في المسألة قولان


بقلم
أ.د. بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو المجلس العالمي للغة العربية



هذا مثل مشهور بين العلماء و الأدباء وكثير من الناس, يقولونه حين يختلفون في الرأي , وحين يتعارضون في الاجتهاد, وحسماً للجدال بينهم يقولون :
" في المسألة قولان".


ولعلي أهدف من مقالي هذا أن يكون نصب عين كل أستاذ في جامعة ، أومعلم في مدرسة ، أو مجادل في موضوع أدبي ، أو مفت في قضية .. وحينئذ ينتهي الخلاف , ويفرح كل مجادل , ويسود الود , وتصفو القلوب , وتتصافى النفوس .



أصل هذا المثال - كما يذكرون – يعود إلى جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة :
كان في الأزهر عالم كبير , يحبه طلبته , ويعجبون به كل الإعجاب , يتكلم لهم في التفسير ، والفقه ، والأصول ، والحديث ، وفي مختلف الفنون والعلوم ، فيبهرهم ، ويملأ قلوبهم حباً وتعلقاً به وإعجاباً . فكانوا يسألونه : من أين أتيت بهذا العلم الغزير, فيقول لهم :أخذته من والدي ـ حفظه الله ـ وهكذا كان السؤال يتكرر, وكذلك الجواب 000


وفي يوم من الأيام كتب الوالد لولده رسالة : لقد اشتقت إليك يا ولدي, وأنوي أن أزورك في القاهرة , وكان الولد يعلم أن أباه رجل أمي , جاهل , ليس له في العلم شيء أبداً.. وخشي أن يفتضح أمره بين طلابه ، كما عرف أن طلابه سوف يزورونه في المنزل ويسلمون على أبيه . حينئذٍ قرر أن يعلِّمه يوم وصوله جملة
(في المسألة قولان )
وطلب منه أن يكررها كلما سأله سائل ، ومهما كان السؤال .


وجاء الوالد القاهرة ، وسمع الأولاد أن والد شيخهم قد جاء .. فذهبوا يسلمون عليه .. و بدأوا يسألونه ، ويمطرونه بالأسئلة .. فكان يردد ما علمه ابنه
( فـي المسألة قولان ) كلما سأله أحدهم ، فشك بعض الخبثاء في علم الوالد ، فسأله : ( أفي الله شك ؟ ) فقال الوالد: في مسألة قولان 0 وقهقه الطلاب من الجواب .. فقام الولد العالم وقال : نعم ! في المسألة قولان : فأنت يمكنك أن تعرب (في المسألة) جاراً ومجروراً في محل رفع خبر مقدم .. كما يمكنك أن تقول : الجار والمجرور نفسهما خبر مقدم 00أليس في المسألة ـ كما قال الوالد الكريم - قولان ؟



