أدب الأطفال والتربية الإبداعية

للأدب تأثير كبير على لغة الأطفال وتفكيرهم وسماتهم النفسية والشخصية ، ومن الأهمية بمكان أن يتعرض الطفل منذ الطفولة المبكرة للنماذج الأدبية المختلفة ؛ لكي يتشكل لديه الحس والذوق الأدبي الفني .. ففي البداية يسمع الطفل الأنشودة والقصة من الوالدين ومعلمة الروضة ، وبعد أن يتعلم القراءة ، يقرأ بنفسه ما يختار من القصص والأناشيد والمجلات وغيرها .
وتلعب المدرسة بما فيها من إدارة ومعلمين ومرشدين تربويين ونفسيين دوراً مهماً في الكشف عن طاقات الطفل الإبداعية ، وتشكيلها ، وتنميتها ، ويمكننا أن نقول في هذا السياق إن الإبداع من أنواع السلوك التي يمكن أن يتعلمها الفرد . وهنا يجب أن نؤكد أهمية وجود المعلم المبدع ( أو على الأقل المقدر للإبداع ) ، فإذا لم يكن المعلم نفسه مفكراً مبدعاً مجدداً ، فكيف نتأمل منه الكشف عن الطلاب المبدعين ورعايتهم ؟
ويقصد بالتربية الإبداعية أن توجه التربية اهتمامها وأساليبها وأنشطتها ونتائجها إلى مجال الإبداع ، مع مراعاة خصائص وإمكانيات ومقومات كل من التربية وعمليات الإبداع ودورها بالنسبة للفرد والمجتمع ، أي أنها هي التربية في مجال الإبداع ، وما يمكن أن يحدث بينهما من تفاعل ونشاط إيجابي متميز ، مع توظيف خصائص الإبداع ومقوماته لإثراء حياة الفرد والمجتمع الحاضرة والمستقبلية ، وتنميتها ، وتطويرها لمواجهة ما يطرأ عليها من متغيرات ومواقف ومتطلبات ، بأفضل صورة ممكنة . ( 1 )
وأدب الأطفال كـ : "خبرة لغوية في شكل فني ، يبدعه الفنان ، وبخاصة للأطفال فيما بين الثانية والثانية عشرة أو أكثر قليلاً ، يعيشونه ويتفاعلون معه ، فيمنحهم المتعة والتسلية ، ويدخل على قلوبهم البهجة والمرح ، وينمي فيهم الإحساس بالجمال وتذوقه ، ويقوي تقديرهم للخير ومحبته ، ويطلق العنان لخيالاتهم وطاقاتهم الإبداعية ، ويبني فيهم الإنسان . كما يعرف أدب الأطفال بأنه شكل من أشكال التعبير الأدبي ، له قواعده ومناهجه ، سواء منها ما يتصل بلغته وتوافقها مع قاموس الطفل ، ومع الحصيلة الأسلوبية للسن التي يؤلف لها ، أم ما يتصل بمضمونه ومناسبته لكل مرحلة من مراحل الطفولة ، أم يتصل بقضايا الذوق وطرائق التكنيك في صوغ القصة ، أو في فن الحكاية للقصة المسموعة . ( 2 )
وأدب الأطفال في مجموعه هو : " الآثار الفنية التي تصور أفكاراً وأحاسيس وأخيلة تتفق ومدارك الأطفال وتتخذ أشكال القصة والمسرحية والمقالة والأغنية " ( 3 )
والقول عن الأدب بأنه " الآثار الفنية التي تصور أفكاراً وأحاسيس وأخيلة " قد ينطبق على الأدب عامة - الموجه للصغار والكبار على السواء - ولكن قول الهيتي بوجوب ملاءمة تلك الآثار الفنية لمدارك الأطفال ، أو ضرورة ملاءمة مضامين تلك الآثار مع " قدرات الأطفال العقلية والخيالية والعاطفية " ، هذا التحديد يشير إلى اختلاف أدب الأطفال وتميزه عن أدب الكبار بسبب اختلاف جمهور المتلقين الصغار وخصائصهم .
وفي ضوء ما سبق ، يمكن أن نجد لأدب الأطفال في المرحلة العمرية التي يدور الحديث حولها ، مفهومين رئيسيين :
أدب الأطفال بمعناه العام : وهو يعني الإنتاج العقلي المدون في كتب موجهة لهؤلاء الأطفال في شتى فروع المعرفة ؛ مثل : كتب الأطفال العلمية المبسطة ، والمصورة ، وكتبهم الإعلامية ، ودوائر المعارف الموجهة إلى الأطفال .
