة القراء الأجانب
    رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين .

    فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين : الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، و من ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة، ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة ، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
    الأولى : يمثلها الكتاب العرب المسلمون
    الثانية : يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون

    ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، و هي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، و بإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور : الأول: محور الإسلام (العقيدة)، الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم)، الثالث : محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل و الحدث) .

    إن أهم بواعث القراءة والتلقي ، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.

    فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان و العقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية ، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.

    والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد و الغايات على إنجاز قراءات خصبة و عميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا، ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا ، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، و مكانية ، وحدثية:

    الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين : العربي و غير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها ، و هو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام و الحرص عليها ، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل ، و في عصر نشط فيه الاضطهاد ، و صار فيه الفراغ الروحي شبه سائد ، و استشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام ، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية .

    الثاني : يتمثل في ظاهرة اعتناق الإسلام ، و التي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ ، و إن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية ، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها و حكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه .

    ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.

    هذه حلقة أدبية نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا اللون من الأدب، وعسانا مستقبلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري والهام ...

    د.أبو شامة المغربي
    الرباط ..المملكة المغربية
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 06:26 PM سبب آخر: ضبط الإخراج
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد : بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,620
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك د أبو شامة مما سرني أن داء الدال لم يصبك كما أصاب غيرك

    ويروق لي أن أناديك أخي الكريم

    قد لامست معمل الفكر والقلب حين يعمل وأنت تفصل القول في البواعث وما هي إلا انعكاس منظم للعمل الأدبي القائم في المذكرات او السيرة الذاتية

    قد كتبت نمطاً لا أعرف ماذا تسميه أنت وأترك لك ذلك : قصة بعنوان مذكرات شيطان مستجد
    على الرابط

    http://www.merbad.org/vb/showthread.php?t=1085


    الفكرة راقت لي نوعاً ما وراقت للبعض وقد طالبني البعض أن اكملها وقد قلت ربما تكون مشروع رواية عربية وهي تعكس ما يمر على الإنسان من خلال تجاربه بالرغم من القناع المتحرك من شخصية لأخرى

    لكني كما كنت أعترض على تقليد الرواية الغربية بمقوماتها وافرازاتها التي تليق بمجتمع غربي ولا تليق بنا


    ثم أقول هناك من أطلق لقب سيرة ذاتية على الرواية ولم يفرق بينهما وفي الواقع الراوي أو الروائي لا يستطيع كتابة رواية إلا بعد كم وتراكم معرفي من خلال التجارب التي يمر بها

    هنا أقول أننا علينا أن نكتب الرواية العربية او السيرة العربية لا الفن المستورد


    لك تحياتي
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

    إن لجنس السيرة الذاتية أنفاسا فنية ، تتردد في كل الأعمال الأدبية: الشعرية والنثرية، فهو جنس يمثل الخفاء الذاتي في عمق الخطاب الأدبي، بينما تعيش "الذات" في أدب السيرة الذاتية أقوى تجلياتها، وذلك من خلال إعلان الكاتب عن نفسه بكشف (أناه) الساردة، وإبرام عقد مصارحة مع القراء، وبناء على هذا الطرح، فإن السيرة الذاتية تمثل النص الغائب في مجموع الكتابات الأدبية، المندرجة في باقي الأجناس الأدبية، أو الخطاب المتواري الذي لم يجسد أصحابه مادته اللغوية بعد .

    وعلى الرغم من غياب هذا التجسيد الأدبي لدى أكثر الكتاب، فإن إنتاجاتهم النثرية والشعرية تحمل منه قليلا أو كثيرا، وهذا واقع بالإمكان أن نهتدي به إلى الإقرار بأن ثمة عملية تناص بين الأعمال الأدبية الحاضرة، سواء كانت قصة، أم رواية، أم قصيدة، أم غيرها والأعمال الأدبية الغائبة ، و على رأسها السيرة الذاتية، ولكي يمسك الكاتب سيرته، نراه يلجأ إلى التأليف في دائرة مختلف الأجناس الأدبية، فيتخذ منها مركبا و جسرا يعبر على متنه إلى حيث يلقى حقيقة وجوده وماهيته في هذه الحياة .

