إنها مصر الأخرى – فهمي هويدي

قلَّب علينا الشيخ سلطان القاسمى المواجع حين تحدث عن مصر التى عرفها قبل نصف قرن.
كان حاكم إمارة الشارقة يتحدث فى الحفل الذى أقامته دار «الشروق» أمس الأول (١٥/٣) بمناسبة إصدار كتابه «سرد الذات»، الذى تحدث فيه عن رحلة حياته، التى قضى شطرا منها فى مصر، حين التحق طالبا بكلية الزراعة فى جامعة القاهرة،

أثار الشيخ دهشتنا حين تطرق إلى الأماكن، التى تردد عليها وقتذاك، لكى يتعرف على ناس مصر، ولاحظنا أنه لا يزال يتذكر أسماء بسطاء الناس، الذين اعتبروه واحدا منهم، كما لا يزال يتذكر أسماء الأحياء والشورارع والحوارى والمقاهى والأسواق وخطوط الترام وأرقام حافلات الركاب، كأنما خريطة قاهرة الخمسينيات ما زالت حية فى ذاكرته بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.
من أهم ما ذكره أنه حين درس بالمجان فى جامعة القاهرة، لم ينس أنه أخذ مكان طالب مصرى آخر كان يمكن أن يمنح تلك الفرصة،
كما روى أنه أثناء دراسته بمصر كانت فى إمارة الشارقة بعثة تعليمية مصرية تقوم بالتدريس بمدارسها، وكان هؤلاء يتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة من خزينة الدولة المصرية، التى كانت تعانى وقتذاك من شح النقد الأجنبى،
واعتبر الشيخ سلطان أن فى رقبته دينا لا ينساه للدولة المصرية، ولكلية الزراعة التى تعلم فيه، وأنه مهما أسهم أو قدم لن يوفى ذلك الدين حقه.
هذا الذى قاله الشيخ سلطان يسمعه أى زائر مصرى من أبناء جيله فى مختلف الأقطار العربية، حيث لم تكن إمارة الشارقة استثناء، بل لم تكن قد وجدت لها مكانا على الخريطة العربية وقتذاك، وقد حدثنى بعض الأصدقاء اليمنيين عن الدهشة، التى انتابتهم حين كانوا يصادفون المدرسين المصرين فى قراهم الصغيرة المنتشرة فوق قمم جبالهم الشاهقة. إذا كانوا يستغربون وجودهم فى مدارس تلك القرى، كما كانوا يستغربون قدرتهم على الاستمرار هناك واحتمال الحياة الصعبة والقاسية التى يعيش فى ظلها الناس.
هنا الصورة تكررت فى العديد من الأقطار العربية، لكنها انمحت ليس فقط من ذاكرة الأجيال الجديدة فى تلك الأقطار، وإنما أيضا من ذاكرة المصريين الجدد أنفسهم، أولئك الذين نسوا أن مصر كبرت فى ذلك الزمن ليس بسبب الخطب الرنانة ولا لأنها فازت بكأس فى مسابقات كرة القدم، لكنها كبرت بسبب تلك الممارسات، التى تصرفت مصر من خلالها باعتبارها شقيقة كبرى وبلدا رائدا ليس فقط فى مجالات المعرفة والثقافة والفنون، لكنها كانت رائدا أيضا فى التعبير فى العزة والكرامة وفى السعى إلى انتزاع الاستقلال والخلاص من الاستعمار.
قبل حين التقيت أحد المناضلين التونسيين الذى ما أن رأنى حتى راح يستعيد ذكرياته فى مصر، وانطباعاته عن المدرسين المصريين، الذين تعلم على أيديهم، وقال إن التونسيين كانوا يظنون أن كل المصريين مسلمون، وبسبب الاحتلال الفرنسى لبلادهم فإنهم اعتبروا أن استعمار بلادهم جزء من الحروب الصليبية، ومن ثم شاع بينهم شعور بالكراهية لأولئك الصليبيين الغزاة، وامتد ذلك الشعور ليشمل كل «النصارى».
وقد اندهش التونسيون حين وجدوا بين المعلمين المصريين واحدا مسيحيا، وعاملوه معاملة سيئة، ليس فقط لأنه كذلك، ولكن لأنهم ظنوا أنه كان مسلما كسائر المصريين ثم ارتد دينه، ولم يغفروا له ذلك إلا حين أقنعهم بقية أعضاء البعثة التعليمية المصرية بأن المسلمين والمسيحيين يعيشون جنبا إلى جنب فى مصر، وأن الرجل من أسرة قبطية أصيلة فى مصر.
بعدما روى صاحبنا القصة ضاحكا، سكت لحظة ثم قال:
هل يعقل أن تكون مصر التى أرسلت إلينا المعلمين والأساتذة يوما ما، لم تعد ترسل إلينا الآن سوى ضباط مباحث أمن الدولة، الذين يشتركون فى التحقيقات التى تجرى مع ناشطى الجماعات الإسلامية،
فاجأتنى الملاحظة، التى كنت قد سمعتها من بعض مثقفى إحدى الدول الخليجية، فتمتمت قائلا بصوت كسير:
للأسف تلك مصر أخرى غير التى عاصرها جيلنا.

http://fahmyhoweidy.blogspot.com/201...g-post_17.html