أدب الأطفال بمعناه الخاص : وهو يعني الكلام الجيد الذي يحدث في نفوس هؤلاء الأطفال متعة فنية سواء أكان شعراً أم نثراً ، وسواء أكان شفوياً بالكلام ، أم تحريرياً بالكتابة ؛ مثل قصص الأطفال ومسرحياتهم وأناشيدهم وأغانيهم وما إلى ذلك .
ومما تجدر الإشارة إليه أننا عندما نتحدث عن الكتب ، إنما نقصد إلى معناها الواسع ، بحيث تضم : المقروء ، والمسموع ، والمرئي ، تمشياً مع مقومات التقدم التقني المعاصر .
"ويرى بعض الباحثين ، أهمية التمييز بين النتاج الفكري عن الطفولة والنتاج الأدبي الموجه لهم . وينادون بإعادة النظر بين هذين النتاجين . ويرون أن أدب الأطفال له آثاره الإيجابية في تكوينهم ، وبناء شخصياتهم وإعدادهم ليكونوا رواد الحياة .
والطفل هو الإنسان في أدق مراحله وأخطر أطواره ، ومن ثم فإن الاهتمام بالجانب الوجداني من حياة الطفل يتعين ألا يعلوه أي اهتمام آخر ، ويقوم أدب الطفل بوظائف التربية الجمالية والأخلاقية والنمو اللغوي ... الخ " يمكن القول إن غالبية الأدباء والباحثين الذين تطرقوا لقضية اللغة والأسلوب في أدب الأطفال ، يجمعون على ضرورة مراعاة لغة الطفل وقاموسه حسب مراحل العمر والنمو ، مع محاولة الارتقاء التدريجي لهذه اللغة ، وهذا بدوره ينعكس في الأمور التالية :
" على صعيد الألفاظ والتراكيب اللغوية – الدعوة لاستخدام الألفاظ والتراكيب السهلة ، وتجنب الغريبة غير المألوفة منها ، والإقلال من المفردات والتراكيب المجازية إلا ما جاء منها عفو الخاطر ، واللجوء إلى التكرار في الألفاظ والتعابير .
وعلى صعيد الجملة ، تركيبها ونحوها – استخدام الجمل القصيرة أو المتوسطة الطول ، وتجنب الجمل الطويلة المعقدة . استخدام الجمل والألفاظ الدالة على المعاني الحسية وتجنب المجرد المعنوي .
وعلى صعيد الأساليب – تحري الوضوح والجمال والدقة وتجنب الإسراف في الزركشة والزخرف والثراء اللغوي المتكلف ، وتجنب أسلوب التلميح والمجازات الغامضة الصعبة ، والاقتراب من خصائص " لغة الكلام " والاستفادة من أسلوب الراوي في الحكاية الشعبية الشفهية " ( 4 )
ويعتقد البعض أن الكتابة للأطفال أكثر مشقة من الكتابة للكبار ، بسبب الاشتراطات التربوية والثقافية التي يلتزم بها كاتب الأطفال ، وبسبب مراعاته للمستوى العقلي والنفسي للمتلقين.
ويمكن القول إن أدب الأطفال قد يكون كل عمل أدبي يكتب ابتداءً وخصيصاً للأطفال ، وقد يكون كذلك كل عملٍ أدبي يكتب ثم يقرأه الأطفال فيستسيغونه ، ويجدونه مادة أدبية مشوقة ومحببة لهم حتى ولو لم يقصد مؤلف ذلك العمل توجيهه أصلاً للأطفال .
وبالفعل ، هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي لم تكتب خصيصاً للأطفال ، ولكنها أصبحت مع مرور الزمن ، بعد تعديلها وملاءمتها ، من المواد الأدبية الشائقة والمحببة لدى القراء الصغار ، من بين تلك الأعمال نذكر رواية " روبنسون كروزو " للكاتب دانيال ديفو (1660-1731 ) ، والرواية الساخرة " رحلات جلفر " لجوناثان سويفت (1667-1745) . كذلك يدخل ضمن هذا الإنتاج الأدبي الذي أصبح جزءاً من أدب الأطفال ، الأساطير والحكايات الشعبية بعد تعديلها وملاءمتها للأطفال ، كحكايات وقصص " ألف ليلة وليلة " و" سيرة عنترة " وغيرهما . ( 5 )
يمكن لأدب الأطفال أن يدعم بقوة تربية الأطفال التربية الروحية الصحيحة ، التي تدعم بدورها بناء شخصية الفرد السوي ، الذي يتسم بالصفات التي تدعم الفكر والابتكار والإبداع ، فهو الإنسان القارئ ، المفكر المتأمل ، العامل الجاد ، الصابر المثابر ، المدقق الذي يتقن عمله ، الذي يطلب العلم طوال الحياة ، والذي يعيد النظر في أفكاره وأعماله بهدف تقييمها وتطويرها ، والذي يهتم بشؤون مجتمعه ومشكلاته، والذي تتسم تصرفاته بالموضوعية بعيداً عن الأهواء الشخصية .