    ولا شك أن السيرة الذاتية من أعقد وأصعب الأجناس الأدبية، بحكم أنها نشاط إبداعي ليس من السهل القيام به، لأن أكبر تحد يواجهه مؤلف السيرة الذاتية ، هو كيفية الإحاطة بذاته كتابة على الرغم من اتصاله الوثيق بها ، ولعل ما يسم مفهوم السيرة الذاتية من اختلاف محكوم بتنوع القراء ـ و منهم أهل الاختصاص ـ وتشعب نظرتهم إلى هذا الجنس الأدبي، لمن أدل مظاهر الصعوبة التي تكتنف الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية.

    إن إمعان الأدباء، و المفكرين، والمؤرخين و غيرهم في الكتابة، ما هو إلا دليل على سعيهم الدائب إلى الإمساك بحقيقة وجوهر ذواتهم ، خاصة إذا ما علمنا أن الباعث على كتابة السيرة الذاتية كثيرا ما تتم تلبيته في عمل أدبي آخر ينفرد بأهمية متميزة لدى الكاتب، وعلى أساس هذا المبدأ، تتحول ذات المبدع إلى أفق انتظار، وملمح يصل بين الحلم والحقيقة ، بحيث أن للكاتب قناعة بكونه سيتمكن يوما من إدراك سر الذات الإنسانية و لغز الحياة، ثم إن المسافة الإبداعية التي يقطعها من يكتب سيرته الذاتية بحثا عن حقيقة ذاته ووجوده، ما هي في واقع الأمر إلا تجربة معرفية، يقدم عليها ليكتسب وعيا بذاته والعالم الذي ينتمي إليه، فهو في ترحال دائم بقصد البحث عن توازنه واستقراره، ولاكتشاف مجاهله، ورفع الحجاب عما خفي من حقيقته البشرية.

    إن جدلية الخفاء والتجلي، التي تسم فضاءات الذات الساردة لتاريخها الفردي، تثير ـ على ما يبدو ـ مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس و تدعو الناقد، والباحث، والمهتم عموما بأدب السيرة الذاتية إلى إعمال النظر في مدى مصداقية هذه المسألة، ذلك لأن القول بالقطيعة في ما بين الأجناس الأدبية لا أساس له من الصحة ، إذا ما تفحصنا جيدا واقع الكتابة الأدبية ـ قديمها وحديثها ـ ونحن نعلم أن القدماء لم ينظروا إلى إنتاجهم الأدبي نظرة تصنيفية، تقوم على مفهوم الجنس الأدبي؛ وإنما نظروا إليه مصنفا إلى نثر وشعر أما مسألة الأجناس الأدبية، التي صارت متداولة حديثا، فهي إجراء منهجي خاص بالدراسات النقدية، يستعين به ناقد الأدب في البحث العلمي المنظم، و هذه الرؤية المزدوجة : التصنيفية والمنهجية لم تكن من قيم الأدب والنقد العربي الإسلامي القديم .

    لا شك في كون مختلف الأجناس الأدبية ـ شعرية كانت أم نثرية ـ تلامس جنس السيرة الذاتية ، فهي تحمل من هويتها وملامحها، ومن روحها وظلالها الشيء الكثير، فكاتب القصة مثلا، أو المقالة، أو الرواية، أو القصيدة، يتمثل ذاته من خلال ما ينتجه بشكل أو بآخر، وهذا دليل راسخ الأركان ، يزكي تأكيدنا على أن جميع الأجناس الأدبية ما هي إلا فضاءات تحايلية، وتجليات إبداعية ، يحاور بها الكاتب ذاته ليعيها حق الوعي، ومن ثم تتسع دائرة التعبير الخاصة بأدب السيرة الذاتية .