أذكر– فيما اذكر- أني في منتصف القرن الميلادي السابق كنت في السنة الأخيرة طالباً في كلية الآداب بالجامعة السورية بدمشق .. وقتها استقدمت ورئاسة الجامعة أكبر أستاذ في فرنسا ، ومن كبار المستشرقين ، وعميد الأدب العربي في (الكوليج دي فرانس College de France) هو ريجي بلاشير Regis Blachaireوهو مؤلف لكتاب (تاريخ الأدب العربي) و مترجم معاني القرآن إلى اللغة الفرنسية .
طلبت رئاسة جامعتنا منه أن يشرف على عدد من رسائل الطلاب الجامعية ؛ ليتعلموا على يديه أسلوب التأليف و الكتابة و التفكير .. ومن حسن الحظ كنت أحد المرشحين ، لأكتب رسالتي الجامعية تحت إشرافه .
والطريف الذي ما زلت أذكره أن تفكيري في عنوان الرسالة كان تفكيراً صبيانياً00قلت في نفسي :إن أستاذنا الفرنسي متخصص في تاريخ الأدب العربي , وفي ترجمة معاني القران الكريم ليس إلا 00إذن فَلْْيكنْ موضوعي بعيداً كل البعد عن تخصصاته ، وحينئذٍ أكتب ما أشاء على راحتي .
وقررت أن يكون موضوعي عن كتاب (طوْقُ الحَمامة في الأُلْفَة والأُلاف )لابن حزم الأندلسي .
وجاء دوري في الدخول عليه ؛ لآخذ موافقته على الموضوع ، وذكرت له أني أود دراسة شخصية ابن حزم من خلال طوق الحمامة . وأن محاور دراستي ثلاثة : المحور الأول يدور حول نشأته , والثاني حول غزله ، والثالث حول تحليل شخصيته من خلال كتابه هذا .
قال بلاشير :
لقد قذفتني بعيداً عن تخصصاتي وميولي00ولكنني لا أعترض على موضوعك ، ما دام هو الذي يدور في خلدك , وهو الذي تفضل الكتابة فيه0
ثم قال: هل قرأت من قبل شيئاً عن ابن حزم ؟ وما هي مصادرك التي سوف تعتمد عليها ؟
أجبت بكل ثقة واعتداد : عندي كتابان مهمان عن ابن حزم ، أولهما : ألفه أستاذنا سعيد الأفغاني ، والثاني : كتبه العلامة أبو زهرة المصري 0
قال بلاشير : حسن جداً هذا , و لكن هل عندك غيرهما ؟
قلت : لا .. أو لا يكفياني ؟
قال بلاشير : لقد كتب علماء الغرب كثيراً عن ابن حزم 00وأ ذكر- فيـما أذكر – .. وهنا أخذت أسجل ما سوف يقول– : أن زميلنا الإسباني غارسيا كومــــــــــــيز


Garcia Gomeizكتب كثيراً من المقالات عن ابن حزم , ومن الفرنسيين كتب فلان وفلان , ومن الألمان كتب فلان وفلان .. وامتلأت الصفحة الأولى بالأسماء ، ولحقتها الثانية ، فالثالثة ، وكادت تمتلئ الرابعة .. فقلت في نفسي : هذا غير متخصص في الأدب الأندلسي 000وأملى عليَّ أربع صفحات ، فكيف لو كان متخصصاً ؟

وختم حديثه بقوله :
لا بُــدَّ يا ولدي من قراءة ما كتب العلماء الغربيون ، وتصنيف أقوالهم إلى جانب أقوال العلماء العرب ، وتميز الحق من غير الحق.. وتكتب رسالتك في آخر الأمر .
قلت له :
أنا لا أعرف اللغة الأسبانية ، ولا اللغة الألمانية ، فكيف أقرأ ما كُتب فيهما
قال بلاشير :
معك من أبنائي الفرنسيين الذين هم اليوم في صفك ، جاءا معي ، ليتعلما اللغة الدارجة الشامية ، وهما : جيرار تروبو GirardTroupeauوأندري ميكيل AndreMickel.. وسأطلب منهما أن يترجما لك ما تريد000
قلت : وأين أجد هذه الكتابات؟
قال : تجد معظمها في المعهد العربي الفرنسي بدمشق .. الذي يعمل فيه أستاذكم الدكتور سامي الدهان ، وفي المعهد كل المجلات العلمية الأوربية ، والصادرة في كل اللغات0
وخرجت أجر قدمي , وألعن السنة التي قادتني إلى هذا العملاق العلمي الرهيب .. واتفقت مع جيرار تروبو على أن أعلمه العامية الشامية ، و يترجم لي من الإسبانية والألمانية ما أحتاج إليه000
ورحت أكتب الفصل ، وأقرأه على أستاذي ليوجهني ، ويقول لي رأيه فيه00 وكان كلما قرأت عليه فصلاً هز رأسه وقال لي : تابع .. وانتهيت من الفصل الأخير ، والقراءة عليه , وحينئذ أمرني أن أطبع الرسالة , و تلك علامة الموافقة والنجاح . وطبعت الرسالة على الآلة الكاتبة ، وقدمتها إليه ، فكتب في الصفحة الأولى العبارة التالية : قرأ السيد بكري شيخ أمين عليَّ كل ما كتبه عن شخصية ابن حزم الأندلسي ، وأنا أخالفه في أكثر ما ذهب إ ليه ، وأمنحه درجة الامتياز بالنجاح0 التوقيع : ريجي بلاشير