ويمكن لأدب الأطفال أن يعدهم للحياة في عالم الغد ، بمتغيراته وتكنولوجياته المتقدمة . وأدب الأطفال العام والخاص بألوانه المختلفة ، يقدم هنا لخدمة الحياة في مناخ المستقبل : المادة المعرفية والمعلومات والمهارات والقيم ، ما يعين الأطفال على التكيف مع المستقبل ، والتحلي بالمرونة ، والتفكير العلمي ، والقدرات الابتكارية والإبداعية اللازمة لمواجهة المتغيرات الجديدة .
كما يقوم أدب الأطفال بدور مهم في إثراء لغة الطفل ، واللغة - كما رأينا- وثيقة الصلة بالتفكير . وتقوم القصص والمسرحيات والأغاني والأناشيد ، وغيرها من ألوان الإنتاج الأدبي ، بدعم القيم والصفات اللازمة لعمليات التفكير الإبداعي والابتكاري ، مثل : دقة الملاحظة ، والصبر والمثابرة ، والتفكير الجاد المستمر ، وتنمية الخيال ، والتفكير الناقد ... الخ . وألوان الإنتاج الأدبي المقدم للأطفال تصل إلى دعم هذه الصفات والقيم الإيجابية بوسائل شديدة الفعالية ، مثل : التقليد والقدوة ، الاستهواء ( وهو تقبل آراء الآخرين ممن يعجب بهم الطفل ويقدرهم من غير نقد أو مناقشة )، والانطباعات ، والاندماج ، والتعاطف الدرامي ، والتقمص ، وغيرها .
ويقدم أدب الأطفال قصص العلماء والمخترعين ، وأهل الإبداع ، ليتخذ الأطفال من حياتهم وسيرهم وتصرفاتهم نماذج وأمثلة تحتذى . كما يقدم أدب الأطفال أنماطاً للتفكير المستهدف ، ونماذج للتصرف السليم في مختلف المواقف ، ومن خلال تصرفات الأبطال الذين يعجب بهم الطفل ويقدرهم ، فيقلد تصرفاتهم ويتبنى أساليبهم من غير تردد ، على أن يكون هذا مما يخدم أساليب التفكير العلمي ، والتفكير الابتكاري والإبداعي .
وكتب الأطفال التي تقدم لهم أنشطة عملية وفكرية ، تقوم بدور مهم في القيام بعمليات التصنيف ، واكتشاف المختلف والمتشابه ، والتدرب على دقة الملاحظة ، وابتكار الحلول ، والخروج من المتاهة ، وإكمال الصور والرسوم ، وحل الأحاجي والألغاز وما إلى ذلك .
وأدب الأطفال في قصصه وبرامجه التلفزيونية والإذاعية وغيرها ، يتيح مواقف تستدعي من الأطفال: دقة الملاحظة والتأمل، والربط والتعليل، والاستنتاج، وحسن إدراك الأمور، وتشجع الرغبة في تفسير المسائل وحل المشاكل، وللقصص البوليسية دور في تنمية مهارات التفكير السابقة.
ويجب أن يستمتع الأطفال بالكتابة الإبداعية ( 6 ) ، ويجب أن تتاح لهم فرصة اختيار مواضيع وطرق الكتابة ، وعلى المعلمين أن يؤكدوا للطلاب أن القصة الجيدة تتطلب تتابعاً منطقياً وتسلسلاً حقيقيا ً؛ لذلك يجب أن يكون كاتب القصة عالماً بتفاصيل الأشياء التي يكتب عنها، وكذلك مدركاً وملماً بكثير من الأشياء التي حوله ، وفي عالمه .
قد يكون من الصعب على الطالب أن يدرك معنى " قصة "، فهو قد تعرض للعديد من القصص منذ الصغر ، سواء بالاستماع إليها أولاً ، ثم بقراءتها بنفسه ثانياً . وهو قد يدرك معنى القصة بطريقة حدسية في البداية . وبعد ذلك ينمو مفهوم القصة لديه من خلال قراءة القصص في الصف ، وبعد ذلك مناقشتها ، وهو أمر مهم جداً ، فإذا تمت عملية مناقشة القصة بطريق ناجحة ، فإن الطالب يبدأ بملاحظة أوجه الشبه والاختلاف بين الكتب ذات أساليب الكتابة المختلفة ، وكذلك ذات المحتوى المختلف ، ويبدأ بتشكيل فكرة عن الأساليب وأنماط البناء التي تتبعها القصة عادة .