    أمام هذه المعطيات والحقائق، لا يمكن للباحث إلا أن يتساءل بشأن أمور كثيرة، ولا يسعه إلا أن يحاول الإجابة على ما يصادفه من أسئلة اجتهادا منه، و ذلك إسهاما منه في التنظير لأدب السيرة الذاتية، وإغناء الحوار الثقافي حول هذا اللون من التعبير المميز، على أمل أن تتكامل جهود الباحثين و المهتمين بدراسته في سبيل التوصل مستقبلا إلى إجابات مبنية على أساس علمي دقيق، لأن الوقوف على حقيقة جنس السيرة الذاتية وحدوده الإبداعية غاية لا بد منها .

    ومن هذا المنطلق نؤكد على ضرورة إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية، لا سيما إذا علمنا بوجود من حاول مجتهدا ـ بين المحدثين من نقاد هذا الأدب ـ وضع تعريف لهذا الضرب من الإبداع، بينما تجنب البعض الخوض في مسألة التعريف، وانصرف يدرس جملة من القضايا المرتبطة بأدب السيرة الذاتية.

    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مظهرا من مظاهر التعبير الحكائي، فهو ليس كيانا غريبا عن أدب الرواية ، خاصة و أن الخطاب الروائي في العالم العربي الإسلامي يقدم لنا تاريخا للذات العربية المسلمة ، مما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث سمة ملازمة للسرد الروائي الحديث، والملاحظ أن الكاتب العربيالمسلم هو في حاجة بالغة اليوم، و أكثر من أي زمن مضى، إلى كتابة تاريخه الخاص، و تدوين سيرة الأمة أو تاريخ الذات الجماعية من خلال ذلك التاريخ، وبسبب هذا النزوع الواعي يلامس ـ في الغالب ـ منحى أدب السيرة الذاتية المنحى التاريخي، وعلى الأرجح يتضح جليا ذلك التجاذب القائم بين الخطاب الروائي وخطاب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، الذي يوحي في بعض الأحيان ببلوغه درجة التماهي، التي تصير معها الكتابة الروائية و كأنها وسيلة للتأريخ الضمني لما هو ذاتي، وجماعي، وموضوعي .

    وبإلقاء نظرة على تاريخ الظواهر الأدبية في العالم العربي الإسلامي ، سنجزم بكون أدب السيرة الذاتية متأصل فيه منذ زمن بعيد ، بخلاف الفن الروائي الذي عرف نهضته القوية وتطوره السريع في العالم الغربي، مع صعود الطبقة البورجوازية، التي عبرت به عن كيانها، وذلك قبل أن يتحول إلى أدب مطروق لدى مختلف الطبقات الاجتماعية، وعلى الرغم من التأثير الغربي، فإن الكتابات الروائية العربية ظلت موسومة بروح السيرة الذاتية، وهذا لا يعني أن هذا التوجه في الكتابة الأدبية ينفرد به المؤلفون العرب وحدهم في العصر الحديث؛ بل حتى كتاب الرواية الأجانب نهجوا هذا المنحى في التأليف .

    إن المثير حقا في أمر التجربتين السرديتين : العربية والأجنبية ـ خاصة الغربية ـ هي هذه العودة إلى قراءة الذات واقتفاء أثر التجارب الفردية الماضية، إذ في الوقت الذي نجد فيه الرواية العربية ما تزال من النمط الذاتي الشخصي، نرى الكثير من الكتاب الغربيين يستهلون مسيرتهم الإبداعية بكتابة الرواية، وبعد ذلك ينصرفون إلى تأليف سيرتهم الذاتية، وهذه الظاهرة تبعث على الاعتقاد في كون الكتابة الروائية لم تعد تستجيب لطموح الكاتب الغربي وقوة رغبته في التعبير، ربما لأن الذات الغربية الكاتبة أدركت بأن هذا اللون من الإنتاج الأدبي ليس بإمكانه استيعاب حياتها الفردية، وأهم ما تريد أن تفضي به إلى الآخرين، مما جعلها تعمد إلى كتابة السيرة الذاتية، بهدف إشباع رغبتها في الإفصاح أكثر، وتحقيق تواصل مكثف وفاعل مع القراء.