قرأت ما سجل أستاذي في الصفحة الأولى ، فاستشطت غضباً وغيظاً ، ولم أفرح بدرجة (الامتياز) ، وقلت بلهجه فيها شيء من الحدة : هل كنت ـ يا أستاذ ـ تسخر مني حين كنت تهز رأسك ، وتقول لي : تابع ؟؟ لماذا لم تقل لي : إني أخالفك في الرأي ؟؟ لماذا لم تُبْدِ لي رأيك ؟ ؟ لماذا ؟ لماذا ؟؟
كان بلاشير يسمع كلامي ، ويهز رأسه ، وينتظرني أن يسكت عني الغضب .. فقال: يا ولدي ! يا بكري ! أنت طالب ، ممتاز , مجتهد حقًاً 000لقد قال الآخرون رأيهم فكتبوه لتقرأه أنت وغيرك 000وما الذي يدريني أن رأيك الذي كتبته أنت هو الصواب , ورأيهم هو الخطأ ؟ وتابع يقول : لو قلت لك رأيي فنقلته حرفياً , ونقلت ما قال الآخرون حرفياً ... لم نستفد من العلم شيئاً .. بل لم يتقدم العلم برسالتك أنملة واحدة إلى أمام .. سيأتي في يوم من الأيام قارئ بعدي ، وبعدك ، وسيقرأ ما كتبت أنا أو العلماء الآخرون ، وما كتبت أنت .. فقد يأخذ بقولي ، أو قد يأخذ بقولك00أو يكون وسطاً .. يأخذ مني شيئاً ومنك شيئاً 000وهكذا يتقدم العلم , وتنشأ الفكرة الجديدة 00لا هي فكرتك ، ولا هي فكرتي 000
وانتهى إلى القول :
أحذر يا بني ! أن تقسر أحداً على فكرتك أنت , فيكون صورة ثانية منك 00لا شخصية له ، ولا عنوان .. اترك للفكر الجديد أن ينطلق , وأن ينا قش , وأن يقول ما يعتقد00
يا بني ! انظر إلى كتب العلماء 00كم هي متباينة الاتجاهات .. وانظر إلى الأفكار المطروحة فيها .. كم هي مختلفة.. كلهم علماء .... كلهم مجتهدون ... وهم عماد النهضة ، وزينة العلم والحياة..
وأضاف يقول :
يا بني ! ليس لك في العالم الفكري ، والأدبي ، بل الإنساني ، أن تقول : إن هذا لا يكون إلا كذا ، ولا يصح إلا كذا .. إياك ! ثم إياك ! أن تكتب ما يشير إلى رأيك وحده بالإستبداد .. بل قل دائماً : يخيل إليَّ.. يبدو لي ..كأن الأمر كذا000 وبذلك تتيح للآخر أن يظهر و يناقش... أو لم يقل عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يختلفون ، لأنه لو كان قولهم قولاً واحداً لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول أي منهم كان سنة .. بل ألم يقل النبي الكريم : اختلاف أمتي رحمة ؟ وفي القرآن الكريم :


" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ......." 118-119 يوسف

وهنا سالت الدموع من عيني ، وأدركت كم كنت تافهاً يوم صرخت في وجه أستاذي ، وحملت عليه !! وتذكرت صحة المثل الشائع :
(في المسألة قولان) .
حلب المحروسة
12/1/2010م
بكري شيخ أمين