ومناقشة القصة تكون من خلال تحليل عناصرها ( الشخصيات ، الزمان ، المكان ، الأحداث ، الفكرة المركزية والمغزى ، الأسلوب والألفاظ ) وكل ذلك بطريقة مبسطة تناسب المرحلة العمرية للطفل .
وقد يكتب القصة طالب واحد ، وقد يكتبها مجموعة من الطلاب ، أو طلاب الصف جميعهم ، وتسمى القصة في هذه الحالة " القصة الجماعية ".
مفهوم القصة الجماعية : هي القصة التي يقوم بتأليفها مجموعة من طلاب الصف أو جميعهم بمساعدة المعلم وإرشاده غير المباشر ، معتمدين في ذلك توارد الأفكار ، وقصف الأذهان وابتكار الكلمات ، التي تتم في بيئة اجتماعية تخلق فيها فعاليات التعلم والأنشطة المتنوعة داخل الصف بشكل جماعي وتعاوني مكمل .
إن الكشف عن الأطفال المبدعين ورعايتهم ، ليس بالأمر السهل ، بل أمر يحتاج إلى تخطيط تربوي ، وحشد هائل للطاقات المادية والبشرية .
وتقع على عاتق الأسرة والمدرسة كمؤسستين تربويتين مسؤولية احتضان الأطفال ورعايتهم ، والبحث باستمرار عن القدرات الكامنة فيهم ، وجعلها تظهر في أعمال إبداعية تعبر عن أفكارهم ومشاعرهم .
ويجب أن تتوفر للطفل البيئة المساندة للإبداع ، ومن ميزات هذه البيئة أنها داعمة لشخصية الطفل ، فهي تقدره لذاته وتوفر له الأمن النفسي الذي يستطيع في ظله أن يعبر عن أفكاره بحرية ، وأن يظهر أعماله الإبداعية ، ومن ميزات البيئة المساندة أيضاً أنها داعمة للقراءة ، والمقصود هنا قراءة أدب الأطفال الذي يقوم بوظائف التربية الجمالية والأخلاقية والنمو اللغوي .
وهناك علاقة جدلية بين القراءة ومفهوم الإبداع ، فالقراءة تدفع الأطفال للإبداع ، الذي بدوره يزودهم بالثقة بالنفس ، وبطرق ذات معنى لاستخدام اللغة ، وأخيراً يشجعهم على القراءة أكثر ، وهكذا تبدأ الدائرة من جديد .
والكتب المدرسية جزء من أدب الأطفال ، فهي نتاج عقلي مدون في كتب موجهة للأطفال ، ولذلك عليها أن تراعي الخصائص العقلية والنفسية لهم . ويجب أن تشتمل الكتب المدرسية على الكثير من النماذج الأدبية الشائقة والجميلة ( القديمة والحديثة ) التي تمتع نفس الطفل بقراءتها ، وتنمي ثروته اللغوية ، وتوسع آفاقه الفكرية ، وتجعله يتصل فكرياً وعاطفياً بأفراد الشعوب الأخرى ، فيخلق لنفسه أصدقاء من الكتاب ، وأصدقاء خياليين من شخصيات القصص .
وعندما يقرأ الطفل كثيراً، ويتذوق فنياً النصوص التي يقرأها ، تتغذى ميوله وقدراته الإبداعية ، وقد يصبح راغباًً في الكتابة بنفسه ، وهنا يأتي دور الوالدين لتشجيعه ، ودور المعلم في المدرسة ليأخذ بيده ويدربه على الكتابة . وعلى المدرسة أن تضع خططاً لتدريب الطلاب على الكتابة الإبداعية ، فلا يبقى الأمر خاضعاً للصدفة ، ومزاج المعلم ، وفسحة الوقت .

--------------------------------------
( 1 ) أحمد نجيب ، ( أدب الأطفال علم وفن ) ـ القاهرة - دار الفكر العربي .
( 2 ) رافع يحيى ، ( تأثير ألف ليلة وليلة على أدب الأطفال العربي ) ـ حيفا : دار الهدى للطباعة والنشر .
( 3 ) محمود أبو فنة ، ( القصة الواقعية للأطفال في أدب سليم خوري ) ـ حيفا : دار الهدى للطباعة والنشر .
( 4 ) و ( 5 ) المرجع السابق .
( 6 ) ( أدب الأطفال والتربية الإبداعية ) للكاتبة : سناء العطاري ( معلمة ومرشدة اللغة العربية ) .