    ولعل أهم الأخطاء التي أوقعت عددا من المؤلفين العرب، اختزلته الكتابة انطلاقا من أفق غريب عن الذات العربية المسلمة، والذي تجسد في هاجس الكونية أو العالمية ، خاصة عندما صار بؤرة اهتمام لدى طائفة من الكتاب في العالم العربي الإسلامي، الذين حاولوا تهميش أدب السيرة الذاتية لصالح الكتابة الروائية، اعتقادا منهم في سلامة هذا النهج، وطمعا في أن يرقى أدبهم إلى مستوى العالمية، وأن يتخذ سمة إنسانية كونية ، فأضاعوا باختيارهم هذا المنحى الطريق إلى المحلية والعالمية معا، في حين كان عليهم أن يحققوا ويحفظوا لأدبهم هاتين الخاصيتين من خلال الاهتمام بأدب السيرة الذاتية.

    فهل عرفت الرواية العربية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية ؟ ثم هل ما نلاحظه من تصوير الكتاب العرب حديثا لحياتهم باعتماد الصياغة الروائية دليل على اقتدائهم بالكتاب الغربيين في هذا النهج؟

    ثم هل الرواية العربية الإسلامية ـ كما الرواية المغربية ـ مرشحة للبحث والدرس النظري والتطبيقي من زاوية أدب السيرة الذاتية، الذي يسود فيها حيزا كبيرا؟ أم أنها بلغت سن الرشد حقا، والمتمثل من جهة في تقلص درجة التطابق والتماهي ما بين الكاتب وأبطاله في الرواية، وفي تراجع المكون الواقعي الذاتي من جهة ثانية؟

    ثم إننا نطرح سؤالا آخر حول مدى صحة الاعتقاد في كون الكتاب العرب المسلمين يستهلون مسيرة كتاباتهم الأدبية بتأليف سيرهم الذاتية، التي يتخذونهاجسرا يبلغون به كتابة الرواية، بخلاف الكتاب الغربيين ، الذين يبدؤون بالكتابة الروائية ليعبروا من خلالها إلى كتابة سيرتهم الذاتية؟

    إن ظاهرة التحول من كتابة السيرة الذاتية إلى الكتابة الروائية في العالم العربي الإسلامي، سجلت حضورها ابتداء من منتصف القرن العشرين، لكن هذا التحول لم يعرفه جميع الكتاب؛ بل إن عددا منهم هو الذي خاض هذه التجربة، وتحديدا أولئك الذين مارسوا الكتابة الروائية تقليدا، واتخذوا من تجاربهم الذاتية، ومن التقاليد الخاصة بكتابة السيرة الذاتية أو التي تسم أحد مكوناتها الكبرى: مذكرات، أو ذكريات، أو اعترافات مادة وصياغة روائية، وهذه إشارة دالة تجعلنا نتساءل من جهة حول مستقبل الكتابة الروائية العربية الإسلامية؟ وعن مدى إمكانية تحولها إلى قناع يتستر خلفه وجه السيرة الذاتية؟

    ومن جهة ثانية يبعثنا على السؤال عما إذا كان عمق الجدلية القائمة بين الرواية والسيرة الذاتية دليل على عودة قوية ومرتقبة لأدب السيرة الذاتية إلى الواجهة الإبداعية والنقدية؟ ثم ألا يستحق أدب السيرة الذاتية أن يكون الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير الإنساني في العصر الحديث؟

    إن ما نراه في أفق الإبداع الأدبي على صعيد العالم العربي الإسلامي الحديث، هو تلك العودة المرتقبة والقوية لأدب السيرة الذاتية عموما والإسلامية بوجه خاص، ورؤيتنا هذه ليست نابعة من فراغ؛ بل هي مبنية على معطيات جد هامة وجلية، نستطيع إجمالها في كون تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية سجل انبعاثا قويا في عدة ظروف ومحطات تاريخية متأزمة ومضطربة، وإن كانت متقطعة وغير متواصلة.
    ونحن نعتقد أن هذا اللون من التعبير الأدبي في العصر الحديث قد سجل منذ زمن بوادر عودته القوية، التي واكبت الضربات الأولى المتوالية على العالم العربي الإسلامي، والتي كان من أبرز نتائجها ومظاهرها انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وإذا كان معظم النقاد اليوم يجمعون على ندرة السير الذاتية العربية الإسلامية، فذلك لأنهم قليلا ما يصادفون سيرا ذاتية صريحة وغير مقنعة، يبرم فيها أصحابها مواثيق واضحة مع القراء.
    لكن هذا لا يعني في شيء ريادة الشعر أو غلبة الرواية في العصر الحديث، وإنما الريادة الحـقة والغلبة المؤكـدة ـ تبعا لما نعتقده ونذهب إليه من اجتهاد في الرؤية ـ هي لأدب السيرة الذاتية، وإن كان يحتفل بنفسه بين التجلي حينا والخفاء في كثير من الأحيان، وذلك على امتداد الكتابة الإبداعية شعرها ونثرها، وهذه حقيقة قليلا ما ينتبه إليها دارسو الأدب العربي الإسلامي والباحثون فيه.

    إن العصر الأدبي الحديث ـ خاصة في البلاد العربية الإسلامية ـ هو عصر أدب السيرة الذاتية بامتياز كبير، إذ أن ما يميز هذا العصر من نماء الروح العلمية، التي لا تخلو في الغالب من أي دراسة، يجعل السيرة الذاتية أقرب الأجناس الأدبية إلى هذه الروح من حيث قوة النزوع إلى البحث عن الحقيقة الإنسانية والتاريخية.

    فهل نستطيع القول بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة صار يمثل ديوان العرب وغير العرب المسلمين؟ وأن أدب السيرة الذاتية بوجه عام أضحى ذلك الأفق المفتوح، الذي يحتضن كل ضروب الإبداع الأدبي، ويستقي منها الكثير من الخصائص والسمات؟

    هذا مقال آخر/ حلقة أدبية نقدية من سلسلة مقالات جد مركزة حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية على المستوى الخاص، وحول جنس أدب السيرة الذاتية بوجه عام، وما هي إلا جملة من الكتابات النقدية الهادفة إلى دعوة ذوي العناية الأدبية والاهتمام النقدي بقصد إسهامهم في إعادة تمام الاعتبار لأدب السيرة الذاتية، ومنح هذا الضرب من الأدب نثره وشعره حق قدره، فهل ثمة في الأفق القريب من أقلام إبداعية نقدية وثابة متحمسة لما ندعو إليه صادقين؟
    د. أبو شامة المغربي
    الرباط .. المملكة المغربية
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 22/02/2006 الساعة 06:55 PM سبب آخر: ضبط الإخراج ...
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ما هي السيرة الذاتية لـ ( أ.د محمود حسني مغالسة)
    بواسطة رائد المعاضيدي في المنتدى سؤال
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/08/2010, 07:45 PM
  2. أدب السيرة الذاتية بين الشعر والنثر
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 210
    آخر مشاركة: 20/09/2009, 08:40 PM
  3. لمحات في أدب السيرة الذاتية
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/03/2008, 05:28 PM
  4. خطاب السيرة الذاتية فى نوار عين الصقر
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28/02/2008, 05:10 AM
  5. وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/03/2006, 10:25 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •